أسرار الصلاة

محاضرات سماحة آية الله‌ الحاج الشيخ محمّد جواد فاضل اللنكراني (دام ظلّه)

نشر: مركز فقه الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام


المقدّمة

تحظى الصّلاة، من بين العبادات بأهميّة خاصّة، وتعدّ أفضل طريق وأكثره تأثيرا للوصول إلى الحقّ تعالى، فالصّلاة إقرار بالتوحيد واعتراف بعظمة وجلال الباري تعالى ومالكيّته يوم الجزاء والثواب، والصّلاة هي تنزيه الله‌ تعالى من كلّ نقص وعيب وتتضمّن جميع مظاهر الحمد والثناء الخاصّة بالباري تعالى، وبالصّلاة نصل إلى هذه العقيدة، وهي أنّه لا موجود إلاّ الله‌ تعالى يستحق الحمد والثناء، فجميع أشكال الحمد والثناء تعود لحمده وثنائه، والصّلاة هي الوصول إلى التوحيد الجامع والابتعاد والبراءة من كلّ شرك، والصّلاة إقرار بعظمة الباري تعالى، وأنّه لا موجود آخر غيره يستحق العظمة والكبرياء، والصّلاة أفضل طريق للتسلط على النفس والمادّيّات والشّهوات.

ولا يخفى أنّ الصّلاة المفيدة والصحيحة هي الصّلاة التي يتعرّف فيها المصلّي على أسرارها ورموزها بدرجة معيّنة، وهذا الكتاب يستعرض زاوية من هذه الأسرار المستخلصة من الآيات القرآنيّة الشريفة وروايات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام .

والنقطة المهمّة هنا، إنّ جميع المؤمنين والمصلّين يجب عليهم تفهّم هذه

الأسرار واستحضارها دوما، وينبغي على الأقل في كلّ عام مرّة واحدة استحضار هذه الأسرار ومطالعتها مرّة أخرى، وأساسا يجب في الأمور التربويّة وحالات السير والسلوك المعنوي تكرار المباني والتوصيات اللازمة لكي تتطبع النفس عليها وتتحوّل إلى مَلَكة، وبالنتيجة خلق واكتشاف أسرار جديدة بواسطة هذه النفس المهذّبة.

وهذه المجموعة من المعارف بين يدي القارى‌ء الكريم، تتضمّن بحوث ومسائل تمّ عرضها في السنوات الماضية في مسائل الصّلاة وأسرارها وعلى شكل جلسات مختصرة في إذاعة صوت المعارف للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، ومن الجلي أنّه في مثل هذه البحوث ليس من المقرر بسط وتفصيل وتعميق جميع الأبعاد العلميّة والمعنويّة للصّلاة، بل تمّت الإشارة بشكل واضح وسلس لبعض أسرارها وخفاياها، ولم يحدث في هذا الكتاب أي تصرف كبير في العبارات والألفاظ حدّ الإمكان، لتبقى بشكل سلسل وبمنهج واضح وميسور للجميع.

وأخير نتقدّم بالشكر الوافر للمسؤولين المحترمين في المركز الفقهي للأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، وكذلك سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ ماشاء الله‌ استاد ميرزا دامت تأييداته، لمساهمته في تدوين وتنظيم هذا الكتاب، وكذلك نتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من سماحة السيّد أحمد النجفي والشيخ هاشم الصالحي اللذين أقدما على ترجمة وتنظيم هذا الكتاب بهذه الصورة الجميلة لتعمّ الاستفادة منه والاغتراف من منهله أكثر فأكثر، نأمل أن يساهم هذا الكتاب في الارتفاع وترشيد هذه العبادة المهمّة، إن شاء الله.

محمّد جواد فاضل اللنكراني
28/8/1392ش/2013م


الفصل الأوّل: أمور عامّة حول أسرار الصّلاة



1ـ ضرورة التعرّف على أسرار الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد المواضيع المهمّة والمؤثرة جدّا في البحوث العلميّة والمعنويّة، بحث أسرار الصّلاة، والالتفات إلى هذا البحث والتعمّق فيه يحقّق للمصلّي مراتب ومقامات ومنازل في خطّ السلوك المعنوي، وللأسف فإنّ الغفلة عن أسرار الصّلاة أدّى إلى أن تفقد الكثير من صلواتنا التأثير المطلوب والإيجابي في وجودنا وفي حياتنا الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، فلو أننا التفتنا إلى أسرار الصّلاة وأقمنا الصّلاة مع معرفة هذه الأسرار ومع الأخذ بنظر الاعتبار وجود مثل هذه الحقائق، فإنّ الكثير من مشكلاتنا الفرديّة والاجتماعيّة سوف تحلّ بل سوف تنكشف الأجوبة عن بعض الأسئلة التي تدور في أذهان الكثير من المؤمنين، وعادة يتبادر إلى أذهان شيعة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلّين هذا السؤال، وهو: كيف أنّ الإمام عليه‌السلام عندما أخرجوا سهما من قدمه وهو في حال الصّلاة فإنّه استمر في صلاته وكان غارقا في حالة من التوجّه إلى الله‌ والاستغراق في صفاته وأسمائه الحسنى بحيث إنّه لم يلتفت

ولم يشعر بهذا السهم، ولكن نفس هذا الإمام عليه‌السلام عندما سمع وهو في حال الصّلاة صوت مسكين نزع خاتمه المبارك ودفعه إلى ذلك المسكين؟

عندما نلتفت إلى أسرار الصّلاة فسوف نجد الجواب عن كلّ هذه الأسئلة، وهذه الشبهات إنّما لا نجد لها حلاًّ فيما لو اكتفينا بالحضور الظاهري للصّلاة، ولم نبحث في بواطن هذه المرحلة الظاهريّة ولم نتعقل الحقائق والأسرار الكامنة فيها، ولو نظرنا إلى الصّلاة من حيث الظاهر فسوف لا نجد الجواب عن هذا السؤال، ولكن لو دققنا إلى باطنها، فسوف لا نجد أي تعارض بالنسبة للشخص الغارق في التوجّه إلى الله‌ تعالى ويعيش حالة من مقام الشهود العظيم، بين هذا التوجّه العميق لله‌ تعالى وبين إعطائه الخاتم لذلك المسكين، لأنّ هذا الإنفاق والصدقة تقع في ضمن هذا المسار ويترتّب عليها المزيد من التقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى، وأساسا بما أنّ الإمام علي عليه‌السلام كان يعيش حالة الذوبان في جمال الحقّ تعالى، ينبغي أن يؤدّي ما عليه لتحقيق رضا الله‌ تعالى، والاجابة لطلب ذلك المسكين والتوجّه إليه يقع ضمن هذا المسار.

وعلى هذا الأساس يتبيّن أننا لو التفتنا إلى أسرار الصّلاة فسوف نجد الاجابة عن هذه الأسئلة التي تطرح في مجال العلاقة والرابطة مع الصّلاة، إنّ أسرار الصّلاة لا يمكن استعراضها في فترة قصيرة ومختصرة ولا يمكن التعرّف عليها وبيان زاوية منها، إنّ أسرار الصّلاة تمثّل معارف وحقائق غير محدودة ولا يمكن تبينها في عدّة جلسات أو عدّة كتب، بل يمكن القول: إنّ الصّلاة لها أسرار مختلفة باختلاف الأشخاص، ولها حقائق متعددة باختلاف القلوب والضمائر لأفراد البشر، وسوف نسعى في هذه البحوث لطرح بعض زوايا وخفايا هذا البحث ونأمل أن نستطيع بفضل الباري تعالى ولطفه بيان بعض جوانب من هذه الأسرار بحيث عندما نقف في الصّلاة بين يدي الباري تعالى نشعر باللذة والبهجة إلى

درجة أننا لا نمل أبدا من الصّلاة، وتقع هذه الصّلاة مورد رضا الباري تعالى بحيث إنّه يباهي بها الملائكة، ومن شأن الالتفات والتوجّه إلى أسرار الصّلاة أن يُوجد تحوّلاً إن شاء الله‌ في حياتنا ويؤثر بشكل فاعل وإيجابي في فكرنا وروحنا وعلاقاتنا الاجتماعية وجميع أمورنا.


2ـ أدّلة وجود أسرار الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

تقدّم في البحث السابق، أنّ الصّلاة لها أسرار، وأحد الأسئلة التي تتبادر إلى ذهن كلّ شخص أنّه ما هو الدليل على أنّ الصّلاة لها أسرار؟ بداية يجب علينا بيان هذه النقطة، وهي: هل هناك أسرار خارج دائرة هذه الأفعال الظاهريّة (القيام والركوع والسجود والتشهد والتسليم) أم لا؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الالتفات إلى أنّ مقصودنا من سرّ الصّلاة هو باطن الصّلاة، فأسرار الصّلاة يعني باطن الصّلاة كما ورد بالنسبة للقرآن الكريم وفي رواية عدّة أنّ القرآن له ظاهر وباطن، والمراد من «السرّ» في هذا المورد الباطن، والسرّ لا يعني الخفاء حتّى يقال هنا أنّ السرّ يعني الاُحجيّة الخفيّة، فالمقصود من سرّ الصّلاة هي تلك الحقيقة التي تقع وراء هذه الأفعال العباديّة وتتجلّى في عالم آخر.

والسؤال هو: ما هو الدليل على أنّ هذه الصّلاة لها أسرار؟ وللاجابة عن هذا السؤال لابدّ من بيان ثلاثة أمور:

الأمر الأوّل: وجود دليل عقلي مبنيّ على أنّ كلّ شيء في هذا العالم له سرّ

وباطن «لِكّلّ ظاهِرٍ باطِن»، وبحسب البراهين العقليّة التي ذكرها كبارنا في كتبهم ومسطوراتهم الفلسفيّة أنّ كلّ موجود طبيعي في هذا العالم له وجود مثالي فوق هذا العالم، وفوق كلّ موجود مثالي يوجد أيضا موجود عقلي، وحتّى بحسب مباني الحكمة المتعالية وقاعدة «بسيطُ الحقيقة كلّ الأشياء» هناك عالم رابع يمكن تسميته بعالم «الاُلوهيّة»، ولكن هذه العوالم الثلاثة المعروفة «عالم الطبيعة، وعالم المثال، وعالم العقل» مترتبة بشكل طولي، بمعنى أنّ ما يوجد هذا العالم من قبيل الإنسان، التراب، الجماد، والنبات، له وجود مثالي فوق هذا الوجود المادي ويتمتع بحقيقة أسمى وأعلى، ولكلّ مرتبة معينة من الوجود، فإنّ العقل يحكم بأنّ كلّ ما يقع في المرتبة الدانية فهو مسبوق بوجود أعلى ومرتبة عالية، وكلّ شهود مسبوق بغيب، فما لم يكن العالي فإنّ الداني لا يتحقّق، وما لم يكن هناك غيب فلا يكون معنى للشهود، فكلّ ظاهر بحسب العقل له باطن وحقيقة، وعلى أساس هذا الدليل العقلي فإنّ الأمور التي يقوم بها الإنسان في هذا العالم من حركات وأفعال سواءٍ كان أفعال حسنة أم أفعال سيّئة، لها باطن وحقيقة، وهذه الحقيقة موجود في عالم آخر وسوف تظهر في يوم القيامة وربّما في عالم البرزخ، وقد في الروايات مسألة بعنوان تجسم الأعمال، وتجسم الأعمال هو انكشاف الحقيقة والباطن لكلّ عمل يرتكبه الإنسان في هذا العالم، فأصغر وأقل عمل يقوم به الإنسان في هذا العالم له حقيقة وباطن سوف يظهر ويتجسم في عالم البرزخ، وسواءً كانت أعمال جيدة أم سيّئة، ذنوب أم حسنات.

وحسب هذا البرهان العقلي فإنّ لكلّ ظاهر باطن، ولكلّ شهود غيب، والصّلاة بدورها لها باطن، ولا ينبغي أن نتصوّر أنّ الأعمال التي مؤدّيها بحسب الظاهر منفصلة ومنفكة عن العوالم الأخرى، ولا يوجد أي شيء لها في العوالم الأخرى، العقل يقول بأنّ هذا العمل له حقيقة وراء هذه الحركات الظاهريّة وله باطن،

وأساسا فإنّ هذا الظاهر وجد لغرض الوصول إلى ذلك الباطن، فظواهر العبادات هي من أجل الوصول إلى تلك البواطن والحقائق.

وعلى هذا الأساس عندما نراجع عقولنا، فإنّ العقل يقدّم لنا قاعدة كليّة بأنّ لكلّ ظاهر باطن، ومن هذه الجهة ينبغي الالتفات إلى أنّ صلاتنا لها باطن، وينبغي أن نتعمّق في هذه الحقيقة وهي أنّ وراء كلّ فعل يصدر منّا حقيقة معينة يجب علينا اكتشافها والاستفادة منها والوصول من ذلك الظاهر إلى هذا الباطن... نوّر الله‌ قلوبنا جميعا بنور الإيمان والعبادة والعبودية.


3ـ أهميّة إدراك باطن الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

«فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...»[1].

ذكرنا أنّ العقل يدرك بأنّ لكلّ ظاهر باطن، ولكن بالإضافة إلى الدليل العقلي فإنّ القرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة في آيات عديدة بأنّ لكلّ شيء في عالم الطبيعة ملكوت، وذلك في قوله تعالى: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...»؛ وهذه الآية تدلّ على أنّ كلّ شيء في هذا العالم له وجود ملكوتي، والملكوت هو باطن الشيء، ولكلّ إنسان ملكوت، والأرض لها ملكوت، والسماء لها ملكوت، وأعمال الإنسان لها ملكوت، ومن جملة الأمور التي لها ملكوت هي الصّلاة، فالصّلاة أحد الأعمال التي يأتيها الإنسان في واقع الحياة، ولذلك لها صورة ملكوتيّة.

فيقول تعالى في سورة المؤمنون الآية 88: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ...»، إنّ الأمور المختصّة بالله‌ تبارك وتعالى هو أنّه يملك باطن كلّ شيء، فلو تصوّرن


1. سورة يس، الآية 83.

بحسب الظاهر أنّ أعمالنا الظاهريّة تصدر من قدرة وتدبير الإنسان واختياره «وحتّى في هذه الأعمال الظاهريّة نحتاج فيها يقينا إلى عناية الباري تعالى ولطفه وإرادته وبدون ذلك فإننا لا شيء»، أمّا في باطن العمل فلا توجد قدرة وإرادة غير قدرة الله‌ تعالى وإرادته ومشيئته، فهو الذي يستطيع أن يتصرف في باطن الأعمال على أساس التوسعة والتضييق، ويقوم بزيادة أو نقيصة بواطن الأعمال المختلفة للأشخاص، لأنّ كلّ باطن وملكوت كلّ شيء يقع تحت تصرّف وقدرة الباري تعالى.

وتقول الآية الأخرى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ»[1].

وتقول الآية: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»[2]، وهذا يعني أنّ هذه الصّلاة التي نؤدّيها بحسب الظاهر هي فعل يستغرق عدّة دقائق من الوقت، وهو وقت قصير والإنسان لا يتصوّر أنّ هذا العمل يرتبط بشيء قبله وبعده، ولكن هذه الأعمال ترتبط بالحقيقة بما وراء هذا الظاهر، وهذه الحقيقة موجودة عند الله‌ تبارك وتعالى، ونحن بوسيلة هذا الظاهر نريد التوصل إلى ذلك الباطن وتلك الحقيقة.

وعلى هذا الأساس فبالإضافة إلى الدليل العقلي، فإنّ القرآن الكريم يدلّ على هذا المعنى بجلاء، وهو أنّ جميع الأمور في هذا العالم لها ملكوت، ونحن وخاصّة في باب الصّلاة نملك روايات كثيرة تقرّر أنّ جميع تفاصيل هذا العمل مرتبط بلطف الله‌ وعنايته، وكما وردت الإشارة إلى ذلك في كتب علماؤنا العظام من أنّ جميع حالات الصّلاة من مقدّماتها كالوضوء والطهارة والأمور المقارنة لها، وكذلك منافيات الصّلاة إلى تعقيباتها، لها جميعا أسرار، وقد ذكر هؤلاء


1. سورة الأنعام، الآية 75.

2. سورة الحجر، الآية 21.

العلماء أسرارا لتكبيرة الإحرام، وأسرارا للنيّة، وأسرارا للقراءة، وما هو السرّ في قيام الإنسان للصّلاة بين يدي الحقّ تعالى؟ وما هي الأسرار الكامنة في الركوع والسجود، وهذه الروايات نفسها تعتبر دليلاً جليّا على هذه الحقيقة، بمعنى أننا لو لم يكن لدينا دليل عقلي، ولو لم تكن الآيات القرآنيّة تقرّر أنّ لكلّ شيء باطن وسرّ، فإننا نستنبط من الروايات المعتبرة الواردة في كتبنا أنّ للصّلاة أسراراً كامنة في هذه الأعمال الظاهريّة.

ونشير في هذا البحث إلى هذا الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام إذ يقول: «مَنْ تَوَضّأ مِثلَ وُضُوئِي وَقَالَ مَثلَ قَولِي خَلَقَ الله‌ تَبَارَكَ وَتَعالى مِنْ كُلِّ قَطرَةٍ مَلَكَا يُقَدِّسُهُ وَيُسَبِّحُهُ وَيُكَبِّرُهُ فَيَكتُبُ الله‌ عَزَّوَجَلَّ ثَوابَ ذَلِكَ لَهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ»[1].

وهذا شاهد على وجود أسرار في الطهارة، فعندما يتوضأ الإنسان ويجري الماء على وجهه وعلى يديه وتقطر من ذلك الماء قطرات، فالإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام يقول إنّه لو كان وضوء الشخص مثل وضوئي ويقول مثل قولي فإنّ الله‌ تبارك وتعالى يخلق من كلّ قطرة من ماء الوضوء ملكا يقدّس الله‌ ويسبّحه ويكبّره، وهكذا نرى النتيجة المترتبة على هذا الباطن، بأنّ هذا الملك يسبّح الله‌ تعالى إلى يوم القيامة ويكون ثواب ذلك لهذا الشخص المتوضى‌ء.

ومن هنا نعلم أنّ جميع أجزاء الصّلاة والأمور المترتبة عليها من شروط الصّلاة ومقدماتها ومقارناتها ومنافياتها وتعقيباتها لها أسرار، ويجب أن نسأل الله‌ تعالى أن يكشف لنا هذه الحقائق والأسرار.


1. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 413.


4ـ موارد اختلاف باطن الأعمال


بسم الله الرحمن الرحيم

ينبغي في هذا البحث الموجز أن نبيّن المقصود من «أسرار الصّلاة»، هو وجود معنى عام وشامل لجميع ما يذكر تحت عنوان «أداب الصّلاة» في الكتب الأخلاقيّة والعرفانيّة، وربّما يشمل الحِكم المذكورة للصّلاة في الروايات الواردة، ولا يخفى على أهل الفن أننا نستطيع التمييز بين أسرار الصّلاة وآدابها وحِكمها، فالحكمة في الصّلاة هي الغايات المرتبة على الصّلاة، من قبيل: إنّ الصّلاة معراج المؤمن، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذه الأمور تعتبر من فوائد وغايات الصّلاة وحكمتها، ورغم وجود بحث أخلاقي في الصّلاة من خلال التوجّه العميق لله‌ تعالى والنيّة الخالصة في هذه العبادة بعيدا عن أي شكل من أشكال الرياء، والأهم من ذلك حضور القلب وخشوعه، كلّ هذه تذكر بعنوان آداب الصّلاة، أمّا السرّ والأسرار في الصّلاة فلها معنى فوق هذه المعاني، ولكننا في هذا البحث سوف نسلك مسلك الكبار كالمرحوم الشهيد الثاني رضوان الله‌ تعالى عليه، ونستعرض المعنى العام لسرّ الصّلاة.

المسألة المهمّة هنا أنّ أسرار الصّلاة تختلف باختلاف الأفراد والأزمنة، فالصّلاة التي يؤديّها شخص جاهل لا يمكن مقايستها في مجال السرّ والباطن والحقيقة مع صلاة العالم، والصّلاة يؤديّها المؤمن في أوّل الوقت تختلف كثيرا عن الصّلاة في آخر الوقت، كما ورد في الروايات:

«إِنَّ الصَّلاةَ إذَا ارتَفَعَتْ فِي أَوَّلِ وَقتِها رَجَعَتْ إِلى صَاحِبِها وَهِي بِيضاءٌ مُشرِقَةٌ تَقُولُ حَفِظتَنِي حَفِظَكَ الله‌ وَإذَا إِرتَفَعَتْ فِي غَيرِ وَقتِها بِغَيرِ حُدُودِها رَجَعَتْ إِلى صَاحِبِها وَهِي سَوداءٌ مُطلِمَةٌ تَقُولُ ضَيعتَنِي ضَيَّعَكَ الله»[1].

نستوحي من هذا الحديث الشريف أنّ الصّلاة في أوّل وقت لها باطن، والصّلاة في آخر الوقت لها باطن آخر، وأنّ صلاة العالم لها باطن وصلاة الجاهل لها باطن آخر، وقد ورد في رواية عن الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام، الذي يلقّب بالسجّاد وزين العابدين في عبادته، وبحسب ما ورد في الروايات المعتبرة أنّ هذا الإمام عليه‌السلام كان يصلّي في كلّ يوم ألف ركعة، يقول:

«رَضِيتُ أَنْ يَكُونَ جَمِيع هَذِهِ الصَّلوات مُقابلة لِرُكعتَينِ مِنْ صَلاةِ أَمِيرِ المُؤمِنين».

يعني أنّ باطن صلاة أميرالمؤمنين عليه‌السلام تختلف حتّى مع باطن صلاة الإمام زين العابدين عليه‌السلام، وكذلك فإنّ باطن صلاة أميرالمؤمنين عليه‌السلام لا يقبل المقارنة مع صلاة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله.

والصّلاة في المسجد لها باطن يختلف عن باطن الصّلاة في المنزل، والصّلاة في المسجد الحرام والصّلاة في مسجد النّبي لها باطن آخر، والسرّ في أننا نرى في الروايات أنّ المؤمن لو صلّى في المسجد الحرام فإنّ صلاته تعادل مائة ألف ركعة من صلاته، أو أنّ الصّلاة في مسجد النّبي لها ثواب عشرة آلاف ركعة في


1. الكافي، الطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 268.

غيره، وذلك أنّ باطن هذه الصلوات مختلف، وإلاّ لا فرق بينها بحسب الظاهر؟ فربّما تكون صلاة المؤمن في مسجد النّبي مطولة وتكون القراءة فيها جيدة ويقرأ سور قرآنيّة مطولة، ولكن مع ذلك فإنّ باطن هذه الصّلاة يختلف عن باطن الصّلاة في المسجد الحرام، يعني كما أنّ اختلاف المقام يوجب اختلاف بواطن الصّلاة، فإنّ اختلاف الزمان يوجب أيضا اختلاف بواطن الصّلاة وحقيقتها.

وعلى هذا الأساس ينبغي الالتفات إلى أنّ باطن الصّلاة ليس أمرا ثابتا، فما ورد في الحث على أن تكون الصّلاة مع جماعة لأنّ صلاة الجماعة تختلف في باطنها عن صلاة الفرادى، أو ما ورد من التوصية بضرورة الصّلاة في المسجد، فرغم أنّ الصّلاة في المسجد ومع الجماعة لها فوائد ومنافع ظاهريّة كاجتماع المسلمين والتوحّد والتكاتف بينهم وما يترتّب على ذلك من تقوية العزّة للمسلمين، ولكن الصّلاة في بيت الله‌ الحرام، حتّى لذلك الشخص الذي يصلّي لوحده في المسجد الحرام بدون جماعة فإنّ هذه الصّلاة الفرادى في المسجد الحرام تختلف في باطنها مع الصّلاة الفردى التي يؤديها المصلّي في داره، وينبغي الالتفات إلى أنّ الله‌ تعالى قد وهب هذا المؤمن عطية وهدية كبيرة جدّا، فلو أننا التفتنا إلى هذه النعمة العظيمة وفهمنا كيفية الاستفادة الأفضل من مصاديق هذه النعمة وجعلنا من أنفسنا من أفضل مصاديق المصلّين فإنّ الله‌ تبارك وتعالى سيكشف لنا الحقائق الغيبية في هذه الصّلاة على قلوبنا، وينبغي الاعتقاد بأنّ الإنسان لو أدّى صلاته مع الالتفات إلى أسرارها والحقائق الكامنة فيها فإنّ الكثير من مشكلاته ستنحلّ ويؤدّي ذلك إلى تعاليه في طريق السير والسلوك إلى الله‌ تعالى وتبتعد عنه الكثير من الرذائل الأخلاقيّة والأخطاء الفكريّة، ولكن لو صلّينا بدون التوجّه إلى هذه الأسرار والحقائق فسوف نضيع أنفسنا وصلاتنا معا، نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعا من المصلّين الحقيقيين.


5ـ الصّلاة طريق الوصول إلى الحقائق


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام: «إِنَّ الوُصُولَ إِلى الله‌ عَز وَجلّ سَفَرٌ لا يُدرَكُ إِلاّ باِمتِطاء اللّيل»[1]

لا يتيّسر الوصول إلى حقائق الصّلاة وأسرارها من غير طريق الصّلاة نفسها، فلو تصوّر شخص إمكان وجود طريق للوصول إلى هذه الأسرار غير طريق الصّلاة فهو واهم، فمن أجل الوصول إلى باطن الصّلاة ينبغي فقط العبور من ظاهرها إلى الباطن، ووجوب إقامة الصّلاة بجميع شروطها ورعاية، ومن هذه الجهة ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام يقول: «إِنَّ الوُصُولَ إِلى الله‌ عَز وَجلّ سَفَرٌ لا يُدرَكُ إِلاّ باِمتِطاء اللّيل».

وفي الحقيقة أنّ الصّلاة هي أحد الوسائل لهذا السفر.

في هذه الرواية ورد أنّ الوصول إلى الله‌ تعالى هو باطن الصّلاة وهو شهود جمال المعبود والحقّ تعالى، فلماذا نشعر بالتعب والملل من صلاتنا؟ لأننا نغفل


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 75، ص 380.

عن باطن الصّلاة، ولماذا تتسبّب الصّلاة أحيانا بالامتعاض والثقل الظاهري ونحسبها تكليفا ثقيلاً على أنفسنا؟ لأنّنا نؤدّي هذه الصّلاة بعيدا عن هذه السرّ والباطن والحقيقة الكامنة فيها.

لو إننا التفتنا جيدا إلى باطن الصّلاة وهو الوصول إلى الله‌ تعالى، ولو أننا علمنا أنّ حقيقة الصّلاة هي مشاهدة المعبود، فحينئذٍ لا يشعر الإنسان بالتعب والملل من صلاته، فالسبب في جميع حالات التعب والملل ابتعادنا عن حقيقة الصّلاة، وأحيانا يسأل البعض أنّ الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام كيف استطاعوا أن يصلّوا في اليوم والليلة ألف ركعة ونحن عندما نؤدّي هذه الركعات القليلة من صلاة اليوميّة نشعر بالتعب والثقل؟ والجواب يكمن في هذه النقطة، وهي أنّ هؤلاء الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعيشون اللّذة والبهجة في رؤيتهم لحقيقة الصّلاة وأنّ جميع وجودهم مستغرق في صلاتهم، ولذلك لا يشعرون بأي تعب أو ملل منها، ليس فقط الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام بل إنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أيضا يصلون إلى هذه المرتبة أحيانا وترون أنّ الشيخ «الكشفي» وهو أحد علماء الرجال عندما يتحدّث عن الزهاد الثمانية، أي الأشخاص المعروفين بالزهد في ذلك الوقت وهم ثمانية مثل: اُويس القرني، عامر بن عبدقيس و...، فإنّه يذكر أحدهم واسمه الربيع، وينقل حكاية عن سيرته ويقول: «كان يسهر بالليل إلى الفجر في ركوع واحد»[1]، وهذا الشخص أحد أصحاب أميرالمؤمنين عليه‌السلام ومن الذين تربّوا في مدرسته، وعندما يصبح الصباح يتأوه ويقول: «آه سبق المخلصون وقطع بنا»، أي أننا تخلفنا عن طريق الوصول إلى الله‌ تعالى واستطاع المخلصون سلوكه، هذه «آه» عباد الله‌ المخلصين.

لو أجريتم مقارنة بيننا وبينهم فنحن نطلق كلمة «آه» فيما يتّصل بالأمور


1. مصباح الشريعة، ص 62.

الماديّة الفانية، ونتأوه من فقدان المقام والثروة والسلطة، أمّا عباد الله‌ المخلصين فإنّهم يتأوهون في مجالات أخرى، هذه الكلمة «آه» تعلّموها من مولى المتقين أميرالمؤمنين عليه‌السلام عندما قال: «آه مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ، وبُعدِ السَّفرِ»[1].

إذن فعندما يفهم المؤمن أسرار الصّلاة ويلتفت إليها فإنّه لا يرغب في إتمامها، فلو أنّه اشتغل بالصّلاة من أوّل اللّيل إلى طلوع الفجر، وهو وقت خاص ليكون للصّلاة باطن، فإنّه عندما يرى طلوع الفجر وانتهاء اللّيل يتحسّر ويتأوه بسبب أنّه فَقَد هذه الحالة المعنويّة، وعلى هذا الأساس فإنّ التوجّه لأسرار الصّلاة هو الذي يوصل الإنسان إلى مرتبة الحقّ تبارك وتعالى.

وجاء في رواية عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أنّه قال: «الوُصُولَ إِلى الله‌ عَز وَجلّ»، وهذا يعني أنّ الوصول إلى الله‌ موفّر وله طريق، وبإمكاننا كأشخاص عاديين الوصول إلى الله‌ تعالى أيضا، ولكنه «سَفَرٌ»، هذا السفر يعني الحركة والعمل والسعي، «لا يُدرَكُ إِلاّ باِمتِطاء اللّيل»، فالصّلاة في جوف اللّيل تعتبر طريقا معبّدا للوصول إلى الله‌ تعالى، وقلنا إنّ لكلّ صلاة باطن خاص، فالصّلاة الواجبة لها باطن، والصّلاة المستحبّة لها باطن آخر، وصلاة اللّيل لها باطن وصلاة النّهار لها باطن آخر، ولكن لا ينبغي الغفلة عن هذه الحقائق، ولا ينبغي أن نسمح لعمرنا بالانتهاء ونحن في غفلة من هذه الحقائق، فهي خسارة عظيمة جدّا.


1. نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص 481؛ بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 34، ص 285.


6،7ـ الصّلاة جامعة لأسرار جميع العبادات


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام: «أَوَّلُ مَا يُحاسَبُ العَبدُ عَلَيهِ الصَّلاةُ فإِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَاسِواها وإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَاسِواها»[1]

تعتبر الصّلاة أهم عبادة من بين العبادات التي قرّرها الله‌ تبارك وتعالى للبشر، ومن هذه الجهة فإنّ «أسرار الصّلاة»: تعدّ أهم الأسرار، وربّما تكون الصّلاة جامعة لجميع أسرار العبادات الأخرى كلّها، وقد وردت روايات مشهورة فيما يتّصل بالصّلاة أنّ الإنسان في يوم القيامة إذا قبل الله‌ تعالى صلاته فسوف تقبل بقية أعماله الأخرى، وإن كانت هذه الأعمال ناقصة فإنّ الله‌ تعالى سيغض النظر عن ذلك، ولو لم يقبل الله‌ تعالى صلاة الشخص فإنّ سائر أعماله لا تكون مقبولة حتّى لو جاء بها الشخص بشكل كامل وصحيح: «إِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَاسِواها وإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَاسِواها»، هذه العبارة تشير إلى أنّ الصّلاة تعدّ أهم العبادات، والإنسان العابد لا يمكنه أن يتقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى بأي وسيلة أخرى مثل الصّلاة، ولعل ما


1. فلاح السائل، ص 127.

جاء في بعض الروايات أنّ الله‌ تعالى ينظر إلى عبده عندما يقف للصّلاة ويباهي الملائكة بعمل هذا المؤمن، كلّ ذلك يكشف عن وجود أسرار خاصّة في الصّلاة، بحيث لا تقبل المقارنة مع سائر العبادات الأخرى، ولو أنّ الإنسان نال التوفيق لعبادة الحقّ تعالى وأراد تحقيق العبوديّة والطاعة لله‌ فإنّه لا شيء كالصلاة يحقّق له هذا المعنى، وأساسا فإنّ الصّلاة من بين العبادات تعتبر أحبّ عبادة إلى الله‌ تعالى ولا شيء مثل الصّلاة له قيمة عند الله، ومن هذه الجهة إذا اهتمّ الإنسان بصلاته واعتبر أنّ الصّلاة ركنا أساسيا في حياته، فسوف يحظى بمرتبة مهمّة عند الباري تعالى.

لماذا كان الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام يهتّمون ويكثرون من الصّلاة إلى هذه الدرجة، بحيث إنّه ورد في الروايات أنّهم كانوا يصلّون في اليوم والليلة ألف ركعة؟ الإنسان عندما يلتفت إلى أسرار الصّلاة ولو بشكل إجمالي ويفرغ ذهنه عن سائر الأمور الأخرى أثناء الصّلاة فهو بمثابة الشخص الذي وجد ضالّته وحصل على ما يبتغيه في حياته ممّا يدفعه ذلك إلى الإكثار منها، يجب أن تكون صلاتنا بهذه الصورة، يجب أن نشعر باللذة والبهجة من الصّلاة، بل يجب أن نشعر بالراحة وزوال التعب في حال الصّلاة وتكون استراحتنا من الأعمال الأخرى في الصّلاة، لأنّ هذه الصّلاة من شأنها أن تزيح غبار الظلمة والتلوث في الأمور الدنيويّة عن أنفسنا وتطهّر قلوبنا وتخفّف من مشاكلنا ومعاناتنا، فالإنسان وببركة صلاة واحدة تتوفّر فيها الشروق والتوجّه القلبي إلى أسرارها يمكنه أن يجد الحلول لمشاكله الأخرى.

لماذا نجد أنّ بعض شبابنا وفي عزّ الشباب يبتلون ببعض المشاكل الروحية والأزمات النفسيّة؟ لماذا لا نحلّ مشاكلنا النفسيّة بالصّلاة؟ أيّها الإخوة والأخوات، عندما نجد كلّ هذه الأهميّة من قِبل الله‌ تعالى للصّلاة، فلو أننا التفتنا

إليها بمقدار العُشر فإنّ الكثير من مشاكلنا ستنحلّ، إنّ الأكابر من علمائنا كانوا يحلّون معضلات العلوم والمسائل الفلسفيّة الغامضة ببركة الصّلاة، إنّ روح الإنسان وبواسطة الصّلاة، ليس فقط تتطهر من لوث الذنوب والمعاصي، بل من حالات الجهل، وتجد روح الإنسان تصفية وتنقية في حال الصّلاة بحيث تسكن وتهدأ وتزول عنها حالة التوتّر وبالتالي تنكشف لها الحقائق العلميّة بسهولة، فالروح المظلمة والمكدّرة لا تستطيع حلّ أبسط المسائل الجزئيّة.

وعلى ضوء ذلك يجب أن نهتم كثيرا بالصّلاة، ولا يجدر بنا أن نبلغ من العمر خمسين أو سبعين سنة ونكون لا سامح الله‌ مشمولين بهذه الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال: «وَالله‌ إِنّهُ لَيأَتِي عَلَى الرَّجُلِ خَمسُون سنة وَمَا قَبِل الله‌ مِنْهُ صَلاةً وَاحِدة فَأَيُّ شَيٍّ أَشدُّ مِنْ هَذا»[1].

فالله‌ تعالى ليس من شأنه أن يشدّد على الناس الأمور العباديّة، ولكننا قد أوجدنا في نفوسنا الشقاوة والظلمة بحيث إنّ الإله الكريم المطلق لا يقبل منّا هذه الصّلاة والأعمال العباديّة مدّة خمسين سنة، تعالوا نهتمّ بهذا الأمر ونحاسب أنفسنا على ما مضى من عمرنا ونسعى لما تبقى من العمر للسعي وبالاستمداد من لطف الله‌ وعناياته أن تكون أعمالنا مقبولة من الحقّ تعالى.


1. الكافي، الطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 269.


8ـ الصّلاة معيار الإيمان والتوحيد


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد الأهداف المرسومة للصّلاة هو الوصول إلى مرتبة معرفة الله، وأساسا لو أنّ الإنسان أراد أن يقيس ميزان تدينه ومعرفته بالله‌ ويرى هل أنّه صار من جملة المؤمنين والموحّدين أم لا؟ فإنّه يمتحن نفسه من خلال الصّلاة ويرى مقدار حبّه وارتباطه القلبي بالصّلاة. هل أنّه يشعر عندما تنتهي الصّلاة بالراحة والفرح بأنّه انتهى من صلاته ليفرغ لسائر أعماله الأخرى أو أنّه يتحسّر على انتهاء الصّلاة وانتهاء مدّة اتّصاله مناجاته لله‌ تعالى، ولا يعلم هل أنّه سيُوفّق فيما بعد للصّلاة والوقوف بين يدي الله‌ تعالى أم لا؟ الصّلاة تعدّ أفضل وسيلة يستطيع من خلالها الإنسان أن يرى مراتب التوحيد في نفسه، تلك المراتب التي تحدّث عنها الأكابر والأولياء وهي: التوحيد الذاتي، التوحيد الصفاتي، التوحيد الأسمائي، التوحيد الأفعالي، فكلّ هذه المراتب من التوحيد يستطيع الإنسان من خلال معيار الصّلاة أن يكتشفها في نفسه.

إنّ الغاية من الصّلاة هي أن ينقطع الإنسان عن جميع الأمور الأخرى ويرى

الجمال المطلق للحقّ تعالى بعين الشهود، وللصّلاة أحكام ظاهريّة وبعض الأمور السطحيّة من قبيل: الوضوء، أركان، وشروط الصّلاة، وتعتبر المرتبة الأدنى من شروط الصّلاة التي يجب على الإنسان توفيرها وإيجادها.

ولكن علماء الأخلاق الكبار وعرفائنا، صرّحوا بوجود موارد أخرى بعنوان الجهاد الأكبر وجهاد النفس وفي خصوص عبادة الباري تعالى فهو من الجهاد الأوسط، يعني بعد رعاية المراتب الظاهريّة للصّلاة، تصل النوبة إلى الجهاد المستمر للنفس وتهذيبها وإزالة غبار الشهوات والتلوّث بالنوازع والرغبات الدنيويّة والغفلة وأمثال ذلك، يعني أن يطهّر الإنسان نفسه ممّا سوى الله‌ تعالى، وهذا عمل مشكل جدّا جدّا، وربّما يكون محالاً لأمثالنا.

ولكن الموجود فعلاً هو أنّ الجهاد الأكبر يعتبر مرتبة أعلى من جهاد النفس المستمر، وذلك بأن يترك الإنسان عقله وفهمه وعلمه جانبا أيضا ويتحلّى بالإيمان وبعشق الله‌ تعالى، فلا ينبغي أن تقول أنا اُصلّي لأنّني أعلم بأنّ الله‌ تعالى أمرني بالصّلاة، هذه المرحلة جيدة، ولكن ينبغي أن تقول أنا اُصلّي لأنّني أعشق المناجاة والارتباط القلبي مع الله‌ تعالى وأشعر بالإيمان الكامل بالله‌ تعالى، ولذلك اُريد أن اُعبر عن هذا العشق بواسطة الصّلاة، وهذا ما يعبّر عنه بغلبة الإيمان والعشق على العقل.

وهكذا يقف الإنسان في هذه الحالة من الإيمان القلبي والتصديق الباطني في مقابل الله‌ تعالى، فالصّلاة تعدّ حاجة ضروريّة للإنسان العاشق لله‌ تعالى، لماذا وردت التوصية الأكيدة على أنّ الإنسان عندما يواجه مشكلة في حياته ولو كانت أعقد المشاكل فإنّه ينبغي أن يصلي ركعتين؟ لأنّ هذا الشخص وبهذه الركعتين سيحقق لنفسه ارتباطا وثيقا وعميقا مع الحقّ تعالى.

وقد ورد في الروايات أنّ الإنسان عندما يقف للصّلاة بكامل اطمئنانه

وحضور قلبه، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى سينظر إليه ويقبل عليه، ويتكفّل جميع أموره:

حَنِينُ قُلُوبِ العارِفِينَ إِلى الذِّكر وَتِذكارِهم وَقتَ المُناجَاةِ للِسِّتْرِ
اُدِيرتْ كُؤوسٌ للِمنايا عَلَيهِم فَاُغفوا عَنِ الدُّنيا كإغفَاءِ ذِي السُّكر
هُمُومُهُم جَوَّالةٌ بِمُعَسكِرٍ بِهِ أَهلُ وُدِّ الله‌ كالأَنْجُمِ الزُّهرِ
فَأَجسَامُهُمْ فِي الأَرضِ قَتلى بِجُبَّةٍ وَأَرواحُهُمْ فِي الحُجبِ نَحوَ العُلى تَسرِي
فَما عرّسُوا إِلاّ بِقُربِ حَبِيبِهِم وَما عَرَّجُوا عَنْ مَسِّ بُؤسٍ وَلا ضُرِ

ولو أنّ الإنسان أقبل على الله‌ في حال الصّلاة وترك سائر الأمور خلف ظهره وكان يهدف من صلاته التقرّب إلى الله‌ وشهود جمال الحقّ تبارك وتعالى، فإنّ مثل هذه الصّلاة ستكون معراجا له إلى ساحة الحقّ تعالى.

نسأل الله‌ تعالى أن يصفي قلوبنا بعبادته ويفتح لنا أبواب المعرفة بالصّلاة، وأن نشعر باللذة والبهجة الروحيّة من الصّلاة.


9ـ الصّلاة سير وسلوك نحو الحقّ


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ إحدى النقاط الأساسيّة التي يجب على المصلّي الانتباه لها، هي أن يعلم أنّ الصّلاة سفر نحو الحقّ تبارك وتعالى، فالإنسان يرحل من هذا العالم ومن كائناته ومن الدنيا وما فيها وينفصل عن هذه الكثرات الظلمات ويتحرّك في صلاته نحو الحقّ تعالى، وفي نهاية الصّلاة يعود إلى هذا العالم مرّة ثانية وهو محمّل برأس مال عظيم من النورانيّة والإيمان والتوحيد والشهود، ويلتفت إلى عباد الصالحين ويسلّم عليهم بقوله: «السّلام علينا وعلى عباد الله‌ الصالحين»، وإذا أردنا أن نتحرى الدقّة والعمق أكثر في بيان معالم هذا السفر المعنوي فإنّ العرفاء والفلاسفة ذكروا أربعة أسفار للإنسان السالك وبيّنوا أنّ السالك يستطيع في صلاته أن يسافر هذه الأسفار الأربعة:

السفر الأوّل: «السفر من الخَلق إلى الحقّ»، يعني أن يتحرّك الإنسان في سلوكه إلى الله‌ تعالى من ذاته وينفصل عن الدنيا وما فيها ويبدأ هذا السفر بالنيّة، أي أنّه يقصد التقرّب إلى الله‌ بهذه الصّلاة وامتثال أمره.

السفر الثاني: «السفر من الحقّ إلى الحقّ بالحقّ» وهو السفر في أسماء الله‌ وصفاته، وهناك ينقطع الإنسان بشكل كامل عن الخلق والكثرات ويتحرّك في سيره في وحدة معنويّة بشكل لا متناهي وهذا السير هو الذي يمنح السالك معرفة ببعض الأسماء والصفات الإلهيّة ويتعرّف على عظمة الله‌ وقدرته وكبريائه، وقدرته المطلقة، ويتطلع على علم الله‌ وحكمته، رحمانيّة الله‌ ورحيميّته، مالكيّة الله، ويسبّح ويقدّسه ويحمده ويثني عليه.

السير في الحقّ هو الانشغال بأسماء الله‌ الحسنى وصفاته العالية عن غيره، بمعنى أنّ الإنسان عندما يصل إلى هذه المرحلة الثّانية يجب أن يتخلّص من جميع صفاته الدنيويّة وحالاته الذميمة والخصال السيّئة، وما ورد في الروايات من أنّ الإنسان إذا صلّى صلاته بجميع شروطها وآدابها فإنّه يطهر من جميع الذنوب، والسرّ في ذلك هو أنّ هذا الشخص الذي يراعي شروط الصّلاة يتطهّر من جميع ذنوبه وآثامه ويتخلّق بأخلاق الله‌ وأسمائه الحسنى، ولذلك يصبح هذا الشخص بعد كلّ صلاة مثل مَن ولد حديثا من اُمّه طاهرا من جميع الذنوب والخطايا، ولا ينبغي أن نتصوّر أنّ هذه المسألة مسألة اعتباريّة، فالله‌ تعالى يقول إنّ الشخص الذي يصلّي صلاته باخلاص فإنّي سوف أقوم بمحو ذنوبه وآثامه من صفحة أعماله، ورغم أنّ هذا المعنى بحسب الظاهر قابل للفهم والتبرير، ولكن الحقيقة هي أنّ حقيقة الصّلاة وهذا السلوك السامي الذي يتحقّق للإنسان في صلاته يؤدّي به أن يتخلّق بأسماء الله‌ وصفاته ويتخلّق بأخلاق الله‌ عزّ وجلّ.

هنا يذكر الإمام الخميني قدس‌سره نقطة مهمّة، من جهة أنّ جميع العرفاء يعتقدون أنّ الوصول إلى الحقّ تبارك وتعالى يقع في نهاية السفر الأوّل، ولكن الإمام الراحل قدس‌سرهيرى في كتابه مصباح الهداية أنّ الوصول إلى هذه المرتبة نهاية السفر الثاني.

السفر الثاني ينتهي بصفات الحقّ تعالى والوصول إلى الاُفق الأعلى، وهذه الملاحظة مذكورة في كلام العرفاء وهي أنّ السفر الأوّل وهو الوصول إلى الاُفق المبين وهي مرحلة أدنى من الاُفق الأعلى، أمّا السفر الثاني فالإنسان يصعد إلى اُفق أعلى بكثير، ثمّ يعود مرّة أخرى في السفر الثالث من الوحدة إلى الكثرة: «من الحقّ إلى الخَلق»، وهي مرحلة الشهادة للتوحيد ونفي غير الله‌ والشهادة برسالة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وفي السفر الرابع: «من الخَلق إلى الحقّ»، يرى بعين الوحدة متّجها نحو الكثرة فيشاهد الجميع أنّهم من عباد الله‌ الصالحين.

وهكذا ترون أنّ هذه المنازل والأسفار الأربعة جمعت كلّها في هذه العبادة، ألا ينبغي أن نهتمّ بهذه العبادة ونؤدّيها على وجهها الأكمل؟! ألا ينبغي أن ننتبه إلى أنفسنا ونقول: لا ينبغي أن نضيع هذا الرأسمال المعنوي الذي منحنا الله‌ تعالى إيّاه؟ ونسعى الاستفادة منه بنحو الأكمل، وذلك بأن نقيس صلاتنا في كلّ يوم بالصّلاة في الأيّام السابقة ونرى الفرق بينها وما هو امتياز الذي حقّقناه في هذه الصّلاة، وقد ذكر الأعاظم ـ وهو الحقّ ـ بأنّ أولياء الله‌ عزّ وجلّ في كلّ صلاة تفتح لهم أبواب جديدة، وفي كلّ صلاة تنكشف لهم حقائق وتتجلّى على قلوبهم حِكم وتجري على ألسنتهم...، ينبغي أن نعرف قدر هذه الصّلاة ونطلب من الله‌ تعالى أن يلهمنا معرفة قدر الصّلاة في قلوبنا ونفوسنا.


10ـ الصّلاة، طريق الوصول إلى اليقين


بسم الله الرحمن الرحيم

«وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»[1]

يقول الله‌ تبارك وتعالى في القرآن الكريم: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»، وهذا خطاب إلهي إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يأمره بالعبادة والدوام عليها إلى أن يكتب له اليقين، وبالرغم من أنّ الروايات التفسيريّة الواردة في هذا الشأن تقرّر أنّ اليقين هنا بمعنى الموت، ولكنّه لا يتنافى مع المعنى الأوّل، ونحن نختار هذا المعنى أيضا، ففي ذات الوقت نقول إنّ إحدى النقاط المستفادة من هذه الآية الشريفة هي أنّ الصّلاة أفضل وسيلة لوصول الإنسان إلى مرحلة اليقين، المرحلة التي يعيش فيها الإنسان حالة الإيمان من جميع الجهات ويتحقّق له الإيمان بالمقدار الممكن والمقدور، فمرحلة اليقين بحسب ما ورد في الروايات الشريفة هي أعلى من مرحلة التسليم والتفويض ومرتبة فوق أصل الإيمان.

ومن الجلي أنّ هذه الآية الشريفة لا تختصّ بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فكلّ إنسان


1. سورة الحِجْر، الآية 99

مصلي إذا أراد أن يمتلى‌ء قلبه بالإيمان بالله‌ تعالى ويفنى في الحقّ ومشاهدته، فإنّ الصّلاة تعدّ أفضل وسيلة للوصول إلى مرتبة اليقين، والإنسان عندما يفنى في ذات الحقّ تبارك وتعالى فسوف تتساقط عنه الرذائل والقبائح ويعيش الصفاء والنقاء في قلبه ويمتلى‌ء قلبه بالنورانيّة، ومثل هذا الشخص يستطيع أن يجد الطريق لساحة الذات المقدّسة.

إنّما الحُبّ فَناءٌ كُلُّه رحم الله‌ امرءً قال بهِ
إنّ مَنْ أضحى بقلبِ سالم لم يذرْ مِنهُ سوى قالبه
فِي ضلال الشوق قلبي راقدٌ مِنْ هَجير الهجر قد قال بهِ

فلو أراد الإنسان أن تكون له حظوة واعتبار في مقام القرب الإلهي ويصل إلى هذه المرتبة فينبغي أن يتّخذ العبادة وسيلة ولا يمكنه أن يصل إلى هذه المرتبة بدون عبادة، وهنا ينبغي أن نذكر هذه الحقيقة، وهي أنّ بعض الأشخاص البعيدين عن هذه الحقائق يقولون إنّ الإنسان عندما يصل إلى مرحلة اليقين فإنّه لا يحتاج بعدها إلى الصّلاة، ولكن كيف يمكن لهذا اليقين الذي هو معلول الصّلاة أن يبقى في ذات الإنسان عندما يترك الصّلاة؟ إذا أراد الإنسان أن يزداد يقينه يوما بعد يوم ويشتدّ ويتعمق في ذاته يجب عليه أن يزيد في عبادته، والسرّ في أنّ علماءنا وأولياء الله‌ كانوا يعيشون حالات الشوق إلى الصّلاة والعبادة هو أنّهم يرون أنفسهم ينتقلون في كلّ صلاة من مرتبة من اليقين إلى مراتب أعلى، ويجب علينا محاسبة أنفسنا لنرى أننا في هذه الصّلاة التي صلّيناها الآن وانتهينا منها ما هي ثمرتها ومقدار ما حصلنا عليه من زيادة اليقين بالله‌ تعالى؟ فلو أننا رأينا أنفسنا بعد الصّلاة أقرب إلى الله‌ تعالى ورأينا الله‌ تعالى بالمشاهدة أكثر بهذه النفس الناقصة وشعرنا بعظمة الله‌ في قلبنا أكثر وازدادت حالة الخوف والرجاء من الله


1. الإمام الغزالي، مجموعة رسائل، ص 469.

في قلوبنا، فنعلم حينئذٍ أنّ يقيننا قد إزداد، أمّا لو رأينا بعد الصّلاة أنّ حالنا لم يختلف عمّا كان عليه قبلها فإنّ هذه الصّلاة لم تؤثر فينا ويجب علينا أن نأسف لهذه الحالة، وعلى هذا الأساس عندما نقف للصّلاة بين الله‌ تعالى ونريد أن ندعوه ونناجيه، فيجب علينا الالتفات إلى أننا نريد زيادة يقيننا وإيماننا، ونحن بحاجة إلى زيادة اليقين، ونحن نحتاج يوما بعد آخر إلى غرس اليقين في قلوبنا أكثر فأكثر، ومن هذا المنطلق فإنّ أحد الآثار المهمّة للعبادة هو الوصول إلى مرحلة اليقين وهو التوحيد التام، وقد ذكر العرفاء في محلّه أنّ التوحيد التام لا يعني أنّ الإنسان يقطع بإرادته الارتباط والتوجّه إلى غير الله‌ بل أعلى من ذلك، وهو الانقطاع، فيجب على الإنسان أن يصل إلى مرتبة بحيث يشعر بالانقطاع التلقائي عن غير الله‌ تعالى، ويكون إلتفاته فقط متوجّها إلى الله‌ تعالى ولذلك يتلاشى وجوده في عظمة الحقّ تعالى، فينبغي على الإنسان أن يلاحظ ما مقدار ما حصل عليه بصلاته من القرب الإلهي بحيث يستغرق وجوده في محضر الباري تعالى ويشعر بالمحو في الذات المقدّسة، وهنيئا للشخص الذي يستطيع أن يعيش هذه الحالة في جميع صلاته، وهذا توفيق عظيم للمؤمن ونسأل الله‌ تعالى أن يمنحنا جميعا هذا التوفيق إن شاء الله.


الفصل الثاني: حضور القلب في الصّلاة



11ـ المقصود من القلب في مقولة «حضور القلب»


بسم الله الرحمن الرحيم

«لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ...»[1]

إنّ هذه الحقيقة جليّة وواضحة للمصلّين وأصحاب السير والسلوك والعبادة، لأنّ الوصول إلى حقائق الصّلاة وفهم حقيقة كلّ عبادة لا يتيسّر إلاّ من خلال العمل بالشريعة والسلوك من الظاهر إلى الباطن، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن ندرك حقيقة الصّلاة، إلاّ من خلال ظاهر الصّلاة والعمل بأحكامها وشروطها ورعاية آدابها الظاهريّة، وبدون تحقّق هذا الظاهر فلا يمكن الوصول إلى ذلك الباطن، ومن أجل الوصول إلى ذلك الباطن يجب رعاية الشروط والأعمال الظاهريّة بشكل كامل، يقول الإمام الخميني قدس‌سرهفي تعليقاته على شرح فصوص الحِكم: «إنّ الطريقة والحقيقة لا تحصل للسالك إلاّ من خلال طريق الشريعة، لأنّ الظاهر طريق إلى الباطن، والشخص الذي لا يصل إلى الباطن من خلال العمل بالتكاليف


1. سورة الأعراف، الآية 179.

الإلهيّة فيعلم أنّه لم يؤدّي الظاهر بشكل صحيح»[1].

وعلى هذا الأساس، نقول إنّ المصلّي إذا أقام الصّلاة بكامل أحكامها وشروطها، مثلاً الصّلاة في المكان المغصوب أو باللباس النجس وغير الطاهر، أو الصّلاة بدون رعاية استقبال القبلة بشكل صحيح، وكذلك سائر الأجزاء والشروط المعتبرة في الصّلاة، مثل هذا الشخص سوف لن يصل أبدا إلى معرفة أسرار وباطن وحقيقة الصّلاة.

وبعد أن ذكرنا المسائل السابقة بوصفها مقدّمة لهذا الموضوع، فإنّ أوّل مسألة في باب أسرار الصّلاة وقعت مورد إلتفات الأكابر من العلماء، مسألة حضور القلب في الصّلاة، فبعض الأكابر مثل المرحوم الميرزا جواد الملكي (رضوان الله‌ تعالى عليه)، ومن أجل أن يستطيع الإنسان أن يؤدّي صلاته بصورة كاملة ذكر لذلك ست مراتب:

ـ المرتبة الاُولى: حضور القلب. ـ المرتبة الثّانية: التفهّم.
ـ المرتبة الثّالثة: التعظيم. ـ المرتبة الرّابعة: الهيبة.
ـ المرتبة الخامسة: الرجاء. ـ المرتبة السّادسة: الفناء.

وقال رحمه‌الله: يجب أن يحصل للمصلّي هذه المراتبة الست، ليتمكن من أداء الصّلاة بصورة تامّة وكاملة، ولكن في كلمات الآخرين كالمرحوم الشهيد الثاني رحمه‌الله أو الإمام الراحل قدس‌سره في كتابه «سرّ الصّلاة» لم يرد التفكيك بين هذه الحالات والمراتب، وقد يكون هذا هو الصحيح، وذلك أن نطرح كلّ هذه المراتب كلّها مرّة واحدة بعنوان «حضور القلب»، بمعنى أنّ حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والفناء جميعها متعلّقة بمسألة حضور القلب كما سيأتي توضيحه.

ومن أجل أن يصل الإنسان إلى حقيقة الصّلاة يجب عليه أن يعيش حضور


1. تعليقات على شرح فصوص الحكم.

القلب وحضور القلب يعني أن يلتفت في قلبه بشكل كامل للصّلاة، وهنا من المناسب أن نذكر ثلاث نقاط فيما يتّصل بكلمة «قلب»، النقطة الاُولى: ما هو المراتب من كلمة «قلب»؟ وهل أنّ المراد من القلب في هذه المسائل هو تلك القطعة الصنوبريّة من اللحم، أو المقصود دماغ الإنسان الذي هو عضو من أعضاء بدنه، من الواضح أنّ المقصود ليس ذلك، والمراد من القلب في هذه المسائل تلك اللطيفة الربانيّة التي يطلق عليها أحيانا بالنفس، وأحيانا أخرى بالروح، وقد ورد في الآيات والروايات الشريفة: «لَهُم قُلُوبٌ لا يَعقِلُونٌ بِها»، فهؤلاء لهم قلوب ولكنّهم لا يستطيعون فهم هذه المسائل الدينيّة، وهذا يعني أنّ المراد من القلب هو وسيلة الإدراك والفهم، والقلب الذي له إقبال وإدبار، وله علاقة بشيء معين وله نفور من شيء آخر، وتارة يتّجه نحو شيء وأخرى يعرض عن شيء، والمقصود هو القلب الذي يملك البصر والعمى، وما ورد في الروايات من «طبع القلب» هو القلب الذي يعيش الرين والغشاوة، والقلب الذي طبع عليه، والقلب الذي يملك نورانيّة وظلمانيّة، فلو أجرينا مقارنة بين القلب اللحمي للمؤمن مع قلب الكافر فسوف لا نجد أي فرق بينهما، ولكن الروايات تقول إنّ قلب المؤمن نوراني وقلب الكافر ظلماني، فقلب الأشخاص الذين يملكون البصيرة والنورانيّة يرى الحقائق، وهذا هو ما يقال أحيانا في كلمات الناس بأنّه يرى بعين القلب، أو يجب أن‌ترى ذلك بعين القلب، ما هو المقصود من القلب هنا؟ القلب هو ما يعيش حالات القبض والبسط ويملك جميع الصفات الأخلاقيّة الحميدة، والفضائل الإنسانيّة تتعلّق بهذا القلب، وكذلك أنّ جميع الصفات السيّئة والرذيلة تتعلّق بهذا القلب أيضا، وهذا هو ما يبقى من الإنسان بعد موته، إذن فالمقصود من القلب في بحثنا هو هذا القلب.


12ـ المقصود من القلب في الروايات


بسم الله الرحمن الرحيم

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»[1]

وصلنا في البحث إلى معنى القلب وما يتعلّق به بشكل عامّ، ويقول الإمام الخميني قدس‌سره[2]: «في موجودات العالم، فإنّ نورانيّة وكمال كلّ موجود ترتبط بالصورة النوعيّة والكمال الآخير له، أمّا في الإنسان فإنّ كماله وسعادته مرتبطة بنفسه الناطقة وهي النفخة الإلهيّة التي يقول عنها الباري تبارك وتعالى: «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي...»[3]، ومقصودنا من القلب هو الحقيقة الإنسانيّة التي جعلها الله‌ وديعة في الإنسان، وهي الروح التي نفخت في هذا البدن المادّي وتستوعب جميع وجود الإنسان وتشكل حقيقته، ونحن في بحثنا عن أسرار العبادات نواجه مثل هذه الحقيقة، ونحن في مقام بيان هذه المسألة، وهي أنّ هذه الحقيقة الإلهيّة كيف يمكنها أن تكون أكثر نورانيّة، وكيف يمكن أن تفقد هذه النورانيّة، وكيف


1. سورة الأعراف، الآية 179.

2. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 15 ـ 16.

3. سورة الحِجْر، الآية 29.

تصل هذه الحقيقة إلى كمالها المنشود، وكيف لا تصل إلى الكمال؟ ثمّ بحثنا فيما يتّصل بالصّلاة والعبادات ما هو المقدار التي ترتبط هذه الحقيقة بفعل الإنسان، ولعلّه يمكن القول إنّ الله‌ تبارك وتعالى نفخ في وجود الإنسان هذه النفخة الرحمانيّة، والإنسان بدوره ينفخ في أفعاله من هذه النفخة الإلهيّة المودعة عنده، ويمنح أفعاله الحياة، وكلّما كانت رابطة الإنسان مع هذه النفس ومع أفعاله أشدّ وأقوى كان ذلك بمعنى حضور القلب.

النقطة الثّانية فيما يتّصل بالقلب، هي أنّ مراد من القلب بشكل عام، يعني بغض النظر عن مسألة الصّلاة، فقد ورد في الروايات الشريفة مسائل كليّة تتّصل بهذه الموضوع: «إِذا أرَادَ الله‌ بِعَبْدٍ خَيرا جَعَلَ لَهُ وَاعِظا مِنْ قَلبِهِ»[1].

فلو أراد الإنسان أن يفهم أنّ الله‌ تعالى هل يهتمّ ويعتني به أم لا؟ فإنّ إحدى العلامات لذلك هو أن يرى هل أنّ قلبه يسدي له الموعظة والنصيحة له أم لا؟ فعندما يجلس وحيدا في مكان ما ويفكّر في ارتكاب الذنب، فهل أنّ قلبه سينهاه عن ذلك ويلومه ويُوبّخه أم لا؟ هل أنّ قلبه يشوقه ويدعوه إلى أعمال الخير ويلفت نظره إلى الآثار والمعطيات الجيدة والسيّئة لأعماله أم لا؟ فربّما نرى البعض منّا وللأسف الشديد يرتكب بعض الأعمال المخالفة ولكنّه لا يجد في نفسه رادعا عنها ولا يجد قلبه يلومه عليها، وهذا يعني أنّ قلبه ليس واعظا له.

وكذلك ورد في بعض التعابير الأخرى: «مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ قَلبِهِ وَاعِظٌ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الله‌ حَافِظٌ»[2].

وهذا هو ما ورد عن القلب بشكل عام عبارة اسوداد القلب كما نقرأ في هذا النص: «قَلْبُ المُؤمِنِ أَجرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يَزهَرُ وَقَلْبُ الكَافِرِ أَسْوَدُ»[3].

واتفق أن ذكرنا أنّ المراد من القلب ليس هو القطعة من اللحم الموجودة في


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 70، ص 327.

2. المصدر السابق.

3. مرآة العقول، ج 9، ص 413.

الصدر، وهذا يعني أنّ الشخص الكافر قد أظلم نفسه وجعل قلبه أسود بأعماله، وهذه النفس لا تدعوه بالسير نحو الله‌ تعالى وعبادته، وهذه النفس تحوّلت إلى حقيقة مظلمة تماما، ولذلك أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام يقول في رواية: «إِنَّ القُلُوبَ ثَلاثَةٌ قَلبٌ مَنكُوسٌ لا يَعي شَيئا مِنَ الخَيرِ وَهُوَ قَلبُ الكَافرِ».

وهذا يعني أنّ مثل هذا القلب صار بمثابة الإناء والظرف لا ينسجم ولا يتناسب مع أي عمل نوراني.

«وقَلبٌ فِيهِ نُكْتَةٌ سَودَاءُ فَالخَيرُ وَالشّرُّ فِيهِ يَعتَلجَانِ فَأَيُّهُما كَانَتْ مِنْهُ غَلَبَ عَلَيهِ»[1].

وهذا هو النوع الثاني من القلوب حيث تزدحم فيه حالة الصراع بين الخير والشرّ.

«وقَلبٌ مَفتُوحٌ فِيهِ مَصابِيحُ تَزهَرُ وَلا يُطفَأُ نُورُهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ وَهُوَ قَلبُ المُؤمِنِ»[2].

وهذا هو ما ورد التعبير عنه بالنفس النورانيّة الإلهيّة التي منحها الله‌ تعالى للإنسان المؤمن، ولكن الشخص الكافر جعل من هذه النفس التي وهبها الله‌ تعالى إليه ظلمانيّة ولا مجال لاشراق النور فيها، بعكس قلب الإنسان المؤمن ونفسه، فهي محلّ تجلي الأنوار الإلهيّة والخيرات الربانيّة.

وعلى هذا الأساس، فمن جملة النقاط التي يجب الالتفات إليها هي هذا القلب، فينبغي أن نرى في كلّ يوم يمرّ علينا ما مقدار ما اُضيف إلى قلبنا من نورانيّة أو لا سمح الله‌ مقدار ما قلّ ونقص من نورانيّته ونرى الاختلاف في درجات نورانيّة القلب، وهذا الاختلاف يقع في باطن وحقيقة الصّلاة، نسأل الله‌ تعالى أن يزيد من نورانيّة قلوبنا جميعا.


1. مرآة العقول، ج 9، ص 413.

2. الكافي، الطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 422.


13ـ الذنب، سبب لظلمة القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

«كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»[2]

تقدّم أنّ القلب هو هذه النفس الربانيّة والإلهيّة التي أودعها الله‌ تعالى في وجود الإنسان ويستطيع الإنسان بواسطتها من إدراك الأمور الحسنة والسيّئة، والخير والشرّ، والصحيح والسقيم، ويميّز بين الحقّ والباطل، وعندما نستعرض الآيات والروايات في هذا المجال فسوف يتبيّن لنا المراد من القلب ما هو؟

يقول الباري تبارك وتعالى في القرآن الكريم: «وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ»[2] أو قوله:«وَطَبَعَ الله‌ عَلَى قُلُوبِهِمْ...»[3]، أو أنّ الله‌ يطبع على قلوب الأشخاص المذنبين، وفي دائرة الثقافة القرآنيّة لو أنّ الإنسان سقط في وادي الذنوب ولم يرجع عنها ويتوب، فعندما أذنب لأوّل مرّة لم يتب، واستمر في ارتكاب الذنب الثاني والثالث ولم يحدث نفسه عن التوبة والإنابة، ثمّ تراكمت


1. سورة المصطفين، الآية 14.

2. سورة الأعراف، الآية 100.

3. سورة التوبة، الآية 93.

عليه الذنوب والمعاصي إلى درجة أنّ هذه الذنوب غطت قلبه واستولت عليه، والقرآن يعبّر عن هذه الحالة بأنّ الله‌ تعالى يطبع على مثل هذا القلب الملوّث بالذنوب والمليء بالخطايا وبالتالي لا يتحرّك هذا الإنسان في طريق النور والحقّ والحقيقة، وجاء في آية أخرى: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، وهذا هو مقصود من الرين على القلب، أو أنّ الأعمال السيّئة التي يقترفها الإنسان من شأنها أن تستولي على قلبه إلى درجة أنّ هذا الشخص لا يستطيع بعدها التمييز بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشرّ، وهكذا يصاب قلب الإنسان بحالة الرين والطبع.

ونقرأ في رواية زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاّ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيضاءٌ فَإذا أَذْنَبَ ذَنبَا خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوَداء، فإنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوادُ، وإِن تَمادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوادُ حَتَّى يُغطِّي البَياضَ، فإذَا غَطّى البَياضَ لَمْ يَرجَعْ صَاحِبُهُ إِلى الخَيرِ أَبَدا...»[1].

ثمّ يقول الإمام عليه‌السلام مستشهدا بهذه الآية الكريمة وهو قول الله‌ عزّ وجلّ: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». وهذا هو معنى الرين على القلب.

وهكذا تبيّن المراد من القلب في النصوص، أي القلب الذي يعيش حالات الظلمة والنورانيّة، القلب الذي يتقبّل السعادة والشقاوة، القلب الذي يملك إقبالاً وإدبارا، وهذا هو المقصود من حضور القلب في الصّلاة.


1. الكافي المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 273.


14ـ آثار توجّه القلب وإقباله إلى الله


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام: «لَيسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤمِنٍ يُقبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلاتِهِ وَدُعائِهِ إِلاّ أَقْبَلَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيهِ بِقُلوب المُؤمِنين؛...».

النقطة الثّالثة فيما يتّصل بقلب الإنسان وهو نفسه وروحه الإنسانيّة، هي أنّ الإنسان إذا أقبل على الله‌ تبارك وتعالى في أي عمل وعبادة وخاصّة في صلاته، فإنّ هذا الأمر يتسبّب بأنّ الله‌ تعالى سيقبل عليه أيضا.

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام: «فَإذا صَلَّيتَ فَأَقبِل بِقَلْبِكَِ عَلَى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَيسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤمِنٍ يُقبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلاتِهِ وَدُعائِهِ إِلاّ أَقْبَلَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيهِ بِقُلوب المُؤمِنينَ إِلَيهِ وَأَيَّدَهُ مَعَ مَودَّتِهِم إِيَّاهُ بِالجَنَّةِ»[1].

وهذا يؤيّد أنّ أوّل ثمرة لحضور القلب والدعاء هي إقبال الله‌ تعالى على هذا العبد المؤمن «وَأَيَّدَهُ مَعَ مَودَّتِهِم...»، أي أيّد هذا الإنسان المؤمن بمودّة ومحبّة المؤمنين له.


1. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 209.

ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا أنّه قال: «إِذا قَامَ العَبْدُ المُؤمِنُ فِي صَلاتِهِ نَظَرَ الله‌ أو قَالَ أَقبَل الله‌ عَلَيهِ حَتّى ينْصرِف، وَأَظَلَّتْهُ الرَّحمَةُ مِنْ فَوقِ رَأسِهِ إِلى أُفقِ السَّماءِ؛

وهذا كناية عن أنّ مطر الرحمة الإلهيّة ينزل على هذا الشخص المصلّي الذي ارتبط قلبه بالصّلاة.

وَالمَلائِكَةُ تَحُفُّهُ مِنْ حَولَهُ إِلى أُفُقِ السَّماءِ، وَوَكَّلَ الله‌ بِهِ مَلَكا قَائِمَا عَلَى رَأَسِهِ، يِقُولُ لَهُ أَيُّها المُصَلِّي لَو تَعلَمُ مَنْ يَنظرُ إِلَيكَ وَمَنْ تُناجِي مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِكَ أَبَدا»[1].

إذن فإقبال القلب يؤدّي إلى إقبال الباري تبارك وتعالى على الإنسان، وهذه العبارة وردت أيضا في كلمات الإمام الخميني (رضوان الله‌ تعالى عليه) حيث يقول: «والله‌ يعلم في هذا الإقبال من الله‌ على عبده ماذا يحصل العبد على كرامات وأنوار لا يدركها عقل أي بشر ولا تخطر على قلب أحد»[2].

وهكذا هو إقبال الله‌ تعالى على الإنسان وليس مثل إقبال إنسان على إنسان آخر من قبيل إقبال الملك أو رئيس البلاد على بعض أفراد الشعب، أو من قبيل إقبال العالم على الجاهل، فإقبال الله‌ تعالى على عبده لا يقارن بمثل هذه الحالات من الإقبال، إذن فالصّلاة التي يصلّيها المؤمن بحضور القلب والتوجّه إلى الباري تعالى ستكون عاملاً على إقبال الباري تعالى عليه ونظره إليه وبالتالي فسوف تفتح عليه جميع أبواب السعادة ومعرفة الحقائق وتملأ وجوده الرحمة الإلهيّة، وتفتح له الأبواب الطرق إلى الكمال المعنوي، فهل يعقل أنّ الله‌ تعالى يُقبل على الإنسان وينظر إليه بنظر الرحمة ولا يؤثر هذا النظر فيه؟ الإنسان يستطيع بنظر


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 265.

2. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 27.

واحدة من الله‌ تعالى عليه أن يكشف الغموض عن الكثير من الحقائق العلميّة وتنحلّ أمامه العقد والمشاكل التي يواجهها في حياته، فيجب علينا أن نستثمر هذه الكرامات من الله‌ ونقبل عليه في صلاتنا.


15ـ مراتب حضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة لحضور القلب في الصّلاة لابدّ من ذكر مسائل كثيرة، فماذا يعني حضور القلب في الصّلاة؟ وما هي مراتبه وأسبابه وموانعه؟ وإذا تيسّر لنا إن شاء فسوف نبسط الكلام عن هذه النقاط المهمّة بلطف الله‌ تعالى وفضله، وسنتحدّث عن أهمّ هذه المسائل.

وسبق أنّ بيّنا أنّ بعض الأكابر ذكروا أنّ حضور القلب في الصّلاة يعتبر أحد الحالات المهمّة في طريق السلوك إلى الله، وذكروا لحضور القلب مراتب عدّة، المرتبة الأولى أنّ الإنسان يعلم أنّه يقف في محضر الله‌ تعالى وفي حضوره وهو في حال الحديث مع الله‌ ومناجاته ويمتثل لأمره، وفي هذه الصورة فما لم يلتفت الإنسان إلى هذا الموقع ولا يفهم ماذا يقول وما يؤدّي ولا يعلم ما هي حقيقة هذه الأفعال والأركان ولا ينتفع من هيئة الصّلاة، في هذه المرحلة ربّما لا يلتفت أيضا إلى قراءته الصحيحة في الصّلاة بلحن عربي دقيق.

والمرتبة الثّانية، أن يؤدّي هذه الكلمات وظاهر هذه الأفعال كما أراده الله

تعالى منه وأمر به، فيهتمّ كيف يقف بين يدي الله‌ في حال القيام؟ وكيف ينحني في حال الركوع والسجود؟ وكيف يتلفّظ بكلمات القراءة في قيامه وركوعه وسجوده؟ هذه مرتبة أخرى من حضور القلب.

أمّا المرتبة الثّالثة، أن يتوجّه إلى حقيقة هذه الأفعال والأذكار ويعلم ما هي حقيقة الركوع وفرقه مع القيام، ويعلم أنّ حقيقة السجود هي الفناء المحض في تبارك وتعالى، وما هو فرقه عن الركوع ويعلم ما هي معاني الأذكار بشكل كامل؟ كأن يدرك معنى قوله «الله‌ أكبر»، فعندما يبتدى‌ء المصلّي بالتكبيرات الابتدائيّة وبعد تكبيرة الإحرام عليه أن يفهم ماذا يقول وما معنى الكلمات والعبارات التي يتلفّظها في حال الصّلاة، وأنّ قصده ونفسه وعواطفه مصدقة لما يجري على لسانه أم لا؟ ويفهم ما هي حقيقة الذكر في الركوع وسائر الأذكار الأخرى.

والمرحلة الأعلى، أن يتوجّه بشكل كامل إلى الله‌ تعالى ويفنى في وجوده المبارك بحيث يستغرق في وجوده بالله‌ تعالى وتدخل الكلمات إلى قلبه، مضافا إلى أنّه في المرحلة السابقة فهم معنى «الحمد لله‌ ربّ العالمين»، فيفتح قلبه لمثل هذه الحقيقة بمعناها الواسع، وهذا المعنى الواسع هو أنّ الحمد من أي شخص يصدر ومن أي حامد ولأجل أي شيء فهو في الحقيقة حمد لله‌، فلو أنّ شخصا مدح عالما لعلمه، أو أكرم صالحا وزاهدا أو فنانا أو عارفا، فإنّه في الحقيقة إنّما يحمد الله‌ ويثني عليه فلا موجودة يستحق الحمد والثناء سوى الله‌ تعالى، فلو أنّهم أحضروا هذا المعنى العميق في قوله فإنّه يعني كما يقال أكابر علماء الأخلاق حضور القلب في الصّلاة، وبعد حضور القلب، نصل إلى الحالة الثّانية في الصّلاة، وهي حال التفهّم، فالكثير من آثار الصّلاة وثماراتها من قبيل المنع من الفحشاء والمنكر «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...»[1]، تتعلقّ بحالة التفهّم، يعني


1. سورة العنكبوت، الآية 45.

قبل أن يقول المصلّي بأي فعل من الأفعال الصّلاة عليه أن يفهم نفسه ماذا يفعل وقبل أن يتحدّث بأي كلمة عليه أن يفهم ماذا يقول، ويستمر به هذا الحال إلى آخر الصّلاة فيفهم حقائق الأفعال والأذكار.

الحالة الثّالثة، حالة التعظيم، والتعظيم هو العلم بعظمة الله‌ تعالى، ومعرفة الإنسان بعظمة الحقّ تعني أن يعلم أنّه يقف مقابل موجود عظيم ذو قدرة مطلقة يستطيع أن يقبل عمل هذا الإنسان أو ردّه، ويستطيع أن يكرم هذا الشخص أو يهينه، وبيده جميع أمور العالم، حتّى هذه الكلمات التي يذكرها في حال صلاته إنّما هي بواسطة عنايته ومشيئته، فالمصلّي يجب أن يدرك عظمة الموجود الذي يقف أمامه ويناجيه.

وتقدّم في رواية أنّ الله‌ تعالى يُوكّل ملكا من الملائكة للمصلّي يقول له: «...لَو تَعلَمُ مَنْ يَنظرُ إِلَيكَ...»، وتعلم من الذي تناجيه وتدعوه لم تفارق مكانك ولم تترك صلاتك، وستواصل صلاتك مرّة بعد أخرى، فالإنسان عندما يشعر في قلبه ووجوده بعظمة الحقّ تبارك وتعالى فكيف ينشغل فكره وذهنه بأمور أخرى؟ وعندما لا نلتفت إلى عظمة ذلك الموجود الذي نقف بين يديه فسوف ينحرف ذهننا وينشغل فكرنا بأمور أخرى، ولكن لو أنّ الإنسان استغرق في عظمة الله‌ تعالى وأدرك بوجوده وقلبه هذه العظمة فلا يمكن أن يلتفت إلى شيء آخر في حال الصّلاة.


16ـ خشوع وحضور القلب في الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ»[1]

ورد التعبير عن حضور القلب في الصّلاة بالخشوع، فعندما يتحدّث القرآن الكريم عن صفات المؤمنين في الصّلاة يقول: «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ»، فالشخص الذي يلتفت إلى أنّه يقف في مقابل عظمة الوجود المطلق، والشخص الذي يتوجّه إلى أنّه يقف في مقابل موجود عظيم إلى درجة أنّ جميع الوجودات التي تعتبر عظيمة تقع في مقابله ليس صغيرة فحسب بل هي صفر في مقابل عظمة الحقّ تبارك وتعالى، فمثل هذا الشخص سوف يشعر بحالة الخشوع في صلاته، وبديهي أنّ هذه الخشوع القلبي سوف يتجلّى على ظاهره وبدنه فيعيش بدنه حالة الخشوع أيضا، والشخص الذي يعبث في حالة صلاة بيده أو بلباسه أو برأسه ورقبته فإنّه لا يعيش حالة الخشوع، والشخص الذي يعبث بيده وقدمه أو ينشغل باصلاح لحيته وشعره فهذا الشخص لا يشعر بالخشوع في صلاته،


1. سورة المؤمنون، الآية 1 و 2.

فالقرآن يقول: إنّ الإنسان المؤمن هو الشخص الذي يعيش الخشوع في صلاته، يعني لا يكفي أن يقف المؤمن في الصّلاة والعبادة، ولا يكفي أن يهتمّ الإنسان في صلاته بظاهره وبدنه ويتوجّه ببدنه فقط، وهذا لا يعني حالة الإيمان الحقيقي في نفسه ويفرح مثل هذا الشخص بأنّه من زمرة المؤمنين.

وتقدّم أنّ الإنسان يستطيع من خلال الصّلاة أن يفهم مقدار معرفته لله‌ وتوحيده، ويستطيع أن يعين مقدار إيمانه بالصّلاة، فكلّما يكون خشوع الإنسان في الصّلاة أكثر فإنّ إيمانه بالله‌ تبارك وتعالى أكثر، والخشوع هو حضور القلب فمجرّد أن يشعر الإنسان أنّه يقف في محضر الله‌ تعالى وأنّه في حال الحديث مع الله‌ ومناجاته ويلتفت إلى مقامه بين يدي الله‌ فسوف يعيش حالة الخشوع.

ونقرأ في سورة الماعون المباركة: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»[1]، وهم الأشخاص الذين يعيشون الغفلة عن حالات الخشوع في الصّلاة فلا يدركون في مقابل أي موجود يقفون ويدعون.

وجدير بنا الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا العمل الشائن إلى أي درجة هو قبيح عند الله‌ ويوجب ابتعاد الإنسان عن ربّه أنّ الله‌ تعالى يقول: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ»، ويل هي أحد مراتب ودركات جهنّم العميقة، وهذا يعني أنّ هذا الشخص المصلّي كثرة ذنوبه أو شدّة كفره يستحق الويل والثبور، وهذا الويل الذي أعدّه الله‌ لهذا الإنسان غير ذلك الويل الذي نستعمله نحن فيما بينا ونقول: «الويل لفلان».

عندما لا نشعر بحضور القلب في الصّلاة يجب أن نفكّر بهذه الآية الشريفة وهو قول الله‌ تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ»، فلماذا أنّ الله‌ تعالى مع رحمته الواسعة وكثرة ألطافه ونعمائه على عباده يعبّر بهذا التعبير المخيف لهذا المصلّي الغافل


1. سورة الماعون، الآية 4 و 5.

ويقول له «ويل لك»؟ وذلك أنّ هذا الشخص عندما يقف للصّلاة بين يدي الله‌ تعالى ولا يلتفت إلى هذه الحقيقة، فهو بمثابة المستهزيء بهذا المقام، والشخص الذي يستهزيء بالله‌ تعالى يستحق مثل هذه العقوبة.

وجاء في رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام في حديثه عن أبيه الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنّه عندما كان يقف للصّلاة يتغيّر لون وجهه وعندما يصل إلى حال السجود لا يرفع رأسه إلاّ ووجهه يتصبب عرقا، أي يقول: إنّ أبي عندما يقف للصّلاة فإنّه يكون مثل جذع الشجرة لا يتحرّك أبدا إلاّ بما تحرّكه الرياح من ثيابه، أي أنّه لو تحرّكت عباءته مثلاً فإنّ ذلك بسبب حركة الهواء.

فهل اختبرنا أنفسنا في صلاتنا؟ وما مقدار سكوننا وأدبنا في مقابل تبارك وتعالى في صلاة ذات ركعتين، أو نتحرّك بحركات مختلفة في حال الصّلاة بحيث نبتعد عن أصل الصّلاة وحال العبادة؟

ويروي أبوحمزة الثمالي قال: رأيتُ عليّ بن الحسين عليهماالسلام يصلّي فسقط رداؤه عن منكبه، قال: فلَم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، قال: سألته عن ذلك فقال: «وَيحَكَ أَتَدرِي بَينَ يَدَي مَنْ كُنتُ إِنَّ العَبدَ لا يُقبَلُ مِنهُ صَلاةٌ إِلاّ مَا أَقبَلَ مِنها».

فقلت: جعلت فداك هلكنا.

فقال: «كَلاّ إِنَّ الله‌ مِتمّم ذَلِكَ لِلمُؤمِنينِ بِالنّوافِلِ»[1].


1. وسائل الشيعة، ج 4، ص 688.


17ـ موانع حضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الرضا عليه‌السلام: «طُوبى لِمَنْ أَخلَصَ للهِ العِبادَةَ وَالدُّعاءَ وَلَمْ يَشغَلْ قَلْبَهُ بِما تَرى عَينَاهُ وَلَمْ يَنسَ ذِكرَ الله‌ بِما تَسمَعُ اُذُنَاهُ».[1]

إنّ إحدى الحقائق المهمّة فيما يتّصل بصلاة العبادة، أنّ الصّلاة تتضمّن الكثير من الأسرار والحقائق والفوائد وقد فتح الله‌ تبارك وتعالى الطريق للإنسان لفهمها والتعرّف على مقدار من أسرارها، وبذلك يستطيع الانتفاع من هذه الصّلاة، فلو أنّه لم يؤدّي الصّلاة في وقتها فإنّ الله‌ تعالى فتح له باب القضاء فيستطيع قضاء الصّلاة في خارج وقتها، ولو أنّه لم يتمكن من الخضوع وحضور القلب بشكل صحيح في صلاته فإنّه يستطيع جبران ذلك بالنافلة.

ويروي زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال:

«إِذا قُمْتَ إِلى الصَّلاةِ فَعَلَيكَ بِالإقِبالِ عَلَى صَلاتِك، فإنّما لَكَ مِنها مَا أَقبَلتَ


1. سورة المؤمنون، الآية 1 و 2.

عَلَيهِ»، بمعنى أنّ الإنسان عندما يقف للصّلاة فإنّ الله‌ تعالى يقبل عليه بمقدار ما يعيش حضور القلب في هذه الركعات، «وَلا تعْبَث فِيها بِيَدِيكَ وَلا بِرأسِكَ وَلا بِلِحيَتِك وَلا تُحدّث نَفسَك»[1]، فهذه نقطة مهمّة جدّا وردت أيضا في كلمات النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله:

«إِنَّ العَبْدَ إِذا اشتَغَلَ بِالصَّلاةِ جَاءَهُ الشَّيطَانُ وَقَالَ لَهُ اُذكُر كَذا اذكُر كَذا حَتّى يُضِلُّ الرَّجُلَ أَنْ يَدرِي كَم صَلّى»[2]، فهذه الرواية عجيبة وفي غاية الغرابة، فإنّها تقرّر أنّ إحد أعمال الشيطان اهتمامه يدخله بالشخص المصلّي، والشيطان لا يهتمّ بالأشخاص الذين تركوا صلاتهم ولا يتعب نفسه في إغوائهم، ولكن الشخص الذي يقف للصّلاة والعبادة، فالشيطان يهتمّ بذلك لأنّ هذه الصّلاة تبعده إلى الأبد عن الشيطان، وهذه الصّلاة تعتبر سلاحا قويّا لمواجهة تسويلات الشيطان، فمن هذه الجهة فالشيطان لا يترك هذا الشخص بل يتحرّك بقوّة لصدّه عن ذكر الله، ويقول النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِذا اشتَغَلَ بِالصَّلاةِ» إنّ هذا الشخص عندما يقف للصّلاة يأتي الشيطان ويقول له: تذكر العمل الفلاني ويجب عليك أن تهتمّ بالعمل الفلاني وهكذا يقوم بتذكيره بأعمال أخرى حتّى ينشغل عن الصّلاة «اُذكُر كَذا اذكُر كَذا»، وعندما نقف للصّلاة فسوف نتذكر أننا يجب علينا اليوم أن نؤدّي العمل الفلاني ونتحدّث مع فلان شخص بكذا وكذا وربّما نتأسف على أننا لم نقل لذلك الشخص الكلام المناسب، وهكذا ينشغل ذهن الإنسان بأمور أخرى بعيدة عن ذكر الله‌ وحقيقة الصّلاة، وأساسا فالإنسان أحيانا يقول إنني إذا أردت أتذكر شيئا فإنني أتذكره في حال الصّلاة، هذا هو الشيطان الذي يذكر الإنسان في صلاته بما نسيه وغفل عنه.


1. وسائل الشيعة، ج 5، ص 463.

2. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 53، ص 269.

أيّها الإخوة والأخوات، عندما نقف بين يدي الله‌ تعالى ونقف للصّلاة والعبادة، فلو تذكّرنا مسألة علميّة أو غير علميّة، دنيويّة أو غير دنيويّة، كلّما يخطر في أذهاننا فعلينا أن نتذكّر هذا الحديث للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وأنّ الشيطان قد ساقنا إلى وادي الغفلة عن صلاتنا، والشيطان يريد أن نعيش الغفلة عن الله‌ وعن الذكر وعن حضور القلب لئلا نتقرّب إلى الله‌ تعالى ولا نحظى بإقبال الله‌ تعالى علينا، ومن هذا المنطلق يجب الاهتمام بمسألة حضور القلب في الصّلاة.

وجاء في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال:

«إِذَا كُنتَ فِي صَلاتِكَ فَعَلَيكَ بِالخُشُوعِ وَالإِقبَالِ عَلَى صَلاتِكَ فَإِنَّ الله‌ تَعالى يَقُولُ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهم خاشِعُون»[1].

ويقول الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في روايته عن أميرالمؤمنين صلوات الله‌ وسلامه عليه أنّه قال:

«طُوبى لِمَن أَخلَصَ للهِ العِبادَةَ وَالدُّعاءَوَلَمْ يَشغَلْ قَلْبَهُ بِما تَرى عَينَاهُ وَلَمْ يَنسَ ذِكرَ الله‌ بِما تَسمَعُ اُذُنَاهُ»[2]

وللأسف أنّ الإنسان أحيانا يقف للصّلاة في مكان تسمع فيه أصوات مختلفة حتّى أصوات اللعب واللهو فيستمع إليها هذا المصلّي فتثير في نفسه غبار الغفلة والإعراض عن الله، فأي صلاة هذه نصلّيها ونتقرّب بها إلى الله؟! يجب على المصلّلي أن يعيش حالات التوجّه إلى الله‌ في كلّ جوارحه وقلبه وأن يستقبله بنفسه وعينه واُذنه حتّى تستطيع مثل هذه الصّلاة أن تعرج به في عالم الملكوت وتصعد به إلى أجواء عالم القرب الإلهي.


1. وسائل الشيعة، ج 5، ص 473.

2. سورة المؤمنون، الآية 1 و 2.


18ـ ‌لزوم حضور القلب والخشوع


بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «اعبُدُ الله‌ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[1]

ذكرنا آنفا بعض الآيات والروايات المتعلّقة بحضور القلب في الصّلاة، ونوصي الإخوة والأخوات المؤمنين بأن يتمعّنوا في هذه الآيات والروايات الواردة في مسألة حضور القلب، ولو أنّهم التفتوا إلى مضمون هذه الروايات فسوف تتغير صلاتهم وتصبح صلاة أخرى، يقول النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «اعبُدُ الله‌ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، فهو يرى قيامنا وقعودنا ويسمع كلماتنا، والحقيقة أننا لو التفتنا في حال الصّلاة لكلام النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فسوف نشعر بحالة أخرى، ونعيش البهجة ونشعر بإقبال الله‌ تعالى علينا.

ونقرأ في رواية أخرى عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أيضا أنّه يقول:

«إِنَّ الرَّجُلَينِ مِنْ أُمَّتِي يَقُومانِ فِي الصِّلاةِ وَرُكُوعُهُما وَسُجُودُهُما وَاحدٌ وإِنَّ مَا


1. مصباح الشريعة، ص 453.

بَينَ صَلاتَهِما مِثلَ مَا بَينَ السَّماءِ والأَرض»[1]. فما هو هذا الشيء الذي خلق هذه الفاصلة البعيدة؟ هل هناك غير الخشوع والإقبال والتوجّه إلى الله‌ تعالى والحضور بين يدي في أفضل الصلاتين وانعدام هذا الحال في الأخرى؟

وجاء في رواية أخرى عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال:

«إِنَّ مِنَ الصَّلاةِ لَما يُقبَلُ نِصفُها وَثُلُثُها وَرُبُعُها وَخُمُسُها إِلى العُشرِ، وإِنَّ مُنها لَمَا يُلَفُ كَمَا يُلّفُ الثَّوبُ الخَلَقُ فَيُضرَبُ بِها عَلَى وَجَهُ صَاحِبِها»، في بعض هذه الصّلاة التي نصّليها لله‌ تعالى لا نشعر بها فتلف وتلقى على وجوهنا وتردّ علينا، وهذا يعني أنّ هذه الصّلاة لا قيمة لها عند الله‌ إطلاقا ولا تساوي شيئا في عالم الملكوت، وهكذا يتمّ إعادة هذه الصّلاة إلى صاحبها من موقع الرفض لها وعدم قبولها، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يعطينا قاعدة كليّة ويقول: «وَإِنَّ لَك مِنْ صَلاتِكَ مَا أَقْبَلَتَ عَلَيهِ بِقَلبِكَ»[2].

وجاء في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «وَالله‌ إِنَّهُ لَيَأتِي عَلَى الرَّجُلِ خَمسُونَ سَنةً وَما قَبِلَ الله‌ مِنْهِ صَلاةً وَاحِدَةً».

ثمّ قال عليه‌السلام: «فَأَيُّ شَيءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا؟»[3].

هل فكّرنا يوما فيما يتعلّق بصلاتنا الماضية وهل أنّها كانت مقبولة عند الحقّ تعالى؟ ونعرف بعض الكبار من المراجع أنّهم كانوا منذ بلوغهم وحتى قبل ذلك إلى آخر عمرهم يهتمّون بأداء صلاتهم بدقّة متناهية ويحافظون على وقتها ولكنهم كانوا يقولون، إنني أعدت صلاتي لسنوات عمري ثلاث مرّات، وهذا الاهتمام البالغ بالصّلاة بسبب هذه الروايات التي تتحدّث عن حضور القلب في الصّلاة ولأنّهم كانوا يقولون أنّه ربّما لم تكن الصّلاة التي صلّينا مورد قبول الباري


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 81، ص 249.

2. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 80، ص 260.

3. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 269.

تعالى أو إنّنا لم نُقبِل على الله‌ فيها وبالتالي فإنّ الله‌ تعالى لم يُقبِل علينا فيها، ولذلك نعيد هذه الصّلاة مادمنا أحياء لعلّها تكون مورد قبول وإقبال من الله.

لماذا نقصّر في أداء الواجبات والصلوات اليوميّة، ونوكل ذلك بعد فوت وقتها، ونوصي بقضاءها عنّا بعد وفاتنا؟ إذن ثمّة نقص وقصور في صلاتنا فيجب علينا مادمنا أحياء جبران هذا النقص والخلل، فركعة واحدة من الصّلاة التي نصلّيها ونحن أحياء لا تقبل المقارنة مع عشر سنوات من الصّلاة بعد وفاتنا، ويجب علينا أن نصلّي بحضور القلب وإقبال النفس على الصّلاة لكي تكون مقبولة إن شاء الله‌ من الباري تعالى بلطفه وكرمه.


19ـ كيفيّة تحقيق اللذّة من الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أفضل دليل على أنّ حضور القلب في الصّلاة أمر ضروري ولازم، الروايات الواردة في هذا الباب، فمن مجموع هذه الروايات يمكننا نستوحي نقاطا كثيرة، والالتفات إلى هذه النقاط الموجودة في الروايات، من شأنه تيسير حضور القلب لدى المصلّي، مثلاً ما ورد في رواية الإمام الباقر عليه‌السلام والتي نقلها المرحوم الكليني في كتابه «الكافي» أنّ المصلّي عندما يقف للصّلاة «وَكَّلَ الله‌ بِهِ مَلَكا قَائِما عَلَى رَأَسِهِ»[1]، فالالتفات إلى هذه النقطة يستدعي حالة الخشوع لدى المصلّي، فعندما يقف الإنسان للصلاة بين يدي الباري تعالى ويعلم أنّ الله‌ تعالى قد وكّل به ملكا وأنّ جميع الجنود الإلهيّة وملائكة السماء يتنظرون ليروا ماذا يصنع هذا الشخص، فساحة الربوبيّة، ساحة عظيمة جدّا، وعندما يعلم المصلّي أنّه قد فتح له الطريق لعالم الملكوت وفتحت له باب المناجاة والحديث مع الله‌ وكأنّ الله‌ قد فتح أبواب رحمته على هذا الإنسان المصلّي ودعا جميع الملائكة ليروا عمله


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 265.

فإنّ هذا الشعور وهذا الفهم من شأنه أن يخلق في نفسه حالة الخشوع وحضور القلب.

ولا يتصوّر المكلّف أنّه في حال الصّلاة لا يلتفت له أحد ولا يسمع كلامه أحد، ولا يرى أحد حركته وقيامه وقعوده، إنّ الله‌ تعالى عندما يرتكب المرء ذنبا وخطيئة فإنّه بحكم لطفه ورحمته به لا يسمح للملك بكتابة هذا الذنب في صفحة عمله، ويمنع المأمورين به من الاطّلاع على ذنبه، فكيف الحال عندما يقف الإنسان في صلاته بين يدي ربّه، فانظر ماذا يصنع الله؟ وماذا يوفّر له من أسباب التوفيق، وما هو حاله في عالم الملكوت؟ أحيانا نتصوّر أنّ الصّلاة هي تكليف ظاهري فقط ويجب علينا أداء هذا التكليف ونعتبر أنّ الله‌ تعالى مولانا قد طلب منّا امتثال هذا التكليف وأداء هذه الوظيفة ولا شيء آخر، في حين أنّ الصّلاة تخلق تحوّلاً كبيرا في عالم الإنسان وملكوته، وتصعد بالإنسان إلى مراتب عالية وتحشره في زمرة الملائكة الإلهيين، وتجعله مشهودا ومشهورا لهم، فعندما نقف للصّلاة ينبغي أن نستحضر هذا الملك الموكّل وجنود الله‌ الآخرين بل أحيانا نستطيع أن نجعل من هؤلاء الجنود الإلهيين واسطة بيننا وبين عالم الملكوت ونتحدّث بلسان القلب معهم لترتفع حاجاتنا ومناجاتنا بشكل أفضل إلى ذلك العالم.

علينا الانتباه إلى أنّ ذلك الملك موكّل من قِبل الله‌ تعالى، فماذا يقول هذا الملك؟ هل أنّ هذا الملك يريد أن يعلم أنّ هذا الشخص قد أدى واجبه أم لا؟ فلو أنّ الإنسان أصغى بقلبه إلى ذلك الملك ماذا يقول له:

«لَو تَعلَمُ مَنْ يَنظرُ إِلَيكَ وَمَنْ تُناجِي مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِكَ أَبَدا»[1]، أي أنّ الإنسان إذا علم في حال الصّلاة أنّ الله‌ تعالى ينظر إليه بنظره الخاص وأنّه في موقع حضور الله‌ تبارك وتعالى، فرغم أنّ جميع أعمالنا وحالاتنا وسكناتنا،


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 265.

ونومنا ويقظتنا وجميع أمورنا تحت نظر الله‌ تعالى، فلو أنّ الله‌ لم ينظر إلى هذا العالم لحظة واحدة لفني هذا العالم، ولكن في حال الصّلاة هناك نظر إلهي خاصّ، بمعنى أنّ الله‌ تعالى ينظر بنظر خاصّ إلى هذا الإنسان في حال الصّلاة، أي أنّه دخل في ضيافة الله‌ وفي مضيفه وجلس معه في لقاء خاصّ، ومع أنّ هذا اللقاء خاصّ بينه وبين الله‌ تعالى فإنّ الله‌ حشّد له كثير من العوامل ليشعر بهذه الحالة الملكوتيّة، فالملك يقول له:

«لَو تَعلَمُ مَنْ يَنظرُ إِلَيكَ وَمَنْ تُناجِي مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِكَ أَبَدا»، أنت في حال الحديث والمناجاة مع الموجود المطلق المهمين على جميع أجزاء العالم، وجميع العالم وما فيه بمثابة الذرّة الصغيرة والصفر أمامه، الموجود الذي يستطيع أن يفني هذا العالم بما فيه بطرفة عين، كما أنّه أوجد هذا العالم بطرفة عين، الموجود الذي يستطيع الإنسان أن يطلب منه كلّ ما يريد «إِنَّ الله‌ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِير»، الموجود الذي يعلم بما يجري في باطن الإنسان ويعلم بخطرات قلبه ونواياه، الموجود الذي يريد مصلحة الإنسان وخيره، وهكذا يقف المصلّي في مقابل مثل هذا الموجود العظيم ويناجيه ويدعوه، ويقول له هذا الملك: لو أنّك تدرك لذّة هذا النظر وهذه المناجاة «مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِكَ أَبَدا»، بحيث إنّك تترك جميع الأعمال وتستمر في صلاتك أبدا ولا تلتفت إلى شيء آخر أبدا، فتترك الدنيا وما فيها وجميع أمور المعيشة بل لا تلتفت إلى أحبّ الأشياء لديك، فلو أنّ الإنسان في حال الصّلاة أدرك ولو بمقدار قليل لذّة النظر والمناجاة مع الله، فإنّه لا يلتفت إلى ما سوى الله‌ أبدا، بل إنّك لا تريد أن تفعل شيئا سوى الصّلاة، ولهذا السبب أحيانا نرى أنّ أولياء الله‌ في بعض الأيّام يصلّون ألف ركعة من الصّلاة ولا يشعرون بالتعب والملل، وهم يعيشون دوما حالة البهجة واللذّة من مناجاتهم مع الله، فينبغي علينا أن نهتمّ بأمر صلاتنا، فإنّ أبواب لطف الله‌ وكرمه وفضله تنفتح علينا أكثر في صلاتنا، وسوف نذوق لذّة المناجاة مع الله‌ إن شاء الله.


20ـ الله‌ يتعهّد بالصّلاة، بإدخال المصلّي إلى الجنّة


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الصادق عليه‌السلام: «... مَنْ أَقَامَ حُدُودَهُنَّ وَحَافَظَ عَلَى مَوَاقيتِهِنَّ لَقِي الله‌ يَومَ القِيامَةِ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهدٌ يُدخِلُهُ بِهِ الجَنَّةَ».[1]

إنّ لحضور القلب في الصّلاة له آثار وثمرات كثيرة للمصّلي، وأحد هذه الآثار المترتبة على حقيقة الصّلاة هو أنّ الصّلاة بمثابة عهد بين الإنسان وربّه، فالمصلّي يعلم أنّ حقيقة الصّلاة هي عهد يوجده مع الله، وبهذه الطريقة يدخل هذا المصلّي الجنّة الخالدة والنعيم الدائم، وربّما يخطر في ذهن البعض هذا السؤال وهو: ما هو الفرق بين الإنسان المصلّي مع غير المصلّي؟ هل أنّ الفرق في أنّ المصلّي يؤدّي تكليفه الظاهري فيمتثل أمر الله‌ تعالى بالعبادة والصّلاة بينما الشخص الآخر لا يمتثل لأمر الله‌ ولم يؤدّي تكليفه الشرعي؟ أو أنّ هذه المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فحسب ما ورد في رواية نقلها المرحوم الكليني في كتابه «الكافي» من وجود عهد بين المصلّي وربّه من خلال هذه الصّلاة بحيث يكون المصلّي من أهل


1. مصباح الشريعة، ص 453.

الجنّة، يقول أبان بن تغلب: «كُنتُ صَلَّيتُ خَلْفَ أِبي عَبدِ الله‌ عليه‌السلام بِالمُزدَلِفةِ فَلَمّا انصَرَفَ إلتَفتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يا أَبانُ الصَّلَواتُ الخَمسُ مَفرُوضاتُ مَنْ أَقَامَ حُدُودَهُنَّ وَحَافَظَ عَلَى مَوَاقيتِهِنَّ لَقِي الله‌ يَومَ القِيامَةِ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهدٌ يُدخِلُهُ بِهِ الجَنَّةَ»[1]، وهذا يعني أنّ حقيقة الصّلاة هي عهد بين هذا المصلّي وبين الله‌ تعالى وبوسيلة هذا العهد يدخل هذا المصلّي الجنّة.

ونرى أنّ هذه الرواية قد عبرت عن الصّلاة بالعهد، يعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى يتعهّد في مقابل هذه الصّلاة التي صلاّها هذا الشخص وأقام حدودها وشروطها والتزم بخصوصيّاتها أن يدخله الجنّة، ولكن ما معنى هذا العهد؟ العهد عبارة عن التزام وتعهّد، فالله‌ تعالى يعقد عهدا وميثاقا بينه وبين هذا المصلّي، ونتيجة هذا العهد أنّ هذا الشخص يدخل الجنّة يوم القيامة: «وَمَنْ لَمْ قُيمْ حُدُودَهَنَّ وَلَمْ يُحافِظ عَلَى مَوَاقِيتِهِنَّ لَقِي الله‌ وَلا عَهَدَ لَهُ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، فحتى لو صرخ بأنني قد صلّيت جميع سنوات عمري وأدّيت ما عليَّ من الصّلاة في حياتي فلا يسمع له ويقال له: أين صلاتك؟ إنّ صلاتك لم تصعد إلى عالم الملكوت لكي يتسبّب في إيجاد هذا العهد بين الإنسان وبين الله‌ تبارك وتعالى.

وينبغي الالتفات إلى أننا في كلّ مرّة نقف بين يدي الله‌ تعالى للصّلاة فسوف ينعقد عهد جديد بيننا وبينه، وما ورد في الروايات أنّ الصّلاة تتسبّب في غفران الذنوب السابقة إنّما هو بسبب هذا العهد يعني عندما يؤدّي الإنسان الصّلاة بشكل صحيح مع توفّر جميع الشروط والخصوصيّات فإنّ الله‌ تعالى يتعهّد أن يمحو ذنوب هذا المصلّي ويغفرها له ويجعله من أهل الجنّة.

إذن فقد ورد في هذه الرواية أنّ هذا العهد بين الإنسان وربّه في دخول الجنّة يتمثّل في الصّلاة مع حضور القلب وتوفّر جميع شروط الصّلاة، فلو أنّ المصلّي


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، 267.

لم يراع هذه الشروط فإنّ صلاته لا تكون مقبولة عند الله‌ فيأتي يوم القيامة فلا يجد شيئا من صلاته قد كتب في صحيفة أعماله: «لَقِي الله‌ وَلا عَهَدَ لَهُ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، والآن لو لم يكن هناك عهد بينه وبين الله‌ فما هي النتيجة؟ «إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، وهكذا يتبيّن أنّ الإنسان لو أدى الصّلاة بجميع خصوصيّاتها فإنّها سوف توجب عهدا لهذا الإنسان من الله‌ وأنّه يستحق دخول الجنّة، ولكن إذا لم يكن هناك مثل هذا العهد فهذا الشخص لا يستحق الجنّة، بل يستحق العذاب، إذن فأحد الأثار والثمرات المترتبة على الصّلاة، إيجاد عهد بين الإنسان وربّه.

نرجو أن يجعل الله‌ تعالى صلواتنا بحيث يستوجب هذا العهد ببينا وبين الله‌ لكي نستحق دخول الجنّة بواسطة هذه الصّلاة إن شاء الله.


21ـ حقيقة الصّلاة تتجلّى في الركعة الاُولى


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الرضا عليه‌السلام: «... أَصلُ الصَّلاةِ إِنَّما هِي رَكعَةٌ وَاحدَةٌ».[1]

بالنسبة للعلاقة بين حقيقة الصّلاة وباطنها نواجه نقطة مهمّة وردت في الروايات الشريفة، وهي أنّ حقيقة كلّ صلاة تكمن في الركعة الاُولى منها، فلو أنّ المصلّي استطاع في الركعة الاُولى من صلاته منذ أن يكبّر تكبيرة الإحرام إلى نهاية السجدة الثّانية أن يحفظ حضور القلب بشكل كامل فإنّه يستطيع بمقدار معين الاطلاع على حقيقة وأسرار الصّلاة، وسبق أن ذكرنا أنّ الله‌ تبارك وتعالى لا يبخل على عباده بمعرفة حقائق الصّلاة وأسرارها ولا يحرمهم من هذا الفيض، ومن هذه الجهة اُضيفت لأصل الصّلاة وهي ركعة واحدة، ركعة ثانيّة أيضا، لأنّ غالبيّة الأشخاص ربّما لا يتوجّهون في الركعة الاُولى إلى حقيقة الصّلاة وخصوصيّاتها، وبعد ذلك قام النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أيضا بإضافة ركعة واحدة أو


1. وسائل الشيعة، ج 4، ص 53.

ركعتين لبعض الصّلاة اليوميّة، وكانت النتيجة أن أصبحت هذه الصلوات متكّون من ثلاث ركعات أو أربع ركعات، ولكن أصل وحقيقة الصّلاة هي الركعة الاُولى منها، ولكن بما أننا لا نستطيع غالبا أن نحصل على حضور القلب بشكل كامل في الركعة الاُولى بسبب تشتت الخاطر وتشتت الذهن وتناثر الأفكار، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى لم يوصد الطريق أمامنا فأضاف إليها الركعة الثّانية ليتمكّن المصلّي من جبران الفراغ والخلل الحاصل في الركعة الاُولى بهذه الركعة الثّانية.

وينقل صاحب كتاب «وسائل الشيعة» رواية عن كتاب «عيون أخبار الرضا» عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال:

«إِنّما جَعَلَ الله‌ أَصلَ الصَّلاةِ رَكعَتَينِ وَزِيدَ عَلى بَعضِها رَكعَةٌ وَعَلَى بَعضِها رَكعَتانِ، وَلَمْ يُزَد عَلَى بَعضِها شَيءٌ لأَنّه أَصلُ الصَّلاةِ إِنَّما هِي رَكعَةٌ وَاحدَةٌ، لأَنَّ العَدَدِ وَاحِدٌ فإِذا نَقصَتْ مِنْ وَاحِدٍ فَلَيستْ هِي صَلاةٌ فَعَلِمَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ العِبادَ لا يُؤدُّونَ تِلكَ الرَّكعَةَ الوَاحدَِةَ الَّتِي لا صَلاةَ أَقَلَّ مِنها بِكَمالِها وَتَمامِها وَالإقبالِ عَلَيها، فَقَرَّقَ إِلَيها رَكعَةٌ أُخرى لِيَتُمَّ بِالثَّانِيةِ مَا نَقَصَ مِنَ الأُولى فَفَرَضَ الله‌ عَزَّ وَجلَّ أَصلَ الصَّلاةِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ عَلِمَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أَنَّ العِبادَ لا يُؤدّونَ هَاتَينِ الرَّكْعَتَينِ بِتَمامِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَكَمَالِهِ، فَضَمَّ إِلى الظُّهرِ وَالعَصرِ وَالعِشاءِ الآخرِةِ رَكْعَتَينِ رَكْعَتَينِ»[1]، وهذا هو ما ورد في فقهنا بعنوان فرض النّبي، وعلى هذا الأساس يجب علينا السعي لنحصر فكرنا وبشكل كامل ونهتمّ لحضور القلب في الركعة الاُولى، وبشكل عام عندما نقف للصّلاة بين يدي الله‌ ولمّا كنّا لا نعلم متى يحين أجلنا وتحين ساعة الموت فينبغي أن نقول لأنفسنا أننا ربّما لا نوفّق لأداء الركعة الثّانية، فيجب تركيز الذهن والقلب بالصّلاة، وفي الركعة الاُولى بالذات، وهنيئاً


1. وسائل الشيعة، ج 4، ص 54.

للأشخاص الذين يعيشون هذه الحالة في صلاتهم، ولو أننا أوحينا إلى أنفسنا بمثل هذا التلقين وعندما نقف للصّلاة نفكر أنّ هذه الصّلاة هي آخر صلاة نصلّيها لله‌ فسوف نشعر بحالة روحية أخرى، وسوف نعيش حضور القلب أكثر، وهكذا تكون صلاتنا وعبادتنا لله‌ تعالى.


22ـ مراتب حضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِنَّ الله‌ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَأَعمَالِكُم وَإِنَّما يَنظُر إِلى قُلُوبِكُم».

أشرنا في البحوث السابقة إلى مراتب حضور القلب في الصّلاة، وأحد النقاط المهمّة في هذا الموضوع هو أن لا يتصوّر المصلّي أنّ حضور القلب في الصّلاة له معنى سطحي وساذج وهو مجرّد الالتفات إلى حضوره أمام الله‌ تعالى، وحضور القلب في الصّلاة له مراتب عدّة وبعض هذه المراتب ميسورة لجميع الناس، وبعضها الآخر لا يتيسر فهمها ودركها حتّى للعرفاء والكُمل من الأولياء فضلاً عن العمل بها وتجسيدها على أرض الواقع، وأساسا لو أننا أرادنا الوصول إلى حقيقة الصّلاة فيجب علينا سلوك هذه المراتب للحضور بشكل أكمل من السابق، أي أنّ حضور القلب في الصّلاة في هذا اليوم يجب أن تكون أكمل وأفضل من اليوم السابق، ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّه كلما توجّهنا إلى مراتب حضور القلب أقوى وأشد فإنّ كشف أسرار الصّلاة للإنسان يتيسر أكثر، حتّى يصل الإنسان إلى تلك المراتب العالية من حضور القلب وتنكشف بعض أسرار الصّلاة لبعض هؤلاء المصلّين كما ورد في بعض الروايات:

«إِنَّ الله‌ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَأَعمَالِكُم وَإِنَّما يَنظُر إِلى قُلُوبِكُم»[1]، ورغم أنّ تكليف الإنسان يكمن في الوصول إلى حقيقة وعمق الصّلاة وأسرارها من خلال سلوك طريق الظاهر، فلا أحد يمكنه أن يدعي الوصول إلى الحقائق من غير طريق الصّلاة، ولا يمكن أن يحقّق أي إنسان هذا الهدف بدون الصّلاة، فهذا ادعاء الجهلاء من الناس ولا يقوم على أساس متين، لأنّ الوصول إلى أسرار الصّلاة وهي عبادة لها أسرار خاصّة بها، لا يمكن الوصول إليها من طريق الآخر غير الصّلاة، ولكن بحسب هذه الرواية أنّ الله‌ تعالى ينظر في هذه الصّلاة إلى قلب المصلّي ونيّته.

إنّ نظر الباري تعالى إلى قلب المؤمن يترتب عليه أن يكون قلب المصلّي مستعدا لتلقي بعض الأسرار وانكشافها له، ومن هذه الجهة يستحب للإنسان في حال الصّلاة أن ينظر إلى موضع السجدة من صلاته وينتبه إلى أنّه يقف في مقابل أعظم موجود في هذا العالم فينظر إلى موضع سجوده والمكان الذي يضع أفضل وأشرف قسم من بدنه وهو جبهته، وهذا معنى حضور القلب، ولو أنّ الإنسان استطاع إيجاد بعض هذه المراتب في نفسه وفهمها فسوف تنكشف له أسرارها، وما ذكره بعض أولياء الله‌ أنّه توجد في بعض مراتب حضور القلب من اللذّة والبهجة ما لا توجد في مراتب أخرى.

وعلى هذا الأساس نؤكّد على هذه النقطة، وهي أنّ حضور القلب له مراتب متعدّدة، ولا ينحصر بعنوان ثابت وتوجّه إجمالي بأن يعلم الشخص أنّه واقف بين يدي الله‌ تعالى، وطبعا هذا المعنى لوحده يعدّ أمرا مهمّا جدّا، ولكن حقيقة حضور القلب لا تنحصر بهذا المقدار، بل هو أوّل قدم للمصلّي أن يعلم أنّه يقف بين يدي الله‌ القادر المطلق، إنّ هذا المعنى يعتبر أوّل وأقلّ مرتبة من مراتب حضور القلب، وهناك مراتب أخرى سوف نشير إليها لاحقا إن شاء الله.


1. بحار الأنوار، ج 67، ص 248.


23ـ الحضور الإجمالي: والاشتغال بحمد الله‌ وثنائه


بسم الله الرحمن الرحيم

«إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ».[1]

ذكرنا أنّ حضور القلب في الصّلاة له مراتب عديدة وأنّ الإنسان المصلّي يجب عليه الالتفات إلى هذه المراتب، وطبعا فإنّ فهم وتحقّق بعض هذه المراتب ميسور لجميع الأفراد والبعض الآخر ليس ميسورا للجميع، وفهم بعضها يعتبر محالاً للكثير من الناس.

ومن بين ثلاثة كتب معروفة تتحدّث فيما يخصّ أسرار الصّلاة وتكاليف المصلّين القلبيّة، كتاب «التنبيهات العلية» للشهيد الثاني رضوان الله‌ عليه، و«أسرار الصّلاة» للمرحوم الميرزا جواد الملكي التبريزي رضوان الله‌ عليه، و«سرّ الصّلاة» للإمام الخميني رضوان الله‌ عليه، وهذه الكتب الثلاثة تحدّثت عن هذا الموضوع بالذات، وأدقّ كتاب منها في بيان مراتب حضور القلب ما نراه في كلمات الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، بالرغم من أننا عندما نطالع كتاب


1. سورة الأنعام، الآية 79.

«سرّ الصّلاة» للإمام الخميني، فسوف يتبيّن لنا بشكل واضح أنّ الإمام قدس‌سره في كلامه هذا ناظر إلى كتاب الشهيد الثاني قدس‌سره، ولكن العمق والدقّة في بيان مراتب حضور القلب في كلمات الإمام الراحل قدس‌سره لا توجد مثلها في كتاب الشهيد الثاني قدس‌سره، الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه ذكر ثمان مراحل لحضور القلب وفي المرحلة الثامنة يقول: «إنّ هذه المرحلة لها مراحل عدّة نعجز عن فهمها ودركها وبيانها، وسنشير نحن أيضا إلى هذه المراتب بحدود معينة».

يقول الإمام الخميني قدس‌سره[1]: أوّل مرحلة من حضور القلب الحضور الإجمالي، للحصول على هذه المراتب ميسور لجميع الناس، فمعنى الحضور الإجمالي هو أنّ الإنسان يفهم قلبه ويعلم بأنّه يقف في مقام المدح والثناء للحقّ تبارك وتعالى، والمصلّي يعلم أنّه يقف في مقام التسبيح والتنزيه والتقديس وبيان صفات الباري تعالى وحمده، ولو أنّه لا يعلم كيف يكون حمده وتسبيحه، بل يعلم فقط أنّه في حال بيان صفات الله‌ وتسبيحه وتنزيهه، ولكنّه قد لا يلتفت إلى حقيقة هذا الوصف وبأي بيان وكلام، وهذا مثل الشاعر الذي يمدح شخصا كبيرا وجليلاً بحضور طفل، فهذا الطفل لا يعلم ما يقوله هذا الشاعر، ولكنّه يدرك أنّه يتحدّث عن مدح وتجليل هذا الشخص المحترم، وهكذا حال المصلّي وهذه أوّل مرتبة لحضور القلب، بأنّ يعلم المصلّي أنّه في مقام الثناء لله‌، وأي ثناء؟ أنّه كما أثنى الله‌ على نفسه وما ورد على لسان الخاصّين من أوليائه.

والإمام رضوان الله‌ عليه يلفت النظر إلى نقطة مهمّة لا يتيسر فهمها على الأشخاص العاديين، وهو أنّ الشخص الذي يحمد الله‌ ويثني عليه يقول فيما بينه وبين الله: إلهي! أنا لست جديرا ولائقا للثناء عليك، بل أنا اُثني عليك كما أثنى عليك أولئك الأولياء في صلاتهم وعبادتهم، وأنا اُسبحك واُثني عليك بلسانهم،


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 17.

هذا الثناء بلسان الأولياء بعيد عن أي شبهة الكذب والنفاق، فالإنسان إذا أراد أن يحمد الله‌ ويثني عليه من قِبل نفسه، بما أنّ قوله لا يتطابق مع عمله فسوف يرتكب الكذب والنفاق، ولكنّه عندما يحمد الله‌ ويثني عليه بلسان الأولياء فإنّ قوله يتطابق مع عمله.

ونقرأ في الصّلاة عبارات وأذكار خاصّة من قبيل قولنا قبل الشروع بالصّلاة: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»، فهل أنّ هذا الإنسان عندما يتكلّم بهذا الكلام صادق واقعا وأنّه يتوجّه فقط في هذه الحال إلى خالق السماوات والأرض أو أنّ وجهنا متوجّه نحو الدنيا حتّى عندما نقف للصّلاة فإننا نطلب من الله‌ تعالى حاجاتنا الدنيويّة، وعندما تكون عبارة «... وَجَّهْتُ وَجْهِي...»، خالية من الكذب والنفاق يجب علينا أن ننوي مثل هذه النيّة، أي كما أنّ أولياء الله‌ العظام مثل إبراهيم الخليل عليه‌السلام قال هذا الكلام وهذا الدعاء فأنا أيضا اُريد أن اُحقّق في نفسي هذا الدعاء، وعندما نصل إلى الآية «إِيَّاكَ نَعْبُدُ...»، وننظر إلى قلوبنا وباطننا فماذا نرى وماذا يوجد في نفوسنا من آلهة غير الله، إذن لا يمكن القول بأنّ هذه العبارة ذكرت من موقع الصدق.

إذا أردنا أن ينطلق هذا الكلام من موقع الصدق والحقيقة، فيجب أن ينطلق من موقع كلام الأنبياء والأولياء وأنّهم هكذا حمدوا الله‌ وأثنوا عليه في محضرك المقدّس وقالوا: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ...»، فنحن أيضا نذكر هذا الكلام في الصورة.

وينقل هذا الكلام الإمام رضوان الله‌ عليه في كتابه عن استاذه المرحوم شاه آبادي ـ قدّس سرّ ـ[1] وأنّه قال: إنّ الشخص الداعي يدعو بهذا الدعاء بلسان مصادره والقائل له، وهكذا الحال في غير الصّلاة فإنّ كلّ دعاء ندعو به ينبغي أن يكون بلسان ذلك الشخص الذي صدر منه هذا الدعاء، وبهذا المعنى سيكون


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 18.

الدعاء أقرب للإجابة وأفضل ممّا يقول الداعي ويدعو بهذا الدعاء بلسان حاله، والسبب في أنّ الكثير من أدعيتنا لا تقع موقع الإجابة هو لأننا ندعو بلسان حالنا، ولكن إذا دعونا الله‌ تعالى بلسان الأشخاص الذين صدر منهم هذا الدعاء ووصل إلينا فإنّ هذا الدعاء سيكون أقرب للإجابة.

إذن فاوّل مرتبة من مراتب حضور القلب هو الحضور الإجمالي الذي يكون ميسورا لجميع الأفراد، أي أننا نعلم بأننا نقف أمام الله‌ تبارك وتعالى بحالة الدعاء والثناء والتقديس والتسبيح.


24ـ الالتفات إلى قبول الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الصادق عليه‌السلام: «وَالله‌ إِنَّهُ لَيأتِي عَلَى الرَّجُلِ خَمسُون سَنَةً وَمَا قَبِل الله‌ مِنْهُ صَلاةً وَاحِدَةً فَأي شَيءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا...»[1].

أسلفنا أنّ حضور القلب التام يؤدّي إلى معرفة الإنسان بحقيقة الصّلاة وأنّ نورانيّة العبادة تتوقف على حضور القلب، وكذلك قلنا إنّ حضور القلب له مراتب عدّة، وأوّل مرتبة لذلك هي مرتبة حضور القلب الإجمالي، يعني أن يعلم المصلّي إجمالاً بأنّه مشغول في صلاته في مناجاة الباري تعالى وحمده وثنائه ولو لم يعلم بالألفاظ و الكلمات التي يحمد الله‌ تعالى بها أو لم يلتفت إلى مفاهيم ومعاني الألفاظ التي يذكرها في القراءة والركوع والسجود، بل يعلم بها المقدار وهو أنّه مشغول بتكريم وتعظيم الباري تعالى وتسبيحه وحمده وتقديسه.

وقبل بيان المراتب الأخرى لحضور القلب في الصّلاة نتبرك في كلامنا بذكر رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام: «وَالله‌ إِنَّهُ لَيأتِي عَلَى الرَّجُلِ خَمسُون سَنَةً وَمَا قَبِل الله


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 269.

مِنْهُ صَلاةً وَاحِدَةً...»، فبالرغم من أنّ هذا الشخص قد أدّى تكليفه الشرعي ولا يؤاخذ يوم القيامة على ترك صلاته ولا يقال له لماذا لم تصلّ؟ ولكن مع ذلك فإنّ صلاته لا تقع مقبولة عند الله‌ تعالى، فهذه الصّلاة ليست ممّا يترتّب عليها الآثار والثمرات الإلهيّة المقررة، وهذه الصّلاة ليست تلك الصّلاة التي ينظر الباري تعالى للإنسان بنظر اللطف والرحمة ولذلك يقول الإمام عليه‌السلام: «فَأي شَيءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا...»، وأي مصيبة أعظم وأشدّ من هذه الحالة؟ وهكذا ترون في كلام أهل البيت عليهم‌السلام السعادة والشقاء تدوران على ماذا؟ وقد جاء في الروايات أنّ الشخص يُوفّق للصّلاة في أوّل وقتها وبخاصّة صلاة الجماعة وبالأخصّ في المسجد فيكون من مصاديق الأشخاص السعداء.

وأحد العوامل المهمّة في ثقافتنا لنيل السعادة التوفيق للصّلاة في أوّل وقتها وفي جماعة، ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام في هذه الرواية أيضا أنّ الإنسان قد يمضي من عمره خمسين سنة وقد أدّى صلاته طوال هذه المدّة ولكنّ أيّا من صلاته لم تقع مورد قبول الباري تعالى وهو من أشقى الناس، فهل خلونا بأنفسنا في كلّ يوم وليلة لحظة واحدة لنرى أي مقدار من صلاتنا وقعت مورد القبول عند الله؟ هل نملك مثل هذا الحاجز بأن نتحمّل لدقائق معدودة محاسبة أنفسنا والتفكير في صلاتنا وركوعنا وسجودنا وقيامنا وقعودنا هل أنّها ارتفعت إلى السماء؟ وهل أنّها وقعت مورد قبول الباري تعالى؟ يقول الإمام عليه‌السلام إذا كان هذا الشخص بمثل هذه الحالة فهو شخص سعيد، ولكن لا سمح الله‌ إذا لم تقبل صلاته، أي أنّ عبادته ودعاءه وصلاته لم تترك أي أثر وبدون فائدة في ارتقائه المعنوي، فهذا يعني أعظم شقاء يعيشه هذا الشخص، ويتابع الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية: «وَالله‌ إِنَّكُم لَتَعرِفُونَ مِنْ جِيرانِكُم وَأَصحَابِكُم مَنْ لَو كَانَ يُصلِّي لِبَعضِكُم مَا قَبِلَها مِنْهُ...»، أي لو أنّ أحدا من جيرانكم أو معارف سلّم عليكم بسلام مقترن

بالاستخفاف فماذا يكون موقفكم منه؟ إذا كان سلامه عليكم من موقع الغرور والتكبر والأنانيّة، فهل تقبلون منه هذا السلام؟ ثمّ يقول عليه‌السلام: «اِنَّ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقبَلُ إِلاّ الحَسَنَ فَكَيفَ يَقبَلُ مَا يُستَخَفُ بِهِ»، هل صلاة التي نصلّيها ونتحدّث فيها مع الله‌ تعالى ولكن فكرنا وذهننا في ذلك الوقت مشغول بالأمور المادّيّة والدنيويّة، وكيف ندبّر أمورنا ومعاملتنا لنربح أكثر، أو كيف نستطيع أن نحصل على المقام والموقف الفلاني، مثل هذه المعاملة مع الله‌ تعالى الذي يعلم بنيّتنا وسريرتنا، فإنّها لا تحمل في مضمونها سوى الاستخفاف به، نعوذ بالله‌ أن تكون مثل هذه الصّلاة تصغيرا لشأنه جلا وعلا، فعندما ننتهي من هذه الصّلاة نهتم بكلّ شيء غيره، فهل يصحّ أن نتوقع بعد ذلك أن تكون هذه الصّلاة مقبولة عند الله‌ تعالى.

إذن يجب أن نهتمّ بأصل حضور القلب في الصّلاة ومراتبه، فلو أننا لم نملك القدرة على فهم مراتب حضور القلب فعلى الأقلّ تلك المرتبة الاُولى من حضور القلب الإجمالي والتي هي ميسورة للجميع، فلو لم يعلم الشخص الفرق بين التحميد والتسبيح والتنزيه فيكفي أن يعلم أنّه يقف بين يدي الله‌ تعالى وأنّه يذكر عظمته وجلاله.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا لحضور القلب في الصّلاة.


25ـ المرتبة الاُولى من الحضور التفصيلي فهم معاني الكلمات


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ بحث حضور القلب ومراتبه في الصّلاة يعتبر من البحوث المهمّة والضروريّة للإنسان المؤمن والمصلّي، وللأسف فإنّنا قضينا عمرا طويلاً دون أن نسأل من أنفسنا عن حضور القلب في الصّلاة أو نسأل من شخص عالم وعارف أو شخص كبير وصالح يملك حالة جيدة في الصّلاة عن هذه المسألة، أو نسأل من إنسان مهذّب يعيش حالة الشوق للصّلاة ما هو حضور القلب في الصّلاة؟ والأهمّ من ذلك نسأل عن النقاط المهمّة التي تركها لنا علماء الأخلاق الكبار والعرفاء وبخاصّة المسائل العميقة جدّا التي ذكرها الإمام الراحل في كتابه «سرّ الصّلاة»[1] والتي يصعب جدّا فهمها، ولكن بما أنّ الإمام الراحل قدس‌سره يتمتع بشخصيّة كبيرة ومهذّب فقد تجاوز الكثير من المراتب في سلوكه إلى الله‌ ووصل إلى مراحل عالية في طريق المعنويّات والسير إلى الله‌ تبارك وتعالى، فيرى الإنسان في هذ


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 15 ـ 23.

الكتاب بحرا من المعارف الإلهيّة قدّمها لنا الإمام الراحل قدس‌سره كهدية للاستعانة بها في هذا الطريق.

وبعد أن ذكرنا مرتبة حضور القلب الإجمالي نتحدّث عن مسألة حضور القلب التفصلي في الصّلاة، فالحضور التفصيلي للقلب في الصّلاة له خمس مراحل، المرحلة الخامسة بنفسها لها ثلاث مراتب سنتعرض لها بالمقدار الممكن والميسور لعموم الناس، وأوّل مرتبة من الحضور التفصلي للقلب هي أنّ الإنسان يفهم معاني الألفاظ التي يتكلّم بها في الصّلاة، من التكبيرات الافتتاحيّة (التكبيرات التي يأتي بها المصلّي أوّل الصّلاة قبل النيّة)، إلى تكبيرة الإحرام والقراءة وذكر الركوع، وذكر السجود وسورة الحمد التي تتضمن أصول معارف الدين من المبدأ والمعاد، وهي سورة فاتحة الكتاب، وكذلك سورة التوحيد التي تتضمن معارف عميقة جدّا، فيما يتّصل بالذات المقدّسة وصفات الباري تعالى، وحضور القلب بشكل تفصيلي هو أن يفهم المصلّي معاني ومفاهيم الكلمات التي يقولها ويعلم ماذا يتحدّث مع الله‌ تعالى وما هو مدلول الحمد والثناء في أذكاره؟

يجب أن يفهم قلب العابد والمصلّي في حال الصّلاة كلّ الكلمات التي يقولها، فعندما يقول: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»[1] عليه أن يفهم معنى هذه العبارة، ومن هنا يتّضح الفرق بين العالم والعابد، فالعالم يفهم معاني هذه الكلمات أمّا العابد فإنّه يفهم ظواهر هذه الألفاظ والكلمات لكنّه لا يفهم معناها والمفاهيم الكامنة فيها.

والنقطة المهمّة، أنّ كلّ إنسان لابدّ أن يفهم بمقدار إدراكه وفهمه معاني هذه الكلمات، ومن الخصوصيّات المهمّة جدّا للقرآن هي أنّ كلمات القرآن الكريم لها معنى واسع وعميق جدّا، ولذلك فالأشخاص وبسبب اختلافهم في الفكر قد


1. سورة الفاتحة، الآية 5.

يختلفون في فهم معاني هذه الكلمات والألفاظ، النقطة التي أشار إليها الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه في هذه المرتبة الاُولى هي أنّ الإنسان المصلّي لا ينبغي أن يتصوّر أنّ معاني الألفاظ محدودة بهذه الحدود التي يفهمها، فعندما يقول: «اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ»[1] وإذا فهم معنى هذه العبارة فلا ينبغي أن يتصوّر أنّ هذا المعنى محدود بفهمه وحدود إدراكه، وأحد الأمور التي تضرّ كثيرا بالإنسان أن يعتقد بفهمه فقط فيتوقّف عند حدود هذا الفهم، يجب أن يعلم أنّه قد فهم القليل من معنى الصراط المستقيم الذي يتضمّن معاني عديدة وواسعة جدّا، إنّ القناعة في باب فهم كلمات بعض ألفاظ الصّلاة من شأنها أن تعيق الإنسان في سيره وحركته العلميّة العمليّة، وهذه هي إحدى الحيل الشيطانيّة الشهيرة.

إنّ الشيطان يقول للإنسان في حال الصّلاة أنّ صلاتك ليست بأكثر من ذلك، وهو ما تفهمه من هذه الألفاظ والكلمات ويكفي أن تؤدّي هذه القراءة والأذكار بهذه الحالة وبهذا المعنى، وهكذا نرى أنّ الشيطان يسجن الإنسان في فهمه الخاطيء لأذكار الصّلاة، إذن ففهم معاني الكلمات يعدّ المرحلة الاُولى من المراحل الخمس لمراتب حضور القلب التفصيلي للصّلاة.

وبعد هذه المرحلة من فهم الإنسان لمعاني الألفاظ والكلمات هناك مراحل أخرى سنشير إليها لاحقا إن شاء الله.


1. سورة الفاتحة، الآية 6.


26ـ المرتبة الثّانية من الحضور التفصيلي: الفهم العقلي والبرهاني للكلمات


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الصادق عليه‌السلام: «إِذا قَامَ العَبْدُ فِي الصَّلاةِ فَخفَّفَ صَلاتَهُ قَالَ الله‌ تَبارَكَ وَتَعالى لِمَلائِكَتِهِ أَمَا تَرَونَ إِلى عَبدِي كَأَنَّهُ يَرى أَنَّ قَضَاءَ حَوائِجِهِ بِيدِ غَيرِي أَمَا يَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِيدِي»[1]

كان البحث حول حضور القلب في الصّلاة ومراتب الحضور، وتقدّم في البحث السابق استعراض المرتبة الإجماليّة من حضور القلب في الصّلاة وهي أنّ الإنسان يعلم أنّه مشغول بحمد الله‌ وثنائه ولو لم يعلم معاني الكلمات وحقائق الأفعال والحركات، أمّا المرتبة الثّانية وهي الحضور التفصيلي للقلب قلنا إنّ هذا المورد له خمس مراحل: المرحلة الاُولى فهم معاني ومفاهيم الألفاظ والأذكار، وقبل أن نستعرض المراتب الأخرى نتبرك بذكر هذه الرواية التي يرويها هشام بن صالح عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «إِذا قَامَ العَبْدُ فِي الصَّلاةِ فَخفَّفَ صَلاتَهُ.. قَالَ


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 269.

الله‌ تَبارَكَ وَتَعالى لِمَلائِكَتِهِ أَما تَرَونَ إِلى عَبدِي كَأَنَّهُ يَرى أَنَّ قَضَاءَ حَوائِجِهِ بِيدِ غَيرِي أَمَا يَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِيدِي»، وهذا يعني أنّ هذا الشخص يؤدّي صلاته بهذه الصورة وكأنّه يشرك بالله‌ تبارك وتعالى ويرى أنّ غير الله‌ مؤثر في قضاء حوائجه «أَمَا يَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِيدِي»، فلا يستطيع أي كائن آخر أن يحلّ مشاكله.

وهذه الرواية تشير إلى أنّ المصلّي إذا أراد أن تكون صلاته مؤثرة بشكل كامل فعليه مراعاة التوحيد الحقيقي، فالصّلاة وضعت من أجل تقوية التوحيد في الإنسان، وفي مقابل ذلك فالإنسان إذا أراد تقوية توحيده وإيمانه يوما بعد آخر ويعمّقه في واقعه النفساني يجب عليه أن يهتمّ بصلاته ويهتمّ بحضور القلب في الصّلاة.

المرتبة الثّانية من حضور القلب التفصيلي في الصّلاة هي أن يتحرّك المصلّي، بعد فهم مفاهيم الكلمات وفهم معنى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»[1]، لإدراك هذا المعنى العميق بالعقل البرهاني والاستدلالي ومن خلال العقل الباحث عن الحقيقة، يجب أن يفهم بحقيقة العقل أنّ الصراط المستقيم لا يستطيع الإنسان سلوكه وتعبيده إلاّ بالاستعانة بالله‌ تبارك وتعالى وأنّ الطرق الأخرى غير صحيحة وتقوده إلى هاوية الضلالة والانحراف، وعندما يدرك الإنسان مفهوما ومعنى معينا ويستدل على صحة هذا المعنى بالبرهان العقلي، فإنّ هذا المفهوم سيتعمّق في قلبه وأعماق نفسه ويعيش دوما مع هذا المفهوم والمعنى، فعندما يقوله: «الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»[2]، فيدرك جيدا بأنّ كلّ شخص وفي كلّ مكان يثني على أي شيء من الأشياء فإنّ هذا الثناء والحمد يعود إلى الله‌ ولا يوجد أي شيء يستحق الثناء والحمد غيره.


1. سورة الفاتحة، الآية 5.

2. سورة الفاتحة، الآية 1.

وعندما يقول له العقل أنّه لا شيء آخر في عالم الوجود سوى الله‌ يستحق الحمد والثناء، وأنّ الموجود الذي يتمتع باللياقة للحمد والثناء فقط هو الباري تعالى والذات المقدّسة، فمثل هذا الإنسان لو مدحه بعض الأشخاص في مناسبة معينة يقول: إنّي لا أستحق أي حمد وثناء، بل إنّ هذا الحمد والثناء يعود إلى الله، وهكذا نرى في المرتبة الثّانية من حضور القلب مع البرهان العقلي أنّ هذه المفاهيم ستتجلى لنا بشكل أوضح وأعمق وندرك حقيقة الصراط المستقيم بالبرهان العقلي، ونفهم معنى سورة التوحيد التي هي المنبع والمصدر لأصول معالم التوحيد، بشكل مبرهن ومستدل، نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا لإدراك وتحقّق مراتب حضور القلب في حال الصّلاة.


27ـ المرتبة الثّالثة من الحضور التفصيلي: التصديق القلبي


بسم الله الرحمن الرحيم

«يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله‌ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»[1]

بعد بيان المعنى الإجمالي لحضور القلب وصلنا إلى المعنى التفصيلي له، وتطرقنا إلى ذكر مرتبتين من المراتب التفصيليّة من حضور القلب، المرتبة الاُولي من حضور القلب التفصيلي أن يفهم الإنسان المصلّي المفاهيم اللغويّة والعرفيّة لكلمات والأذكار التي يقولها في الصّلاة، المرتبة الثّانية أن يفهم هذه الكلمات والألفاظ بإدراك العقل والبرهان العقلي، فينغرس هذا المعنى في أعماق فكره وعقله، وقبل بيان المرتبة الثّالثة من مراتب حضور القلب التفصيلي نشير إلى هذه الرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه‌السلام:

«عَنْ عُمَرَ بنِ أُذَينَةَ عَنْ زُرارةَ عَنْ أَبِي جَعفَر عليه‌السلام قَالَ: بَينَا رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهجَالِسٌ فِي المَسجدِ إِذ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَلَم يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ؛، أي أنّه لم يأتي


1. سورة الشعراء، الآية 88 و 89.

بركوعه وسجوده بشكل صحيح وكامل.

فَقَالَ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: نَقَرَ كَنَقرِ الغُرابِ؛ وهذا مثل يرد في لغة العرب ويعني أنّ حاله حال الغراب عندما ينقر الحبّة بشكل سريع، فمقدار الوقت الذي يستغرقه الغراب في تناول الحبّة سريع جدّا، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله هنا يقول: «نَقَر كَنَقرِ الغُرابِ»؛ وهذه كناية على سرعة ركوعه وسجوده دون أن يمكث قليلاً في الركوع أو يتوقف قليلاً في السجود بل هذا حاله كحال الغراب في تناوله للحبة، ثمّ قال النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله كلمة عجيبة جدّا ويجب علينا أن نتذكر دوما هذه الكلمة في ركوعنا وسجودنا قال: «...لَئِنْ مَاتَ هَذا وَهكَذا صَلاَتَهُ لَيَمُوتَنَّ عَلَى غَيرِ دِينِي»[1]، وهكذا ترون أنّ هذه المسألة إلى أي درجة من الأهميّة أنّ الأشخاص الذين يصلّون صلاتهم بسرعة وقبل أن يركع تماما تراه يبادر إلى السجود وقبل أن يتمّ سجوده يتشهد ويسلّم وقبل أن يتشهد ويسلّم ينتهي من صلاته، فحسب هذه الرواية التي ينقلها عمر بن اُذينة عن الإمام الباقر عليه‌السلام وهذا الإمام ينقلها عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهأنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهقال: إنّ مثل هذا الشخص إذا مات وكانت صلاته بهذه الصورة فإنّه يموت على غير ملة الإسلام، ومن هذه الجهة فإذا أردنا أن لا تكون صلاتنا مثل صلاة هذا الشخص يجب علينا تحقيق ومراعاة حضور القلب في الصّلاة، فيجب أن نعلم ما هي مراتب حضور القلب؟

المرتبة الثّالثة من حضور القلب وبعد أن يدرك الإنسان المفاهيم والمعاني للكلمات بالبرهان العقلي يقوم بحك وكتابة هذه المعاني على لوح قلبه، وهي مرحلة التصديق القلبي وهذه المرحلة تعني أنّ قلب الإنسان يتمتع بمرتبة فوق مرتبة العقل ويتقبّل هذه المفاهيم والمعاني فيصدّق ويؤمن بها.

الإنسان في بعض الموارد قد يدرك الكثير من الأمور بعقله ولكنه يعيش


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 268.

التزلزل والاهتزاز في قلبه، فقلبه لم يصل إلى مرتبة الاستقرار والاطمئنان رغم قبول العقل، والمثال الواضح لذلك ما يؤمن به الإنسان بعقله بالشخص الميّت وأنّ هذا الميّت غادر الدنيا ولا يستطيع أن يبعد ذبابة عن نفسه، ولكن لماذا يشعر الإنسان بالخوف عندما يبقى مع بدن الميّت في غرفة واحدة ويقضي ليلته معه فلا تجده مستعدا للبقاء لوحده مع هذا الجسد رغم أنّه يعلم بعقله أنّ هذا الميّت لا يضرّه أبدا، السرّ في ذلك أنّ قلبه لحدّ الآن لم يقتنع بما آمن به عقله، وعلى هذا الأساس فإنّ مرتبة التصديق القلبي تعتبر مرحلة أعلى من تصديق العقل.

المرتبة الثّالثة من حضور القلب هي أنّنا نسعى لكتابة هذه المفاهيم في لوح القلب وغرسها في أعماق النفس، فلو أنّ هذه المعاني رسخت في لوح القلب فإنّ هذا الشخص سيجد الإيمان والتصديق بهذه المفاهيم في جميع الحالات بل لا يحتاج بعدها إلى الاستدلال والبرهان، والمرحلة الثّانية يقوم الاستدلال العقلي بمساعدته في عمليّة التصديق، ولكن عندما ينفتح قلبه على هذه المفاهيم ويؤمن بها فلا تبقى حاجة للاستدلال العقلي، والنقطة التي أشار إليها الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه مهمّة جدّا، وأساسا فالإنسان صاحب القلب هو الشخص الذي وصل إلى هذه المرتبة، فالإنسان صاحب القلب يدرك الحقائق والمعارف الدينيّة بالرياضات العمليّة الكثيرة مع الرياضات العلميّة المتعددة ويعيش التقوى القلبي ويقبّل هذه المعارف في قلبه، فعندما يقول: «قُلْ هُوَ الله‌ أَحَدٌ»[1]، فبعد أن يفهم معنى هذه الكلمات وبعد أن يصدّق عقله بأنّ المقصود من التوحيد ليس هو التوحيد العددي، بل المقصود من التوحيد في الذات وهو أنّ الله‌ تعالى وجود وذات ليست قابل للتعدد ويمتنع أن يكون اثنين، وأساسا عندما يفهم العقل بوسيلة البرهان معنى التوحيد سينتقل هذا المعنى إلى قلبه ويستوعبه


1. سورة الإخلاص، الآية 1.

القلب بجميع وجوده ويدرك التوحيد في مقام الذات ويتقبّله ويؤمن به «يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله‌ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»، فالشخص صاحب القلب السليم هو الذي تترسخ هذه المعتقدات في قلبه من التوحيد والمعاد وكذلك المعارف الدينيّة الأخرى حيث تترسخ وتتعمّق في قلبه، المرحلة الثّالثة من حضور القلب التفصيلي هو أن نفهم وندرك هذه المفاهيم بقلوبنا ونوصل هذه المعاني إلى القلب، فلو أنّ الإنسان لم يوصل هذه المفاهيم إلى قلبه فإنّه على حدّ تعبير الإمام الراحل قدس‌سره: «لم يتلبس بخلعة الإيمان»، ولو لم يصل الإنسان إلى هذه المرتبة فإنّ صلاته لا تكون معراجا له في طريق الحقّ تعالى، فإذا أردنا أن تكون صلاتنا معراجا للمؤمن فيجب أن يصدّق قلبنا أنّ الوجود المستحق للعبادة هو الله‌ فقط، وهذا هو الموجود الذي ينبغي طلب المعونة منه، لا غيره، وهو الموجود الذي ينبغي تسبيحه وتقديسه، هذه الأمور يجب أن يتقبّلها الإنسان بقلبه ويصدّق بها في أعماق روحه.

وعندما يصل المصلّي هذه المرحلة من حضور القلب فإنّ هذه الصّلاة من شأنها أن تبعد الإنسان من الدنيا وما فيها وتحلّق به في عالم الملكوت بحيث لا يرغب في إنهاء صلاته، ولو انتهت صلاته فإنّه يشعر بالحزن والتأسف بأنّه فَقَد هذه الحالة الملكوتيّة، وبذلك يعود ليتهيأ للصّلاة الثّانية بكلّ رغبة وشوق.

إذا أراد الإنسان أن يبدأ بالسير إلى الله‌ وتخليص نفسه من قفص الأنانيّة، فالطريق إلى ذلك أن يؤمن ويصدّق قلبه بهذه المعارف.

نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يجعل قلوبنا جميعا وعاءً ومخزنا لهذه الحقائق والمعارف العالية الموجودة في الصّلاة إن شاء الله.


28ـ المرتبة الرابعة من الحضور التفصيلي: شهود حقائق الألفاظ


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد ورد في بعض الروايات أنّ أحد الطرق لوصول الإنسان إلى مقام العليين، وهو مقام سامٍ جدّا في الدنيا، هو مرعاة حضور القلب في الصّلاة، ونقرأ في الصّلاة على الميّت هذا الدعاء: «اللّهُمَّ اجعَلهُ فَي أعلى عِلِيين»، أي اجعل هذا الشخص في مرتبة عالية جدّا في جنّة الرضوان، وحسب الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ينقل فيها عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال:

«مَنْ حَبَسَ نَفسَهُ عَلَى صَلاةٌ فَرِيضَةٍ يَنتَظِرُ وَقتَها فَصلاّها فِي أَوَّلِ وَقتِها...»، بأن يضبط نفسه ولا يسمح لها بالانشغال بأمور الدنيا غير الله‌ تعالى، بل يكون مستعدا ومنتظرا لوصول وقت الصّلاة فيصلّيها لوقتها «وَأَتَمَّ رُكُوعَها وَسُجُودَها وَخُشُوعَها، ثُمَّ مَجَّدَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَعَظَّمَهُ، حَتّى يَدخُلَ وَقتُ صَلاةٍ أَخرى لَمْ يَلغُ بَينهما...» أي لم يرتكب بين هاتين صلاتين عملاً باطلاً وكلاما لغوا «كَتَبَ الله‌ لَهُ كَأَجرِ الحَاجِ وَالمُعتَمر وَكَانَ مِنْ أَهلِ علّيّين»، وهذه هي النقطة محل بحثنا،

فالشخص الذي يراعي في صلاته حضور القلب فإنّه ينال هذا المقام وهو مقام العلّيين في الجنّة.

ونتابع هنا ذكر مراحل الحضور القلبي التفصيلي في الصّلاة وتقدّم بيان ثلاث مراحل منه، يعني أولاً فهم معنى الألفاظ والكلمات، والثاني إدراك العقل وتصديقه، والثالث التصديق القلبي، أمّا المرتبة الرابعة فهي أن يصل الإنسان إلى مرحلة الشهود القلبي ويشاهد الحقائق الغيبيّة لمعاني هذه كلمات، ومرتبة الكشف وشهود الحقائق تعني أنّ الإنسان يرى بعين قلبه وبصيرته وبالعين الملكوتيّة التي يحصل عليها بسبب هذه الصّلاة، وتنكشف له الحقائق التي آمن بها بقلبه، فيقول: «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ»[1]، كأنّه يرى يوم القيامة ويشعر بقدرة الله‌ المطلقة في واقعه ووجوده ويرى تلك المشاهد في يوم القيامة تتجسم أمام عينه، وعندما يذكر الآيات والأذكار والعبارات الأخرى فهو يرى حقائقها في مرتبة الكشف والشهود، أي يرى بالعيان جميع هذه الحقائق الغيبيّة، وعندما يكبّر التكبيرات الافتتاحيّة للصّلاة فإنّه مع كلّ تكبيرة تزول الحجب فيما بينه وبين الله‌ ويشاهد جمال الله‌ وجلاله.


1. سورة الفاتحة، الآية 4.


29ـ المرتبة الخامسة من الحضور التفصيلي: الفناء في الحقّ تعالى


بسم الله الرحمن الرحيم

«هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»[1]

تقدّمت في البحوث السابقة الإشارة إلى مراتب حضور القلب في الصّلاة، وقلنا بأنّ المصلّي يجب أن يحقّق في نفسه التوجّه إلى هذه المراتب ويسعى لتحقيقها في واقع ووجوده أثناء الصّلاة، وحينئذٍ تتحوّل صلاته إلى صلاة أخرى ويشعر باللذّة والبهجة من هذه العبادة، وهذه اللذّة من هذه الصّلاة التي يعيشها فيها حضور القلب والمراتب العالية من هذا الحضور لا تقبل مقارنة مع أيّة لذّة أخرى، الإنسان الذي يعيش الأمل بفضل الله‌ والخشية من غضبه وإهماله، ويدخل إلى هذا الميدان ينال رضا الله‌ تعالى عنه، وقد وردت الإشارة في الروايات الشريفة إلى هذه النقطة المهمّة وهي أنّ الإنسان المؤمن عندما يقف أمام الله‌ تبارك وتعالى ويعيش هذا الإيمان به، فيجب أن يمتلك نورين، نور الرجاء ونور الخوف،


1. سورة الحديد، الآية 3.

وعندما نريد الشروع في الصّلاة ونستحضر هذه المراتب من حضور القلب في هذه الصّلاة فالطريق لذلك يبدأ من الشعور بالأمل بفضل الله‌ تعالى والخوف من عذابه والغفلة من سخطه

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «لا تَجْتَمِعُ الرَّغبَةُ وَالرَّهبَةُ فِي قَلبِ إِلاّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ»[1]، وأساسا فالشخص الذي يعيش الأمل برحمة الله‌ ويقول: إلهي أقف بين يديك واُريد التحدّث إليك فإنني أريد أن تأخذ بيدي وتفتح قلبي وتغرس كلماتك فيه، وأسألك أن تخلص فكري لك فقط ولا تجعل للشياطين طريقا إلى عقلي وقلبي، وأسألك أن تنقذني منها، فلو عاش الإنسان في حالات الأمل بفضل الله‌ والخوف من إعراضه عنه بأن تكون صلاته صلاة استخفاف واستهانة ويعلم ما مقدار الخسارة والضرر الذي يتحمّلها عندما يستخفّ بصلاته، في هذه الحالة يشرع في صلاته مع وجود حالتين الخوف والرجاء في نفسه، فسوف يكون إنسانا ملكوتيّا ومن أهل الجنّة.

وحتّى ورد في بعض الروايات أنّ الإنسان يجب أن يخشى من صلاته فيما لو كان مستخفّا بالله‌ فيها ويشعر بالخوف والوحشة أن يتحوّل وجهه إلى وجه حيوان، تقول الرواية: «لا تَجْتَمِعُ الرَّغبَةُ وَالرَّهبَةُ فِي قَلبِ إِلاّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، فإِذا صَلَّيتَ فَأَقبِل بِقَلْبِكَ عَلَى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ»، وبهذه الحالة تعلم ماذا يجري في قلبك عندما تقبل على الله‌ ومدى توجّه وجودك إلى الله‌ تبارك وتعالى، فماذا يعني إقبال القلب؟ وماذا يعني أن نفهم الكلمات والأذكار التي نقولها في الصّلاة؟ لا ينبغي مجرّد لقلقة لسان، بل أن نفهم مفاهيم هذه الكلمات بالعقل الاستدلالي والبرهاني ثمّ نوصلها إلى قلوبنا، والمرتبة الرابعة أن نصل في التوحيد الإلهي إلى مرتبة الشهود.


1. وسائل الشيعة، ج 4، ص 687.

المرتبة الخامسة عبارة عن حضور القلب في المعبود أو الفناء في الله، وهذه المرتبة تتكّون من ثلاث مراتب، ولكن بما أنّ هذه المرتبة خاصّة بالنوادر من الأشخاص وأولياء الله‌ المقرّبين، لذلك نكتفي هنا بالإشارة إليها، فهذه المرتبة هي أن يرى الإنسان الله‌ تعالى حاضرا وناظرا في كلّ مكان، ويرى كلّ شيء مظهرا لتجلي أسماء الله‌ وصفاته، يرى في كلّ شيء تجليات ذلك الوجود القادر المطلق الحكيم، لا أن يلتفت إلى هذا المعنى فقط بأنّه يقف في محضر الله، بل يراه حاضرا في كلّ مكان ويرى أنّ كلّ فعل من أفعاله إنّما هو فعله تعالى، وكلّ شيء يراه مظهرا لصفات الجمال والجلال، ويعتقد أنّ كلّ موجود هو في حقيقته الذات المقدّسة وكلّ شيء فانيا فيه ولا يوجد شيئا آخر في العالم سواه، ويصل إلى حقيقة والشهود الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهذا هو إقبال القلب في مقام الثناء، هذه إشارة إجماليّة إلى مراتب حضور القلب في الصّلاة، رزقنا الله‌ وإيّاكم إن شاء الله.


30ـ أسباب حضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد البحوث المهمّة جدّا في موضوع حضور القلب في الصّلاة وبشكل عام في مجموع العبادات، هو: ما هو العامل والعلّة لحضور القلب، وما هي الأمور المانعة من حضور القلب في الصّلاة؟ بمعنى أننا يجب أن نعلم ما هي عوامل حضور القلب في الصّلاة، والأمور التي تستدعي وتساهم في حضور القلب وأن يجد الإنسان نفسه في محضر الباري تعالى، ويقف في ساحة قدسه، والأمور التي تمهّد القلب في الدخول في ضيافة الله‌ والحديث مع الذات المقدّسة، وإلى جانب ذلك ينبغي البحث عن موانع هذا الحضور القلبي في الصّلاة؟

وتجري العادة أنّ علماءنا في كتبهم المقرّرة في موضوع أسرار الصّلاة يهتمّون أكثر بهذا القسم من موانع حضور القلب في الصّلاة، ولكن ينبغي أن نشير إلى كلا هاتين المسألتين، وقد أورد الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه في كتابه «أسرار الصّلاة» مسائل مهمّة جدّا وحيوية في هذا الموضوع كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله.

وبالنسبة لأسباب وعوامل حضور القلب في الصّلاة فإنّ أوّل نقطة ذكرها المرحوم الشهيد الثاني في كتابه «أسرار الصّلاة» هي أنّ المؤمن يجب دوما أن يلتفت إلى عظمة الله‌ تبارك وتعالى وجلالته، فلو أنّ الإنسان أدرك من جهة عظمة الله‌ تعالى وقدرته المطلقة ولا محدوديته، ومن جهة أخرى أدرك ضعف غير الله‌ تعالى وعلم من موقع العمق أنّ كلّ سوى الله‌ تعالى ضعيف وهزيل، والإنسان من بين جميع الموجودات يعتبر أضعفها قدرة وقوّة.

لو أنّ الإنسان أدرك واقعا ضعفه والتفت إلى أنّ قدرته إلى درجة من الضعف بحيث إنّ بعوضة أحيانا تستطيع أن تنهي حياته، وفي مقابل ذلك يفكّر في عظمة الباري تعالى، فهذا الأمر من شأنه أن يمهّد القلب لتشرق عليه الأنوار الإلهيّة ويكتسب الصفاء والنورانيّة في باطنه، وحينئذٍ النقطة المهمّة أنّ الإنسان إذا التفت دائما في غير الصّلاة لهذه الحقيقة وعاشها في جميع حالات حياته، في عمله وكسبه، في حال التعليم والتعلّم، وفي حال التدريس والتأليف، وعندما ينال مقاما ومنصبا، فلو أنّه استغرق دوما في التوجّه لعظمة الباري تعالى وعظمته غير المتناهيّة، فهذا من شأنه أن ييسر له التوجّه القلبي إلى هذه الحقيقة في الصّلاة، وإلاّ فإنّ الإنسان إذا لم يلتفت إلى هذه الحقيقة في غير الصّلاة فإنّ من الصعب جدّا أن يلتفت إليها ويعيشها بكلّ جهده في حال الصّلاة.

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد العوامل المهمّة جدّا في هذه المسألة أن يلتفت الإنسان إلى عظمة الباري تعالى وجلال قدره ومن ثمَّ يلتفت إلى حالة الخوف من عذاب الله‌ وبسبب هذا التوجّه تحصل له حالة الخوف من عذاب الله‌ والأمل برحمته تعالى، فالإنسان عندما يصدّق ويؤمن يقينا بعظمة الله‌ وجلاله فسوف تحدث في قلبه هاتين الحالتين من الخوف والرجاء، فيتصوّر أنّه إذا سخط الله‌ عليه فماذا سيكون حاله؟

وإذا ترك الله‌ تعالى هذا العالم لحظة واحدة فإنّ هذا العالم وما فيه سيتحوّل إلى رماد بل أقل من ذلك، ويلتفت إلى أنّ عذاب الله‌ لا يقبل المقارنة مع عذاب الدنيا، ويلتفت أنّ هذا الإنسان الذي لا يستطيع تحمّل أدنى مرتبة من العذاب الدنيوي كيف يستطيع أن يتحمّل العذاب الاُخروي، ويلتفت أنّ الله‌ تعالى لم يرتبط مع أحد من خلقه برابطة الإخوة والقرابة بل جميع المخلوقات هم عباده وأنّه تعالى يتعامل معهم بفضله وكرمه ولطفه ماداموا يستحقون مقام العبوديّة له، ولكن عندما يفقد العبد مقام العبوديّة ولا يكون جديرا بأن يكون عبدا لله‌ فإنّه يسقط في وادي العذاب والسخط الإلهي، ولو أنّ الإنسان في حال الصّلاة علم أنّه يقف أمام ذلك الموجود العظيم ويشعر بالخضوع والخشوع والخشية في قرارة نفسه فإنّ مثل هذا التوجّه القلبي يتسبّب في حضور قلبه في الصّلاة.

إذن فمن جملة عومل حضور القلب في الصّلاة: 1. عظمة الله؛ 2. الخوف من الله؛ 3. الرجاء برحمة الله، والعامل الرابع: أن يعلم الإنسان أنّه مقصّر دائما ويشعر بالندم بسبب تقصيراته في مقابل الحقّ تعالى، ولو أنّ الإنسان عاش هذه الحالة فإنّه عندما يريد أن يقف للصّلاة بين يدي الله‌ تعالى فإنّه يخاطب نفسه: كيف تأتي إلى الله‌ وتريد الحديث معه وأنت في هذه الحالة من التقصير، وأي شيء تريد تقديمه إلى الله‌ تعالى وبأي قلب؟ هل تقف بين يدي الله‌ بقلب ملى‌ء بالذنوب والملوّث بالخطايا، القلب المليء بوساوس الشيطان، القلب المفعم بآمال الدنيا وزخارفها؟ ولو أنّ الإنسان تقبّل تقصيراته واعترف بذنوبه وآثامه فإنّ هذه الحالة تعدّ من أفضل حالات الإنسان التي تمهّد له حضور القلب في الصّلاة، ولذلك ذكر الشهيد الثاني قدس‌سره أنّ الإنسان لا ينبغي بعد الإيمان بالله‌ أن ينفصل من جميع هذه الحالات.

نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا هذه الحالات المعنويّة ويوفّقنا أن نحقق في أنفسنا وفي وجودنا هذه الحالات والصفات المعنويّة إن شاء الله.


31ـ طريق التوجّه إلى عظمة الباري تعالى


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ أحد الأسباب المهمّة لحضور القلب أنّ الإنسان يلتفت في حال الصّلاة إلى موقعه ووقوفه أمام الموجود العظيم الذي لا يقبل المقارنة بأي موجود آخر، وهذا التوجّه إلى قدرة الله‌ المطلقة إذا شعر به الإنسان المصلّي وعاش بكلّ وجوده مدركا لهذه العظمة فإنّ حاله أثناء الصّلاة سيتحوّل إلى حال آخر، ولكنّ غالبية الأشخاص الذين يصلّون بسرعة ولا يلتفتون إلى أفعالهم وأذكارهم وهيئة الصّلاة فإنّ السبب في ذلك أنّهم لا يتوجّه إلى هذه الحقيقة ولا يدركون في مقابل أي وجود عظيم يقفون، وقد ورد في الروايات أنّ مثل هؤلاء الأشخاص ألا يخافون أن يقلب الله‌ تعالى وجوههم إلى وجه حمار، وهذا بسبب أنّ الصورة الواقعيّة والملكوتيّة لهؤلاء الأشخاص هي أقرب لصورة الحيوانات التي لا تفهم هذه الحقائق، وعندما لا يلتفت الإنسان إلى عظمة الله‌ ويعيش الغفلة عن هذه العظمة فإنّ وجهه الحقيقي سيكون مثل وجه هذا الحيوان، فحتّى لو كان هذا الشخص بحسب الظاهر إنسانا في حال الصّلاة ولكن وجهه وصورته الحقيقة

هي صورة هذا الحيوان، ومن هذا المنطلق يجب الالتفات إلى عظمة الباري تعالى.

ومن أجل أن نتوجّه إلى عظمة الله‌ تعالى يجب مراعاة أمرين: أحدهما: أن نعلم بأنّ الأفكار المتفرقة والذهن المشتت في الإنسان يبعد قلبه عن إدراك هذه الحقيقة، والثاني: ومن أجل أن تحصل للقلب حالة المناجاة مع الله، فالأشخاص الذين لا يلتفتون لله‌ تعالى ويعيشون حالة التشتت الفكري والذهني في صلاتهم، مثلاً لو كان هذا الشخص عالما ولكن فكره مشغول بالمسائل العلميّة أو طبيبا مشغول الذهن بأنواع الأدوية التي يوصي بها للمرضى، أو تحيط به أفكاره متناثرة ولا يستقر ذهنه وفكره على حال وبخاصّة في أثناء الصّلاة، فإنّ الشيطان، كما ورد في الرواية، يأتي إلى هذا المصلّي ويجعله يفكر خارج إطار الصّلاة والعبادة من قبيل معاملاته الدنيويّة أو طريقة تعامله مع الآخرين، وأحيانا يتذكّر الشخص في صلاته بأنّ الشخص الفلاني لم يحترمه في مجلس معين، ويفكّر في كيفيّة الانتقام منه ويتحدّث في ذهنه عن كيفيّة الردّ عليه، فجميع هذه الأمور شيطانيّة، وفي الوقت الذي يقف الإنسان فيه للصّلاة، وعندما تتبادر إلى ذهنه مثل هذه الأمور، سواءً المسائل العلميّة أو المسائل الدنيويّة فينبغي أن يتذكّر مباشرة هذه الرواية فيقول إنّ هذا من عمل الشيطان فلا ينبغي أن أسمح له أن يدخل إلى ذهني وتترسخ وساوسه في نفسي ولا يسمع لهذه الأفكار المختلفة أن تحيط بنفسه ويشغله عن صلاته.

الأمر الثاني، أن يوجد المصلّي في قلبه حالة من المناجاة والارتباط القلبي العميق مع الله‌ تعالى من موقع التضرّع والخشوع أمام عظمة الباري تعالى، لو أنّ الإنسان في كلّ صلاة اعتقد بأنّ هذه الصّلاة هي آخر صلاة يقيمها وآخر عبادة تصدر منه لله‌ تعالى، ويكون حاله حال الشخص المحكوم بالاعدام يطلب من

قاتله فرصة لأداء ركعتين من الصّلاة فكيف يكون حال هذه الصّلاة؟ إنّ هذا الشخص لا يفكّر إطلاقا بأمور الدنيا والمال والأولاد والمقام وأمثال ذلك، بل يسعى أن يحصر فكره وذهنه في التوجّه إلى الباري تعالى، ويعيش حضور القلب في صلاته وعبادته، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان دوما بأن يتصوّر أنّ هذه الصّلاة هي آخر صلاة يصلّيها لله‌، وليس فقط آخر صلاة بل في الركعة الاُولى يقول: ليس من المعلوم أن أوفق للاتيان بالركعة الثّانية، فليس من المعلوم أن أوفّق للسجود في هذه الركعة، فإذا كان حال الإنسان المصلّي كذلك فسوف يكون التفاته وتوجّهه إلى الله‌ بشكل كامل ويستغرق في عظمة الله‌ ويعيش الحالة المعنويّة العالية في مناجاة الله‌ والارتباط القلبي به والحديث معه ويقول: إلهي! إنني لم اُصلّ لحدّ الآن عدّة ركعات من صلاتي مع حضور القلب، ولكنني الآن اُريد أن اُصلّي ركعتين على الأقلّ مع التوجّه التام إلى ساحة عظمته وقدسه، يتحدّث الغزالي في كتابه «احياء علوم الدين» عن هذه المسألة وأنّ كبار العلماء كانوا يسعون دوما إلى إقامة ركعتين من الصّلاة بحيث لا ينشغلون في هاتين الركعتين بأمور الدنيا ولكنّهم عجزوا عن ذلك، وكذلك يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في إحدى محاضراته: أنا لا أستطيع القول إنني لحدّ الآن صلّيت ركعتين لله‌ تعالى، وهذا بسبب أنّ أداء ركعتين من الصّلاة بدون أي انشغال بفكر آخر غير الله‌ تعالى من أوّل الصّلاة إلى آخرها صعب ومشكل، والغزالي قد صرّح بهذا المعنى وقال إنّ الأكابر والعرفاء كلّما سعوا إلى تحقيق مثل هذه الصّلاة عجزوا عنها.

إذا اعتقد الإنسان أنّ هذه الصّلاة التي يصلّيها هي آخر صلاة في حياته وعلم أنّ هذه الصّلاة ستكتب في صحيفة أعماله وأنّ هذه الصّلاة تعتبر مصيريّة بالنسبة إليه وإلى مستقبله فماذا سيكون حاله في هذه الصلوات وربّما لا يرغب في

اتمامها؟ وسوف يأتي بهذه الصّلاة من موقع العشق والعلاقة مع الله‌ والرغبة في الحديث معه بكلّ وجوده ولا يرغب في أن ينهيها فيسلّم التسليم الأخرين لئلا ينتهي حال المناجاة مع الله، فلو أنّ الإنسان أدّى مثل هذه الصّلاة وحصلت له مثل هذه المناجاة بعيدا عن الأفكار المتفرقة والذهن المشتت، فمثل هذه الصّلاة من شأنها أن تخلق في نفسه حالة جديدة، وهذه الصّلاة التي يباهي بها الله‌ تعالى الملائكة، ومن الممكن التعبير عن هذه الصّلاة بأنّ الله‌ يلتذّ بها، نسأل الله‌ تعالى أو يرزقنا وإيّاكم مثل هذه الصّلاة.


32ـ رفع الموانع الخارجيّة لحضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الكلام عن أسباب وعوامل حضور القلب فإنّ أحد المسائل المهمّة الأخرى في هذه المسألة، بحث موانع حضور القلب، ويستفاد من كلمات الإمام الراحل رضوان الله‌ تعالى في كتابه «أسرار الصّلاة»: إنّ الإنسان إذا استطاع رفع موانع حضور القلب في صلاته فإنّ قلبه سيستعد تلقائيا إلى الحضور بين يدي الله‌ تعالى، رغم أننا ذكرنا أنّ هذا الكلام يستبطن مسألتين منفصلتين، وثمّة أسباب وعوامل لحضور القلب وكذلك ثمّة موانع لحضور القلب وهي مسألة أخرى.

وعندما نطالع كلمات الأكابر كالمرحوم الشهيد الثاني قدس‌سره في كتابه «التنبيهات العليّة»، الذي يتحدث فيها عن الأسرار والوظائف القلبيّة للمصلّي، يتحدّث فيها عن موانع حضور القلب ويقسمها إلى موانع خارجيّة وموانع داخلية ويقول ما معناه: أحيانا يكون بعض الأمور الخارجة عن ذات الإنسان مانعة من حضور القلب، وأحيانا أخرى أنّ الأفكار الداخليّة والقلبيّة ـ وحسب تعبيره ـ أنّ الخواطر القلبيّة الواردة مانعة من حضور القلب، وهذه الموانع الداخليّة والخواطر

القلبيّة تكون أشدّ من الأمور الخارجيّة عن ذات الإنسان»[1].

والنسبة إلى إلى الأمور الخارجية فالأمر واضح جدّا، فالمصلّي يجب أن يقف في مكان لا توجد مثل هذه الأمور التي تشغل ذهنه وتمنعه من التوجّه في صلاته، مثلاً إذا كان في مكان يجلس فيه بعض الأشخاص ويتحدّثون فإنّه إذا قام للصّلاة في هذا المجلس فسوف يستمع إلى كلامهم وبالتالي ينشغل فكره بهذه الكلمات والمناقشات، والقليل جدّا من الأشخاص الذين يصلّون في مثل هذا المكان ويملكون السيطرة على نفوسهم وآذانهم بأن لا يسمعوا شيئا من كلمات الآخرين أثناء الصّلاة، ولكن نوع البشر ليس كذلك، فعندما يصلّي أحدهم في مكان مليء بالأصوات أو لا سمح الله‌ تسمع فيه أصوات الموسيقى، فإنّه لا يمكنه السيطرة على ذهنه ونفسه من التشتت والانشغال بها.

ومن الجدير بالذكر أنّ الناس في هذا الزمان، وخاصّة المصلّين منهم يجب عليهم مراقبة أنفسهم وأن لا يصلّوا في غرفة تسمع فيها صوت الموسيقى، فهذا من شأنه أن يكون مانعا من حضور القلب في الصّلاة ولا ينبغي أن يقال إنّ صوت الموسيقى موجود ولكنني لا استمع له ولا ارتكب حراما بسبب ذلك، إنّ الاستماع إلى الموسيقى حرام ولكن سماعها ليس بحرام، ولذلك فأنا اُصلّي وأنشغل بصلاتي عن سماع الموسيقى، نعم، من الممكن تصحيح مثل هذه الصّلاة ببعض التبريرات، ولكن مثل هذه الصّلاة سوف لا تكون مقترنة بحضور القلب.

وهذا ما يقوله الشهيد الثاني قدس‌سرهفي هذا الكتاب، وفي المكان المزدحم والذي يوجد فيه بعض الأشخاص الذين يتحدّثون فيما بينهم لا ينبغي للإنسان أن يصلّي في مثل هذا المكان، ولا في المكان الذي يحتوي على مناظر متعددة ولوحات فنيّة من الرسوم والمناظر، ولا الأشياء التي تشغل فكر الإنسان وتجعله يتنقل من


1. اُنظر: التنبيهات العليّة، ص 86.

هذا إلى ذلك، وبالتالي فإنّ هذه المناظر والأصوات والأشياء المتنوعة تسرق فكر الإنسان وتشوش ذهنه فلا ينبغي الصّلاة في مثل هذه الأماكن.

فلو أنّه كان جالسا في مكان وتوجد أمامه مناظر تلفت نظره إليها وتقلل من انتباهه إلى العبادة في حال الصّلاة فيقول الشهيد الثاني: يجب على المصلّي أن يغمض عينه حتى لا يرى هذه الأمور، وأحيانا يتسبّب كتاب في انشغال ذهن الإنسان به، فيوصي الشهيد الثاني أن يصلّي هذا الشخص في مكان مظلم، ويبعد كلّما من شأنه أن يشغل فكره وحواسه من أمامه، بل إنّه يقول: ينبغي للمصلّي أن يقف إلى جانب الجدار لكي تكون رؤيته محدودة ومجال الرؤية ضيق فتقلّ اشتغالاته الفكريّة والذهنيّة ولا يصلّي على فرش مزينة ومنقوشة.

لماذا تكره الصّلاة على مثل هذا السجاد المنقوش؟

أحد الحِكم في ذلك هي أنّها تمنع ذهن الإنسان من التوجّه الخالص للباري تعالى، فعندما يقع نظر الإنسان على هذه النقوش والزخارف فسوف ينشغل ذهنه بها وبجمالها وبالصانع لها وتاريخ صناعتها، وقيمتها، وهذه هي الأمور التي تهدم صلاته وتزيل حضور قلبه في الصّلاة، ويقول الشهيد الثاني قدس‌سره أيضا: «كان المتعبّدون يتعبّدون في بيت صغير مظلم، سعته بقدر ما يمكن الصّلاة فيه ليكون ذلك أجمع للهمّ»[1]، وهكذا ينحصر ذهنهم وفكرهم في صلاتهم نحو الباري تعالى وبعيدا عن هذه المثيرات والمؤثرات.

وينقل الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه هذا الكلام للشهيد الثاني قدس‌سره ثمّ يقول: عندما يتحدّث الشهيد الثاني بهذا الكلام، وأنّ من الأفضل أن يصلّي الشخص في بيت مظلم وفي مكان بمقدار ما يمكن للصّلاة، فهذا يتعلّق بغير الصلوات اليوميّة الواجبة، لأنّ ورد في روايات عديدة أنّ إقامة الصّلاة اليوميّة في جماعة


1. التنبيهات العليّة، ص 85.

المسلمين من السنن المؤكّدة، وقال: إذا أدّى الإنسان هذه الوظيفة وعرف أسرار صلاة الجماعة فإنّه يمرغ أنف الشيطان بالتراب بحيث لا تستطيع أي عبادة أخرى أن تفعل هذا الفعل.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ الشيطان يشعر باليأس من الأشخاص الذين يقيمون الصّلاة مع الجماعة، وقال أيضا: إنّ اجتماع المؤمنين رحمة ويد الله‌ مع القلوب المجتمعة، وتتوفر في اجتماع المؤمنين فوائد روحيّة ومعنويّة قلّما تتوفّر في عمل آخر.

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد الأمور التي يجب على المصلّي مراعاتها هو أن يقف للصّلاة في مكان لا توجد فيه مناظر وأمور تشغل ذهنه عن التوجّه في صلاته إلى الله، ومن هذه الجهة يكره وضع صورة في المسجد حتّى لو كانت خلف المصلّي لأنّ ذلك من شأنه أن يلفت نظر الإنسان بهذا المقدار إلى ما هو موجود في تلك الصورة فيشغل ذهنه بها، فالتواجد في ذلك المكان يؤثر مثل هذا الأثر، ولذا يجب على الإنسان أن يهيى‌ء مكان صلاته والسجادة التي يصلّي عليها بحيث لا ينشغل ذهنه بغير الصّلاة وهذه نقطة مهمّة جدّا ذكرها المرحوم الشهيد الثاني قدس‌سره بعنوان الخواطر والأمور الخارجية.


32ـ رفع الموانع الخارجيّة لحضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة للموانع الخارجيّة المؤثرة على حضور القلب في الصّلاة وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ المصلّي يجب أن يصلّي في مكان بعيد عمّا يشغل ذهنه وفكره ويبتعد تماما عن الأمور المرئية والمسموعة، وأحد المندوبات في الصّلاة التي ذكرها فقهاؤنا، هو أنّ المصلّي ينبغي أن يكون نظره متوجّها إلى محل سجوده وإلى التربة التي يسجد عليها، ويلتفت إلى أنّ الله‌ تعالى أمر أن يضع أفضل قسم من وجهه ـ وهو الجبهة ـ على شيء لا قيمة له في العالم وهو التراب، وهذا يتسبّب بأنّ الإنسان يدرك أكثر عدم قيمته في مقابل عظمة الباري تعالى، وبالتالي فإنّ حالة العبوديّة تتوكّد وتترسخ في قلبه ونفسه.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا، أنّه مع وجود هذا الاستحباب نرى أنّ المرحوم الشهيد الثاني يقول في كتابه «التبيهات العليّة» ص 85: إذا انشغل المصلّي مع هذا النظر إلى التراب بأمور أخرى ولم يتوجّه قلبه في الصّلاة، فلا ينبغي له النظر إلى ذلك التراب أيضا، ولو رأى أنّه مع بقاء عينه مفتوحة فسوف يبطل حضور القلب

فينبغي إغماض عينه، وهذه النقطة مهمّة جدّا، وأنّ أمرا مستحبا مثل النظر إلى محلّ السجود إذا أدّى إلى فقدان المصلّي لحضور القلب في صلاته وانتقل ذهنه إلى أمور أخرى فمن الأفضل له اغماض عينه «لأن الفائت من وظيفة الصّلاة وصفتها بتقسيم الخاطر أعظم منه مع الإخلال بوظيفة النظر»، فالمهم في الصّلاة حضور القلب، ولو أنّ المصلّي فقد هذا الحضور القلبي بنظره إلى محلّ السجود فينبغي إغماض عينه لأنّ حفظ حضور القلب أولى،وطبعا فالمرحوم الفيض الكاشاني يذكر هامش لطيف في كتابه «المحجة البيضاء» على هذا الكلام للمرحوم الشهيد الثاني، وفي بعض الموارد نراه يقبل هذا الكلام للشهيد الثاني وفي موارد أخرى لا يقبله[1]، وعلى هذا الأساس فالجدير بالإمكان التحقيق بالمكان أو المنزل أو المسجد الذي يصلّي فيه بماء يحفظ له حضور قلبه، كما أنّه إذا علم أنّه لو صلّيت في المسجد وإلى جانبه أحد الأصدقاء الذي تربطه رابطة حميمة وقد يتسبّب في تشويش ذهنه وتذكر بعض الذكريات السابقة، فعليه أن يسعى للابتعاد عنه أثناء الصّلاة ويصلّي في مكان آخر، وعلى أية حال يجب علينا أن نسعى لمعرفة الموانع الخارجيّة لحضور القلب ولا نسمح لها بأن نخسر بسببها حضور القلب في الصّلاة.


1. يمكن أن يقال: «إنّ الغض وهو من خشوع الجوارح المأمور به، يعني عن الغمض فلا حاجة إلى ترك السند من وظيفة النظر». (محجّة الببضاء، ج 1، ص 373).


34ـ حبّ الدنيا، أساس الخواطر القلبيّة والأفكار المتناثرة


بسم الله الرحمن الرحيم

المهم في مسألة موانع حضور القلب عبارة عن الخواطر والمشاغل القلبيّة، يعني الافكار المتناثرة التي تشغل فكر الإنسان وذهنه مع غضّ النظر عن الأمور الخارجيّة، فحتّى عندما يغمض الإنسان عينه ولا يسمع شيئا يثير التشويش في ذهنه أو لا يوجد أحد أو شيء في مكان صلاته، فإنّ هذا المصلّي ربّما يتحدّث مع نفسه وتحيط بقلبه الأمور والأفكار ما يشغله عن صلاته ويمنع من حضور قلبه في الصّلاة، يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه وكذلك المرحوم الشهيد الثاني وبعض الأكابر أنّ السبب الحصري أو العلّة الرئيسيّة في هذه الخواطر القلبيّة، هو العلاقة بالدنيا وشدّة الحبّ لها والاهتمام بها وكلمة واحدة: الأشخاص الذين يفتقدون لحضور القلب في صلاتهم، فالسبب الأصلي لذلك هو حبّ الدنيا وتعلّق القلب بها، فأنتم ترون الذين يتحرّكون في حياتهم طلبا للمال والثروة، فهؤلاء يفكّرون في صلاتهم بهذه المسائل وفي العثور على الطرق والوسائل لتحقيق مزيد من الربح في معاملاتهم، والشخص الذي يتمتع بمنصب وبمكانة في

السلطة فإنّ فكره مشغول دائما التعرّف على مخالفيه والتفكير في كيفيّة ازاحتهم من طريقه، فحبّ الدنيا والتعلّق بها يتسبّب في أن ينصرف قلب الإنسان عن الله‌ ويتوجّه إلى أمور أخرى.

وهناك نقطة أشار إليها الإمام رضوان الله‌ عليه[1] في كلماته وهي: إذا كانت همّة الإنسان محصورة لتحصيل الدنيا فإنّ قلبه يميل نحو الدنيا وينشغل بها فقط إلى درجة أنّه لو انصرف عن فرع من الأمور الدنيويّة فإنّه سيتوجّه إلى فرع آخر وينشغل بالتفكير ببعض آخر منها، فلو أنّه انصرف عن التفكير في المال فسوف يفكّر بالأولاد، وإذا انصرف بالتفكير بالأولاد فسوف يفكّر في السلطة، ولو انصرف عن التفكير بالسلطة فسوف يتوجّه بالتفكير في الشهوة، وهكذا ينتقل من الشهوة إلى شيء آخر، ففكره ينتقل دوما من غصن إلى غصن آخر، ويقول رحمه الله: إذا ترسخت شجرة الآمال الدنيويّة وحبّ الدنيا في قلب الإنسان فسوف يكون قلبه كالعصفور الذي ينتقل من غصن إلى غصن آخر.

ثمّ ذكر الإمام الراحل قدس‌سرهأربع نقاط بوصفها طريق للحلّ وقال: إنّه مع رعاية هذه النقاط يستطيع الإنسان أن يقلع شحرة حبّ الدنيا من قلبه ويلقيها بعيدا، وإذا أراد الإنسان أن يعيش بقلب مطمئن ليحظى بنيل الكمالات النفسانيّة يجب عليه أن يحقق في نفسه هذه النقاط الأربع: فأولها مرحلة الرياضات والمشاهدات، فيتمرّن على عدم الاعتناء والاهتمام بالدنيا ويسعى لقطع علاقته القلبيّة بها، فلو أراد شخص اختبار نفسه ومقدار علاقته بالدنيا فيجب أن ينظر أنّه لو قيل له أنّك الآن يجب أن تغادر الدنيا الآن، فهل سوف يتحسر في هذا الوقت على ما بيده من أمور الدنيا من مال ومقام وأولاد أم لا؟ وهل يستطيع أن يقطع قلبه عنها أم لا؟ وهل أنّه مستعد في كلّ لحظة أن يسمع هذا الخبر أم لا؟ وهذه المرحلة من


1. سرّ الصّلاة (معراج السالكين، ص 30.

الرياضة مرحلة مهمّة جدّا فيجب على الإنسان أن يمارس هذه الرياضة ويجاهد نفسه ليقلع حب الدنيا من قلبه.

المرحلة الثّانية، التفكّر بعواقب ومعايب حبّ الدنيا، ويفكّر في عاقبة الأشخاص الغارقون في حبّ الدنيا ويدرس حالاتهم وحياتهم وإلى أين وصلوا وما هي عاقبة كلّ هؤلاء الملوك وسلاطين الجور والحكّام الظلمة، والأشخاص الذين يتجاوزوا على حقوق الآخرين إلى أين وصلوا؟ إنّهم لم يتركوا في التاريخ سوى الخزي والعار لهم ولم تبق لهم في أذهان المؤمنين سوى اللعنة عليهم، وهكذا يفكّر الإنسان في عاقبة هؤلاء الأشخاص العاشقين للدنيا ولزخارفها.

الثّالثة، التدبّر بالآيات والروايات الشريفة الواردة فيما يتّصل بذمّ الدنيا وحبّ الدنيا، كما سنشير إليها لاحقا.

الرابعة، التدبّر في حالات أولياء الله، ولو أنّ الإنسان فكّر والتفت إلى هذه النقاط الأربع فإنّ شجرة حبّ الدنيا ستنقلع من قلبه ووجوده، ولكن مادامت هذه الشجرة مترسخة في باطنه فحاله حال الشخص الذي يجلس أسفل شجرة مليئة بالعصافير ومشغول بقراءة كتاب، وبين فترة أخرى يضرب عصاه على غصن من أغصانها لتطير منه العصافير ثمّ يعود للقراءة، ولكن العصافير ستعود مرّة ثانية إلى الشجرة، ويقال لهذا الشخص: «إِذا أَردْتَ الخَلاصَ فَاقلَع الشّجَرَة»، وإلاّ فإنّك مهما حركة أغصان الشجرة وأبعدت العصافير عنها فإنّها سرعان ما تعود إليها، ولو أنّ الإنسان أراد أن يتخلص من التشويش الذهني والانشغال القلبي فيجب عليه قلع شجرة حبّ الدنيا من قلبه، نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا هذا التوفيق لازاحة حبّ الدنيا من قلوبنا إن شاء الله.


35ـ حبّ الدنيا أكبر مانع لحضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

حسب تصريح العلماء الكبار أمثال الشهيد الثاني والإمام الخميني رضوان الله‌ عليهما، فما يوجب عدم حضور القلب في صلاة الشخص بل في جميع العبادات هو حبّ الدنيا، وهذه المسألة يجب على المصلّي الاهتمام بها كثيرا، وعلى حدّ تعبير الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه فإنّه كلما كان مقدار حبّ الدنيا في قلب الإنسان أكثر فإنّ حضور قلبه في الصّلاة سيكون أقلّ، وكلّما كان مقدار حبّ الدنيا أقلّ فإنّ حضور قلبه في الصّلاة سيكون أكثر.

وروى الديلمي في «إرشاد القلوب» رواية عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام يقول: «إنَّ رسول الله‌ قال: «قَالَ الله‌ تَبارَكَ وَتَعالَى يا أَحمَدُ لَو صَلّى العَبْدُ صَلاةَ أَهِلِ السَّماءِ وَالأَرضِ وَيَصُومُ صِيامَ أِهلِ السَّماءِ وَالأَرضِ ويَطوي عَنِ الطَّعامِ مِثْلَ المَلائِكَةِ وَلَبِسَ لِباسَ العَابِدِينَ»، (أي يصوم ويصلّي مثل أهل السماء والأرض معلوم أنّ سكان السماوات أكثر بكثير من سكان الأرض، وهذه مسألة فرضيّة يعني أنّ مقدار الثواب إلى درجة من الكثرة بحيث إنّها بقدر صلاة أهل السماء والأرض)

«ثُمَّ أَرى فِي قَلْبِهِ مَنْ حُبِّ الدُّنيا ذَرَةً أَو سُمعَتِهَا أَو رِئاسَتَها أَو صِيتِهَا أَو زِيِنَتِها لا يُجاورُني فِي دَارِي وَلأَنزِعَنَّ مِنْ قَلْبِهِ مَحَبَّتِي وَلأَظلِمَنَّ قَلْبَهُ حَتّى يَنسَانِي ولا أَذِيقُهُ حَلاوَةَ مَحَبَّتِي»[1].

وهكذا ترون مقدار الآثار الوخيمة والعواقب السيّئة لحبّ الدنيا بحيث إنّ الله‌ تعالى رتّب عليها هذا المقدار من العقوبة الشديدة، وأساسا ورد في كتبنا الروائيّة، كما ذكر بعض العلماء والمحدّثين مثل المرحوم الشيخ الحرّ العاملي في كتابه «وسائل الشيعة»، بابا تحت عنوان: باب وجوب اجتناب الدنيا وحرمة محبّتها، وذكر في هذا الباب روايات كثيرة، فحبّ الدنيا إذا دخل قلب الإنسان فإنّه لا يزوق حلاوة عبادة الله، ولا يذوق طعم الارتباط القريب مع الله‌ ولا يسمح له بحضور قلبه في الصّلاة، الشخص الذي يستطيع أن يعيش حضور القلب في الصّلاة هو مَن انغرس حبّ الله‌ في قلبه فكان يشعر بالعشق لله‌ في أعماق وجوده وحياته.

ويذكر الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في هذا الموضوع نقاط أخرى مهمّة جدّا فيما يتّصل بالتوجّه وحضور القلب، ويقول: إنّ حبّ الدنيا بمثابة أشواك طريق الوصول إلى الكمالات الإلهيّة ومراتب المعنويّة، ومن شأنه أن يترك قلب الإنسان عن التوجّه إلى محضر الباري تعالى وبذلك يحرم من لذّة مناجاته.

إذا أردنا أن نعيش حضور القلب في صلاتنا يجب علينا تطهير قلوبنا من حبّ الدنيا والابتعاد عنها، وعندما يتحسر الإنسان لماذا لا يملك دارا واسعة ولماذا لا يملك ثروة كبيرة، ولماذا ليس له مقام وسلطة وأمثال ذلك؟ فإنّه كلّ ذلك يشير إلى حبّ الدنيا في قلبه وبيده وهو يمانع من حضور القلب في الصّلاة، وإذا أردنا أن تكون صلاتنا زاخرة بالعشق ومفعمة بلذة المناجاة مع الله‌ يجب علينا التقليل من حبّ الدنيا في قلوبنا، ونسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا لهذا الأمر المهمّ، إن شاء الله.


1. مستدرك الوسائل، ج 12، ص 36.


36ـ الدُّنيا المذمومة


بسم الله الرحمن الرحيم

«الدُّنيا دُنيَاءَانِ: دُنيَا بَلاغٍ وَدُنيّا مَلعُونَةٍ»[1]

تحدّثنا فيما سبق أن حبّ الدنيا بحيث يكون همّ الإنسان وغمه الوصول إلى الدنيا وزخارفها وتحصيل الرغبات والميول الدنيويّة في هذه الحياة يشكل أهم مانع لحضور القلب في الصّلاة، ومن هذه الجهة إذا كنّا نريد حضور القلب في الصّلاة لابدّ من اجتناب حبّ الدنيا والابتعاد عنها، ومن اللازم الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ المقصود من حبّ الدنيا ليس هو الكسب والعمل وتحصيل المعاش والرزق الحلال وتهيئة الأمور المعيشية في حدود حاجة الإنسان وشأنيته، والمقصود من حبّ الدنيا لا يعني الأشخاص الذين يملكون الثروة الكبيرة، فهذا لا يدلّ على وجود حبّ الدنيا في قلوبهم، وبالعكس الأشخاص الفقراء لا يدلّ ذلك على أنّهم بعيدين عن حبّ الدنيا، بل يعني إنّ التعلّق والارتباط الوثيق في شؤون الدنيا والاهتمام بها على حساب الأمور المعنويّة والاُخرويّة،


1. الكافي، ج 2، ص 131.

ومن هنا يُعلم حال الإنسان ومدى ارتباطه بالدنيا، فلو أنّ الإنسان فَقَد شيئا من أمور الدنيا وجلس يتحسر عليه، أو فَقَد مقاما ومنصبا أو خسر مالاً وجلس يتحسّر عليه ويحسب أنّه فقد كلّ شيء فإنّ مثل هذا الشخص خاضع للمقام والمال، ولكن إذا قال إنّ الله‌ تعالى وهب لي ذلك المال أو المقام سابقا والآن أخذه منّي وأشكر الله‌ على ذلك، ولو أنّ الله‌ أراد أن يعيده عليَّ أو يهب لي ما هو أفضل منه فهو قادر على ذلك، فهذا الشخص الذي يملك مثل هذه الروحيّة، التي تحكي عن عدم تعلّقه وارتباطه بأمور الدنيا، لا يكون من مصاديق المحبّ للدنيا.

يقول سماحة الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه في كتابه: «أسرار الصّلاة»: إنّ الدنيا الذميمة هي العلاقة والحبّ والتوجّه لها، وإلاّ فإنّ أصل عالم الملك من جهة «نرجو الدقّة في هذا التعبير» هو مظهر من مظاهر الحقّ تعالى، فالإنسان في عالم الدنيا يرى تجليّات الباري تبارك وتعالى، فكلّ شيء تراه في عالم الطبيعة يعكس قدرة جماله وتجليّاته، يعني أنّ الدنيا زاخرة بآثار عظمة الله‌ تعالى وتجلياته وكلّ شيء يشير إلى وجوده ويشهد على وحدانيّته، وكلّ شيء في عالم الوجود يعكس شهادة الوحدانيّة والتوحيد.

ومن جهة أخرى فإنّ عالم الدنيا، مهد تربية أولياء والعرفاء والعالمين بالله‌، لأنّ الشخص عندما يكون عارفا بالله‌ فإنّه في هذه الدنيا يكون عارفا، والشخص الذي أدّب نفسه وسلك الطريق إلى الله‌ تعالى فإنّه تحرّك في هذا الطريق المعنوي في هذه الدنيا ولا مكان آخر يمكن تصوّره لهذا السلوك المعنوي، ولذلك نقول إنّ الدنيا مزرعة الآخرة ويقول الإمام قدس‌سره: إنّ عالم الملك من أعزّ المشاهد والمنازل عند أولياء وأهل المعرفة، ثمّ يقول كلاما: وربّما لا يكون لدى الشخص شيئا من مال الدنيا، فلا يملك سيارة ولا دارا، ولا ثروة، ولا قدرة ومنصب ولكن قلبّه مملوء من حبّ الدنيا والتعلّق بها، وهذا هو السبب في أنّه يعيش الغفلة عن الله‌ ويكون كافرا بالله‌.

ولكن من جهة أخرى فربّما يملك الشخص ثروة وسلطة وجاه ومال كثير، ولكنّ قلبه غير متعلّق بهذه الأمور كما في النّبي سليمان بن داود عليهماالسلام، فقد كان رجلاً إلهيّا ونبيّا من أنبياء الله، فالنتيجة أنّ ذلك الشخص الذي يملك ثروة كبيرة فهذا لا يعني أنّه يعيش حبّ الدنيا وأنّ ذلك الفقير زاهد فيها ولا يعيش حبّ الدنيا، كلا فحبّ الدنيا لا يرتبط بما يملكه الإنسان وما لا يملك، بل يرتبط بذلك التعلّق القلبي للإنسان، بأي شيء دنيوي وبأي مقدار يشعر بالحزن والحسرة على فراقه، فالشخص الذي يشعر بالطمأنينة في قلبه لا يختلف حاله إذا ملك ثروة كبيرة أو لم يملك، فكلّ شيء يراه من الله‌ تعالى، فمثل هذا الشخص لا يعيش حبّ الدنيا والتعلّق بها في قلبه.

وجاء في كلام آخر للإمام الراحل قدس‌سره فيما يتّصل بهذا الموضوع أنّ بعض الأشخاص ربّما يعملون على تقسيم رغباتهم وميولهم فيجعلون قسما منها للعبادة ويملكون حضور القلب في الصّلاة، وفي ذات الوقت يبذلون مساعي كثيرة لجمع الأموال والثروة ولكنّهم لا يرتبطون بها في قلوبهم، ولعلّ هؤلاء ينالون سعادة الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأساس ينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من حبّ الدنيا المذمومة كما وردة في الروايات من الدنيا الملعونة هو التعلّق بالدنيا والارتباط بالأمور المادية والدنيويّة التي وهبنا الله‌ إيّاها في هذه الحياة، فلو أننا سعينا لاجتناب حبّ الدنيا وتطهير قلوبنا منه فعندما نستطيع تحقيق حضور القلب في الصّلاة.


37ـ أصل جميع الفتن وعدم التوجّه إلى الله‌ في الصّلاة حـبّ الـدني


بسم الله الرحمن الرحيم

«يا مُوسى لا تَركَنَّ إِلى الدُّنيا رُكُونَ الظَّالِمِينَ وَرُكُونَ مَنْ اتَّخَذَها أَبَا وَأُمّا»[1]

يتحدّث الشهيد الثاني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «التنبيهات العليّة»[2]، عن هذه المسألة وأنّ الشخص الذي يهتمّ لتحصيل الدنيا ويعيش حبّ الدنيا في قلبه ليس من أجل أن تكون الدنيا مقدّمة لآخرته، فمثل هذا الشخص لا ينبغي أن يتوقّع الحصول على لذّة المناجاة مع الله‌ تعالى «مَنْ فَرَحَ بِالدُّنيا فَلا يَفرَحُ بِالله‌ وَبِمُناجَاتِه»، فمثل هذا الشخص إذا حصل على مال ومقام ومنصب أو سلطة فيشعر بالفرح الكبير لهذه الأمور ولذلك فإنّه لا يشعر بالفرح والبهجة من ذكر الله‌ ومناجاته وعباداته، ولو أنّ الإنسان المصلّي أحس بعد صلاته بالنشاط والفرح يغمر وجوده فليعلم أنّ صلاته كانت مع حضور القلب، ومن لم يشعر بمثل هذ


1. الكافي، ج 2، ص 135.

2. التنبيهات العليّة، ص 88.

الإحساس بل كان يشعر بأنّ صلاته أمر مفروض عليه وتكليف يؤدّيه بصعوبة، فمثل هذا الشخص قد ملأ حبّ الدنيا قلبه وأحاطت بالدنيا بقلبه وإن كان لا يعلم بذلك، الشخص الذي تكون الدنيا قرّة عينه ومصدر فرحه وهمّه وغمّه لا يمكن أن تكون الصّلاة قرّة عينه ولا أن تكون المناجاة مع الله‌ باعثا لفرحه وبهجته.

وعلى هذا الأساس وبحسب ما ورد في ثقافتنا الدينيّة نعتقد بأنّ الشخص الذي يتحرّك نحو تحصيل المال والثروة يستطيع أن يجعل هذا المال مقدّمة لنيل التقوى والزاد للآخرة، ونقرأ في رواية عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهأنّه قال: «نِعَمَ العَونُ عَلَى تَقوى الله‌ الغِنى»[1]، فقد يساعد المال والثروة صاحبه لنيل تقوى الله‌ تعالى، وتحصيل المزيد من المثوبات كالإنفاق في سبيل الله‌ والاهتمام بمدّ يد العون للمستضعفين والمساكين ولكن إذا كان هدف الإنسان من تحصيل المال ليس طلب الآخرة ولا يجعله مادّة لنيل الثواب، فلا يتوقع على أن يحصل على حضور القلب في الصّلاة.

ومن أجل توضيح مسألة حبّ الدنيا أكثر والاهتمام بهذه المسألة المهمّة جدّا ينقل المرحوم الكليني في المجلد الثاني من أصول الكافي باب ذم الدنيا والزهد فيها روايات كثيرة، يقول في إحداها: كلّم الله‌ تعالى نبيّه موسى وقال: «يـا مُوسى لا تَركَنَّ إِلى الدُّنيا رُكُونَ الظَّالِمِينَ وَرُكُونَ مَنْ اتَّخَذَها أَبَا وَأُمّا»، أي لا ينبغي للإنسان أن يرتبط بالدنيا بشكل وثيق بحيث يغفل عن وجود الجنّة والنار والآخرة وكأنّ كلّ شيء هذا العالم محصور في هذه الحياة الدنيا، فالحاكم الظالم الذي يقتل ويسفك دماء الأبرياء، لأنّه يتصوّر أنّ الحياة كلّها منحصرة بهذه الدنيا وكلّ شيء يتعلّق بهذه الحياة، ومن هذه الجهة يسعى ليكون أكثر قدرة ومقاما من الآخرين، فيقول الباري تعالى لنبيّه موسى «لا تَركَنَّ إِلى الدُّنيا»، فلا تكون مثل


1. الكافي، ج 5، ص 71.

هؤلاء الظالمين الذين التصقوا بالدنيا كأنّها أباهم واُمّهم، وجعلوها موردا لمحبّتهم وتعلّقهم، ثمّ يقول في آخر الرواية إنّ الله‌ تعالى: «واعلَم أَنَّ كُلَّ فِتنَةٍ بَدؤها حُبُّ الدُّنيا»، وكلّ شرّ وبلاء ومصيبة يمتد بجذوره إلى حبّ الدنيا، فأنواع الحروب والنزاعات العائليّة والاختلافات القوميّة وحتّى الخلافات السياسيّة تمتد بجذورها إلى حبّ الدنيا وحبّ السلطة والمقام.

وقال: «وَلا تَِغبِط أَحَدا بِكثَرةِ المَالِ»، أو لا تتحسر على كثرة المال لدى الآخرين «فَإِنَّ مَعَ كَثرَةِ المَالِ تَكثُرُ الذُّنُوبُ»، فكلّما ازدادت ثروة الإنسان ولم يؤدّ ما عليه من الحقوق والواجبات فإنّه ستزداد ذنوبه وآثامه.

وعلى هذا الأساس ينبغي الالتفات إلى أنّ الرواية عندما تقول إنّ أصل كلّ فتنة حبّ الدنيا وأنّ أصل عدم التوجّه إلى الله‌ هو حبّ الدنيا والتعلّق بها، وعليه فمن أجل تحصيل حضور القلب في الصّلاة يجب تطهير قلوبنا وتنقية أنفسنا من حبّ الدنيا، وليعلم الإنسان أنّ الشيطان عدوّه ويستطيع التغلب عليه بواسطة حبّ الدنيا وبذلك يتمكّن من جرّه إلى مهاوي الرذيلة ومستنقع الخطيئة، وينبغي أن يعلم أنّ حبّ الدنيا لا يجتمع مع الدين والتدين وأنّ حبّ الدنيا يعدّ أهم جندي من جنود ابليس، قد يستولي على الإنسان ويحيط بقلبه ولا يسمح بتذوق لذّة المناجاة مع الله.

نأمل إن شاء الله‌ أن نكون ملتفتين إلى هذا العدوّ اللدود ونستطيع الخلاص منه والابتعاد عن طريقه ويوما بعد آخر نبتعد عن كلّ شيء يتعلّق بحبّ الدنيا ونبعده عنّا، حتّى بحسب تعبير الإمام الخميني قدس‌سره: لا يستطيع الإنسان القول بأنني أخرجت جميع حبّ الدنيا من قلبي، ولكن بالمقدار الممكن نستطيع ذلك، ونحن بعون الله‌ نستطيع ذلك إن شاء.


38ـ بغض الدنيا أفضل الأعمال


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام: «مَا مِنْ عَمَلٍ بِعْدَ مَعرِفَةِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعرِفَةِ رَسُولِهِ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أَفضَلَ مِنْ بُغضِ الدُّنيا»[1]

ذكرنا في البحوث السابقة بأنّ حبّ الدنيا والتعلّق بمظاهر الدنيا يشكّل مانعا من حضور القلب في الصّلاة، فالشخص الذي تعلّق قلبه بشجرة حبّ الدنيا والانشداد لزخارفها لا يستطيع أن يملك حضور القلب في الصّلاة، وأشرنا أيضا إلى بعض الروايات في هذا المجال وإن شاء الله‌ يجب علينا الاهتمام بهذه الروايات الشريفة، ففي رواية أخرى وردت في أصول الكافي (كتاب الإيمان والكفر باب ذمّ الدنيا والزهد فيها) عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام عندما سئل: ما هي أفضل الأعمال عند الله‌ فقال عليه‌السلام:

«مَا مِنْ عَمَلٍ بِعْدَ مَعرِفَةِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعرِفَةِ رَسُولِهِ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أَفضَلَ مِنْ بُغضِ الدُّنيا»، وهذا يعني أنّ الإنسان يصل إلى مرتبة ليس فقط يشعر بحبّ الدنيا بل بالعكس


1. الكافي، ج 2، ص 130.

يشعر بالبغض للدنيا.

ثمّ قال: «وإِنّ لِذَلِكَ لَشُعُبا كَثِيرَةٌ وَلِلمَعاصِي شُعُبا، فَأوَّلُ مَا عُصَي الله‌ بِهُِ الكبِرُ وَهِي مَعصِيةُ إِبلِيسَ حِينَ أَبى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِين»، ثمّ يتحدّث الإمام عليه‌السلام عن المعصية الثّانية وهي معصية الحرص والطمع تورط آدم على نبيّنا وآله وعليه السلام، والمعصية الثّالثة: الحسد، الذي تورط فيه قابل ابن آدم وتسبّب فيه قتل أخيه هابيل.

ثمّ قال: «فَتَشَعَّبَ مِنْ ذَلِكَ حُبُّ النِّساءِ وَحُبِّ الدُّنيا وَحُبُّ الرِّئاسَة وَحُبُّ الرَّاحَةِ وَحُبُّ الكَلامِ وحُبُّ العُلُوِّ والثَّروَةِ»، فنتج من هذه الصفات الذميمة الثلاث: (التكبر، الحرص، والحسد)، وهي أعظم الرذائل النفسانيّة، سبع خصال ذميمة، حبّ النساء (إتّباع الشهوة)، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام (اللغو والثرثرة) وحب العلوّ والثروة، «فَصِرنَّ سَبْعَ خِصالٍ فَاجتَمَعنَ كُلَّهُنَّ فِي حُبِّ الدُّنيا»، وكانت نتيجة ذلك أنّ الأنبياء والأولياء اعتبروا أنّ حبّ الدنيا أساس وأصل كلّ ذنب وخطيئة: «وَقَالَ الأنبِياءُ والعُلمَاءُ بَعدَ مَعرِفَة ذَلِكَ حُبُّ الدُّنيا رأَسُ كُلُّ خَطيئَةٍ»، ومعنى هذه العبارة الواردة في النصوص «حُبُّ الدُّنيا رأَسُ كُلُّ خَطيئَةٍ»، هي أنّ حبّ الدنيا لو انغرس في قلب إنسان فإنّه يجرّه إلى أي عمل من الأعمال المخالفة فضلاً عن كونه يمنع حضور القلب في الصّلاة، وعندما يكون حبّ الدنيا منشأ جميع الخطايا والذنوب إعلم أنّ حبّ الدنيا هذا هو المانع من حضور قلبك في الصّلاة: «الدُّنيا دُنيَاءَانِ: دُنيَا بَلاغٍ وَدُنيّا مَلعُونَةٍ»[1]، فدنيا البلاغ يعني أنّ الإنسان ينتفع من هذه الحياة بمقدار الضرورة والكفاية وبمقدار من يشبع حاجاته الدنيويّة، هذه هي الدنيا المحمودة أي دنيا البلاغ، ولكن إذا تحرّك الإنسان وراء المزيد منها وكان يهدف من ذلك الحصول على الدنيا فقط فليس


1. الكافي، ج 2، ص 131.

من أجل الآخرة فهذه الدنيا هي الملعونة.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن نعلم أنّ حبّ الدنيا مانع من حضور القلب، فإذا أردنا حضور القلب في الصّلاة ونعيش حالة المناجاة مع الله‌ فيجب قبل الصّلاة أن نجلس ونفكّر ما مقدار تعلّقنا بهذه الدنيا، وكيف نستطيع علاج نفوسنا وقلوبنا ونزيل هذا الحبّ من قلوبنا، فلا ينبغي أن ييأس الإنسان من تطهير قلبه وتنقية نفسه من حبّ الدنيا، وعليه أن يسعى كلّ يوم للتقليل من هذا التعلّق والارتباط الوثيق بالدنيا، فكلّما كانت هذه التعلقات أقل فإنّ لذّة المناجاة مع الله‌ تعالى في الصّلاة ستكون أكثر، وهنيئا لحال الأشخاص الذين وصلوا إلى مراتب عالية من بغض الدنيا عندما يشعرون في أنفسهم من حلاوة المناجاة مع الله‌ في أعمال قلوبهم.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا لأداء الصّلاة مع حضور القلب.


39ـ لزوم الاستمداد من الله‌ لحضور القلب


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ إحدى النقاط التي يجب على المصلّي التوجّه والالتفات إليها والإيمان العميق بها أنّ التوفيق لحضور القلب إنّما يتيسر بالاستمداد والطلب من الله‌ تبارك وتعالى وأن يعلم المصلّي أنّ مقلّب القلوب هو الله‌ عزّ وجلّ، فلو أراد حضور القلب في صلاته وجب عليه أن يتوكّل على الله‌ تعالى ويستمد منه المعونة ليتمكّن من إعداد قلبه ليتهيأ للحضور في محضر الباري تعالى، ويكون قلبا صالحا ولائقا لمناجاة الله‌ وجديرا بأن تنعكس عليه تجليات الذات المقدّسة، ولو أنّ العناية الإلهيّة تعلّقت بقلب الإنسان فإنّه سيبتعد عن الدنيا وتنقطع العلاقة بينه وبين الدنيا ونوازعها، وطبعا البداية تكون بيد الإنسان نفسه، يعني أنّ الإنسان لو لم يرغب في التوجّه إلى الله‌ ولم يتقدّم بالخطوة الاُولى فلا يتوقّع أن تشمله عنايات الباري تعالى، فما لم يلتفت الإنسان إلى كدورات قلبه ولم يشعر أنّ هذا القلب لا يليق بمناجاة الله‌ وغير جدير باشراق تجليات الذات المقدّسة عليه فلا ينفعه شيء، ولذلك يجب عليه أن يتفكّر ماذا يصنع حتّى يصل إلى هذه الغاية ويحصل على هذا المطلوب؟

بداية يكون اختيار الطريق بيد الإنسان، فلو أنّ الإنسان نجح في بعض الامتحانات والاختبارات الدنيويّة التي يثيرها أمامه الله‌ تعالى في حياته وتمكن من إبعاد نفسه وقلبه عن الدنيا، ففي الخطوة اللاحقة تمتد إليه يد المعونة الإلهيّة وتساعده في السلوك إلى الله.

ونقرأ في رواية وردت في كتاب «الكافي» عن الامام الباقر عليه‌السلام عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهفي حديث قدسي قال صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «يَقُولُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَعزَّتِي وَجَلالِي وعَظَمَتِي وَكِبرِيائِي وَنُورِي وعُلُوِّي وَارتَفاعِ مَكَانِي لا يُؤثِرُ عَبدٌ هَواهُ عَلَى هَوايَ...»، وهناك ينبغي الالتفات أنّ هذه المسألة تحدث للإنسان في كلّ يوم، فيرى نفسه على مفترق طريقين: أحدهما يتّجه به إلى الله، والآخر إلى الشيطان، أحدهما طريق الحقّ والآخر طريق الباطل، فإذا اختار الإنسان ما يوافق هوى نفسه وميله ورجّح رغبته الشخصيّة على ما يريده الله‌ تعالى منه، هنا يقول الله:

«إِلاّ شَتَّتُ عَليهِ أَمرَهُ وَلَبَستُ عَلَيهِ دُنيَاهُ وَشَغَلتُ قَلبَهُ بِها»، وهذا شاهد على أنّ الله‌ تبارك وتعالى يشتت ذهن هؤلاء الأشخاص بأن يجعل قلوبهم مشغولة ومشغوفة بالدنيا، أي سيكون كلّ همّهم وغمّهم ما يعيشون من أمورهم الدنيويّة، وهذه النتيجة هي وليدة الأعمال اللاأخلاقيّة والسلوكيات الغير صحيحة لهؤلاء، «وَلَمْ أُوتُِهِ مِنها إِلاّ مَا قَدَّرْتُ لَهُ»[1]، فكلما سعى هذا الشخص لكسب المزيد من زخارف الدنيا وملذاتها ومظاهرها فإنّه لا ينال منها إلاّ ما هو مقدّر له عند الله‌ تعالى.

وعلى هذا الأساس يتبيّن أنّ الإنسان إذا وقف بين طريقين: أحدهما طريق الله‌ والآخر طريق الشيطان والدنيا، وسلك في طريق الشيطان والدنيا ورجّحه على طريق الله، فإنّ قلبه سينشغل تدريجيا بالأمور الدنيويّة إلى درجة أنّه عندما يقوم


1. الكافي، ج 2، ص 335.

للصّلاة فإنّه لا يستطيع أن يلفت قلبه لحظة واحدة ليتوجّه بقلبه إلى الله‌ ويدرك الحضور الربوبي للحقّ تعالى، إذن فمثل هذا التوفيق يجب أن نطلبه من الله‌ تعالى، ونلتفت إلى هذه النقطة وهي أنّ الخطوة الاُولى من حضور القلب تكون بيد الإنسان نفسه، ولكن الخطوات الكبيرة والأخيرة تتحقّق بعناية الباري تعالى ونفسه ورحمته.


40ـ سرّ توجّه القلب للاُمور الدنيويّة


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا آنفا إلى أنّ الإنسان المصلّي يجب أن يعلم أنّ حضور القلب واشتغاله بذكر الله‌ تعالى يجب أن يقترن مع الاستمداد من الله‌ ورحمته الواسعة.

إنّ الله‌ تبارك وتعالى هو الذي يعمل على تصفية وتنقية قلب الإنسان، وهنا حقيقة جليّة وهي أنّ الإنسان بما أنّه مشغول بالأمور الدنيويّة في ليله ونهاره فإنّ قلبه عادة منشغل ومتوجّه إلى هذه الأمور، إن قلب الإنسان ينشغل عادة بالأمور التي تنشغل بها أعضائه الظاهرية، وهنا يتبيّن معنى مجاهدة النفس.

يجب على الإنسان أن يتحرّك في طريق جهاد النفس كيما يتوجّه قلبه لأوقات الصّلاة إلى الله‌ ويترك الانشغال بالدنيا، والسرّ في أهميّة حضور القلب في الصّلاة يكمن في هذه النقطة، وسبق أن ذكرنا أنّ الكثير من أولياء الله‌ كانوا يطمحون أن يعيشوا من أوّل الصّلاة إلى آخرها فقط وفقط في محضر الباري تعالى ولكنّهم كانوا يظهرون العجز عن ذلك، وأنّه عمل صعب جدّا ويحتاج إلى إمداد ومساعدة من الله‌ تعالى.

وكما ورد في هذه الآية الكريمة: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...»[1]، فمظاهر الدنيا وزخارفها تتجلّى لعامّة الناس بثوب جميل وشكل جذّاب وتتزيّن قلوبهم بهذه الأمور الشهوانيّة من الأموال والأولاد والنساء والزراعة والأمور الأخرى الواردة في هذه الآية الشريفة، فعندما تقول الآية: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...»، حيث تتجلّى لعامّة الناس بشكل جميل وبرّاق وتنفذ إلى قلوبهم، ومن هذه الجهة فلو أراد الإنسان أن يبعد حبّ الدنيا ومظاهرها من قلبه فإنّه لا يستطيع ذلك بإرادته واختياره نفسه، فهو لا يستطيع القول إنّني قادر بإرادتي واختياري أن أعمل هذا العمل، بل إنّ هذا العمل يحتاج بالدرجة الاُولى إلى معونة من الباري تعالى، إنّ الدخول في هذا الوادي يحتاج إلى إرادة الإنسان ولكن استقراره وثباته في هذا الطريق بحيث يكون قلبه مستعدا للحضور بين يدي الله‌ والابتعاد عن زخارف الدنيا، يحتاج إلى عناية الحقّ تعالى.

وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي أنّ الله‌ تبارك وتعالى أقسم بعزّته وجلاله وبنوره وعلوّه وعظمته وكبريائه أنّ شخصا عندما يرجّح ميوله ورغبته على رغبة الله‌ تعالى فإنّ قلبه سينشغل بالدنيا، وهنا أطلب من جميع الإخوة الأعزاء أن يدققوا في هذه التعابير المهمّة جدّا، وهذا يعني أننا عندما نقف على مفترق طريقين فلا يعني أننا نستطيع بميلنا وإرادتنا أن نرجّح ما يريده الله‌ منّا على رغبات أنفسنا، فهذه ليست مسألة سهلة وبسيطة، فهي بمثابة انتخاب واختيار تستغرق وجود الإنسان كلّه ومن شأنه أن يخلق تحوّلاً كبيرا في حياته وسيرته وشخصيّته، ولو أنّ الإنسان رجّح ميوله وأهواءه على ما يريد الله‌ منه فسوف


1. سورة آل عمران، الآية 15.

تكون النتيجة كما أسلفنا، فالله‌ تعالى يقول: فأجعل قلبه مشغولاً في الدنيا وتكون جميع أموره مشتتة وحياته مضطربة، ومن هذه الجهة نرى أنّ الأشخاص الذين يطلبون الدنيا لا يعيشون استقرارا نفسيّا في حياتهم، بخلاف الأشخاص الذين يتحرّكون في خط الإيمان والتقوى والتوحيد، ويسلكون طريق العبادة والعبوديّة، فهم يعيشون الباطن المستقر والقلب المطمئن.

ونتابع في الحديث الشريف قوله: «لا يُؤثِرُ عَبدٌ هَواهُ عَلَى هَوايَ...»، فلو وجد نفسه أنّه يستطيع أن يهتك شخصا مؤمنا ويسيء إلى سمعته، أو يفشي سرّا من أسراره ولكنّه مع ذلك لا يرتكب هذا العمل من أجل الله، وفي الموقع الذي تكون سمعته وحيثيّته في خطر ولكنّه من أجل حفظ الدين واطاعة أمر الله‌ تعالى يرفع صوته بالحقّ، ولو أنّه وقف بين طريقين، ويحدث ذلك كثيرا في حياة الإنسان، فيرجّح ما يريده الله‌ منه على هوى نفسه يقول الحديث: «إِلاّ استَحفَظتُهُ مَلائِكَتِي»، ما أعظم هذا الأمر، أن يعلم الإنسان المؤمن أنّ ملائكة الله‌ تقوم بحفظه ورعايته وتمدّ له يد العون والمساعدة وتدعو له وتستغفر له.

«وَكَفَّلْتُ السَّماواتِ والأرضِينَ رِزقَهُ وَكُنتُ لَهُ مِنْ وَراءِ تِجارة كِلِّ تاجِرٍ وَأَتَتْهُ الدُّنيا وَهِي رَاغِمُةٌ»[1]، فمثل هذا الإنسان الذي يفرّ من الدنيا ويتركها طلبا ورغبة بالله‌ تعالى فإنّ الدنيا ستأتي إليه خاضعة وراغمة، هذه أمور مهمّة، فالإنسان لو شعر في صلاته بحضور القلب وأحسّ بحالة مريحة وجميلة في أعماقه فليعلم أنّه من جملة الأشخاص الذين وقعوا مورد عناية الباري تعالى، ولكن إذا لم يشعر بحضور القلب من أوّل صلاته إلى آخرها فليعلم أنّه يواجه مشكلة، فعليه أن يجلس ويتفكّر ما هي مشاكلته، وما هو الباعث على تورطه في أمور الدنيا وغفلته عن الله‌ تعالى؟ والشخص الذي يعيش ذكر الله‌ تعالى في غير الصّلاة فلا


1. الكافي، ج 2، ص 335.

يمكن أن يغفل عنه في الصّلاة، والشخص الذي يراقب نفسه في سائر الحالات فيتحرّك في خط الطاعة والعبوديّة لله‌ تعالى ويؤدّي ما عليه من أوامر الله‌ تعالى فإنّه بطريق أولى سيكون متوجّها إلى الله‌ في صلاته.

رزقنا الله‌ تعالى وإيّاكم حضور القلب في الصّلاة إن شاء الله.


الفصل الثالث: أسرار مقدّمات وشروط الصّلاة



الباب الأوّل: أسرار الطّهارة



41ـ مراتب الطّـهارة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد البحوث التي يجب التوجّه إليها في أسرار الصّلاة، الأسرار الموجودة في مقدّمات الصّلاة، يقول الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه في كتابه «سرّ الصّلاة»[1]: إنّ الصّلاة نفسها لها مراتب، فمقدّمات الصّلاة وشروطها لها مراتب أيضا، يعني بما أنّ حقيقة الصّلاة لها مراتب كثيرة، ولعلّه يمكن القول بصدور صلاتين مختلفتين من المصلّين من حيث المرتبة والحقيقة، فإنّ مقدّمات الصّلاة من قبيل الطهارة وسائر الأمور الأخرى لها مراتب أيضا ويجب على المصلّي الالتفات إليها والاهتمام بها.

ويقول رحمه الله: الطّهارة الظاهريّة مقدّمة للصّلاة الصوريّة والظاهريّة، يعني بحسب الظاهر الشخص الذي يريد أن يصلّي يجب عليه تحصيل الطهارة الصوريّة، ولذلك فإنّ الوضوء يعتبر مقدّمة لهذه الصّلاة الظاهريّة التي يصلّيها المكلّف، ولكن الطهارة لها مراتب أخرى أيضا، فهناك طهارة أهل الإيمان،


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 34.

وطهارة أهل الباطن، وطهارة أصحاب الحقيقة، وطهارة أصحاب القلوب السليمة وطهارة أصحاب السرّ، وطهارة أصحاب المحبّة والمجذوبين، وطهارة أصحاب الهداية، هذه هي مراتب الطهارة، وبعد تحصيل الطهارة الظاهريّة، تصل النوبة إلى المرتبة الثّانية وهي طهارة أهل الإيمان، يعني أن يطهّر نفسه من المعاصي ويبتعد عن الذنوب وعن الأخلاق الرذيلة والشهوات والميول غير المشروعة، فالإنسان المؤمن هو الشخص الذي لا يسمح للحرام أن يسلك طريقا إلى وجوده ونفسه ويتحرز من تلويث قلبه بالحرام، فهذا هو معنى طهارة أهل الإيمان.

المرتبة الثّالثة، طهارة أهل الباطن، يعني أن يطهّر باطنه من القذرات المعنويّة والأخلاق الذميمة والأوساخ الأخلاقيّة.

المرتبة الرابعة، طهارة أصحاب الحقيقة، يعني يوصل نفسه إلى مرحلة بحيث لا يسمح لوساوس الشيطان أن تدخل إلى حريم قلبه، ولا يسمح للأفكار الباطلة والشكوك والشبهات أن تخطر على ذهنه.

المرتبة الخامسة، طهارة أصحاب القلوب السليمة، وهي الطهارة من التقلبات وابعاد ذهن الإنسان أن يكون مشغولاً بالمفاهيم التي تمثّل حجابا بينه وبين الله.

المرتبة السادسة، طهارة أصحاب السرّ، وهذا يصل الإنسان إلى مراحل أعلى من الطهارة المعنويّة، وكما ورد في الآية الشريفة: «لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»[1]، فهذا يعني أنّه كما أنّ ظاهر القرآن بحاجة إلى طهارة ظاهريّة فيجب على المكلّف الوضوء والطهارة ليتمكن من مسّ ظاهر القرآن، فإن الوصول إلى باطن القرآن يحتاج إلى طهارة باطنيّة أيضا، ومن أجل الوصول إلى سرّ القرآن يلزم طهارة أصحاب السرّ، وعليه فإنّ الصّلاة أيضا تكون بهذا المستوى.


1. سورة الواقعة، الآية 79.

ولو أنّ الإنسان أراد الاكتفاء بالصّلاة الظاهريّة فيكفي الوضوء الظاهري والطهارة الظاهريّة، ولكن يجب أن نعلم أنّ الصّلاة، مضافا إلى الطهارة الظاهريّة تحتاج إلى طهارة باطنيّة، فلو أردنا أن نكون من أهل الباطن وتكون صلاتنا صلاة أهل الباطن فهذا الأمر يتوقّف على الطهارة الباطنيّة.

ومن هذا المنطلق فإنّ الطهارة الظاهريّة هي أقل مراتب الطهارة وأضعف مرتبة يؤدّيها الإنسان المكلّف وتكون مقدّمة للوصول إلى الطهارة الباطنيّة.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا أن نكون جديرين بجميع أنواع الطهارة إن شاء الله.

42


42ـ طهارة الظّاهر وطهارة الباطن


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ المصلّي يجب أن يتطهّر للصّلاة، وثمّة أسرار ونقاط كثيرة في هذا العمل العبادي، فالطهارة لها مراتب عديدة والمصلّي يجب أن يعلم بأنّ الطهارة الظاهريّة تعتبر أقل وأدنى مرتبة من مراتب الطهارة وهي مقدّمة الصّلاة الظاهريّة، ويجب على الإنسان في حركة الحياة أن يتحرّك لتحصيل تلك المراتب الأهم والأعلى من الطهارة، ومنها طهارة أهل الإيمان، طهارة أهل الباطن، طهارة أصحاب الحقيقة، وأصحاب السرّ.

إذا اقترنت صلاة الإنسان بالطهارة الباطنيّة فإن صلاته ستكون صلاة أهل الباطن، وأداء الطهارة الظاهريّة إنّما لغرض أن يلتفت الإنسان إلى الطهارة الباطنيّة ويسعى لتحقيقها في وجوده، وكما أنّ الآية الشريفة تقول: «لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»[1]، أي أنّ الشخص إذا أراد أن يمسّ ألفاظ وكلمات القرآن يجب أن يكون متطهّرا بالطهارة الظاهريّة، فإنّ علماءنا ذكروا بأنّ هذه الآية الشريفة تشير


1. سورة الواقعة، الآية 79.

أيضا إلى أنّ الإنسان إذا أراد أن يصل إلى باطن القرآن فيجب عليه أن يملك الطهارة الباطنيّة.

ويبيّن الإمام الراحل في كتابه «سرّ الصّلاة»، نقاط مهمّة في هذا المجال ويقول: «يجب أن يعلم أنّ الإسلام يهتمّ بالطهارة الظاهريّة، وأنّ الله‌ تبارك وتعالى أمر بطهارة اللباس والبدن في حال الصّلاة وأنّ المصلّي يجب أن يكون لباسه وبدنه طاهرين، وقد ورد في المأثور أنّ النظافة أحد شروط وعلائم الإيمان أو أنّها جزء من الإيمان، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يهتمّ الباري تعالى بالطهارة الظاهريّة بهذا المقدار ولا يهتمّ بالطهارة الباطنيّة وطهارة قلب الإنسان ويهمل هذا الأمر المهم، ولا يمكن أن لا يهتمّ بتطهير القلب من الأوساخ المعنويّة والتلوث بالرذائل الأخلاقيّة.

إذا تلوّثت يد الإنسان بالنجاسة فإنّ الله‌ تعالى أمر بتطهير هذه النجاسة بالماء، وعليه كيف يمكن القول إنّ الله‌ تعالى لم يهتمّ بإزالة النجاسة الباطنيّة التي تؤدّي إلى هلاك الإنسان الأبدي وتورثه الظلمة والكدورة الدائمة، وفي مسألة الطهارة اكتفى فقط بهذه الطهارة الظاهريّة؟ كلاّ، إنّ جميع أشكال الطهارة الظاهريّة يشكل مقدّمة للالتفات والتوجّه إلى الطهارة الواقعيّة وليصل الإنسان إلى الحالة الباطنيّة.

يقول تبارك وتعالى في سورة الأحزاب الآية 33: «إِنَّمَا يُرِيدُ الله‌ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»، ونرى أنّ عبارة «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»، تدلّ على أنّ الطهارة لها مراتب كثيرة جدّا ولا ينبغي أن نحصر فكرنا بهذه الطهارة الظاهريّة.

طهارة أصحاب الولاية، تعتبر آخر مرتبة للطهارة، وقد اجتمع جميع مراتب الطهارة وأكملها عند الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام، بل يستفاد من عبارة «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا»، توفّر جميع مراتب العصمة لأهل البيت عليهم‌السلام، أو الطهارة من كلّ ذنب

وكلّ فعل قبيح، الطهارة من أي فكر باطل، وطهارة نفوسهم من أي وسوسة والشرك بالله‌ حتّى بلحظة واحدة.

وعلى هذا الأساس يجب الالتفات إلى أنّ طهارة البدن واللباس وكذلك الوضوء، والطهارة من الحدث والخبث التي هي مقدّمات للصّلاة، تعتبر مقدّمة لتحصيل طهارة أعلى، وبهذه الطهارة لا نريد أن نصلّي فقط الصّلاة الظاهريّة بل تكون طريقا للوصول إلى الطهارة الباطنيّة، وهذه الطهارة الباطنيّة ستكون منشأ ومصدرا لحركات وسلوكيات معنويّة أعلى.

نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يوفّقنا جميعا لتحصيل المراتب العليا من الطهارة.


43ـ أسرار الوضوء


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «وَطَهِّر قَلْبَكَ بِالتَّقوى وَاليَقِينِ عِنْدَ طَهارَةِ جَوارِحِكَ بِالمَاءِ»[1].

تقدّم أنّ الطهارة لها مراتب متعددة، وأنّ الطهارة الظاهريّة هي أوّل خطوة للوصول إلى مراتب عالية من الطهارة الباطنيّة.

يقول الشهيد الثاني في كتابه «التنبيهات العليّة»[2]، في باب الوضوء: إنّ علّة تكليفنا في الوضوء والطهارة الظاهريّة بغسل الوجه واليدين، هي أنّ الوجه واليدين في الإنسان من أكثر الأعضاء والجوارح التي يتواصل بها الإنسان مع الآخرين وسائر الأشياء.

ومن هنا فعندما يغسل الشخص هذه الأعضاء فإنّه بالحقيقة يريد الإعلان عن هذا الأمر، وهو أنّه يريد أن يطهّر هذه الأعضاء من جميع التوجّهات لغير الله، وعلى حدّ تعبير الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه: إنّ الوضوء وغسل الوجه


1. بحار الأنوار، ج 77، ص 339.

2. التنبيهات العليّة، ص 93.

واليدين وتطهيرها ممّا سوى الله، يعني أنّ الإنسان يغسل يده ووجهه من غير الله‌ وينفصل عمّا سوى الله.

والنقطة الاُولى، أنّ هذه الأعضاء والجوارح التي يرتبط بها الإنسان مع الآخرين غالبا، فإنّه يريد من خلال غسلها أن يقطع ارتباطه بهم وتوجّهه إليهم

والنقطة الثانية، أنّ الإنسان يهتمّ بهذا الوجه بالأمور الدنيويّة ويتحرّك للتواصل معها بيديه وقدميه، وبذلك تظهر تلوّثات الدنيا على هذا الوجه واليدين، فعندما يغسلها المصلّي فإنّه يريد من ذلك تطهيرها من هذا التلوّث.

النقطة الثّالثة، أنّه بغسله لهذه الظواهر فإنّه يتطهر قلبه أيضا، لأنّ القلب هو رئيس جميع هذه الأعضاء والجوارح وهو الذي يأمر الإنسان بالنظر، والكلام، والاستماع، ويأمر بفعل الأفعال الأخرى باليدين، ومن خلال غسل هذه الأعضاء والجوارح يروم الإنسان تطهير قلبه أيضا: «إِنَّ الله‌ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَأَعمَالِكُم وَإِنَّما يَنظُر إِلى قُلُوبِكُم».

النقطة الرابعة، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان: «وكلّما قربت من إحداهما بعدت عن الأخرى، فلذلك أمر بالتطهير من الدنيا عند الاشتغال والإقبال على الأخرى»، ومن هذه الجهة أمر الله‌ تعالى بغسل الوجه واليدين ليتوجّه المصلّي إلى الآخرة.

النقطة الخامسة، بما أنّ جميع توجّه الإنسان واهتمامه بأمور الدنيا يتمّ من خلال الوجه فعندما يغسل وجهه فكأنّه يريد أن يغسل وجه قلبه لتيوجّه إلى الله‌ تعالى، فالإنسان عندما يغسل وجهه فهذا يعني أنّه يريد أن يكتسب الاستعداد واللياقة ليكون وجه قلبه متوجّها إلى الله‌ تعالى، وأكثر الحواس الظاهريّة والبدنيّة في الإنسان موجودة في وجهه من قبيل العين والاُذن والفم وسائر الحواس الأخرى، وأعظم أسباب الوصول إلى الدنيا والانشغال منها يتمّ من خلال هذه الحواس الموجودة في وجه الإنسان، ومع غسلها فالإنسان يريد أن يطهّره

جميعا، كما أنّ الأمر بغسل اليدين في الوضوء هو من أجل أنّ اليد من الأعضاء المهمّة لوصول الإنسان إلى غاياته ومشتهياته النفسانيّة والطبيعيّة.

أمّا السرّ في مسح الرأس بما أنّ قوّة الفكر والتعقل موجودة في الرأس ومع مسح الإنسان رأسه فكأنّه يريد مسح قوّة الفكر والتعقل لديه في طريق الوصول إلى الله، وكذلك مسح القدمين إنّما هو بسبب أنّ الإنسان يتحرّك بواسطة القدمين نحو غاياته ومقصوده.

والخلاصة أنّ الإنسان في عمليّة الوضوء يطهّر جميع الأعضاء المتعلّقة بظاهره وبدنه، ويكون بذلك مستعدا من جميع الجهات للوقوف بين يدي الباري تعالى ومناجاته ولقائه.

إذن يجب علينا الاهتمام بالوضوء، ولعلّه يمكن القول إنّ بعض أشكال الصّلاة التي لا قيمة لها ولا تؤثر في إيجاد تحوّل في الإنسان إنّما يعود في نحو من الأنحاء إلى أنّنا نعيش الغفلة عن مقاصد الوضوء والطهارة وكيفيّتها، ولو أنّ الإنسان في حال الوضوء كان ملتفتا إلى أنّه يسعى لتطهير نفسه وقلبه لتكون له اللياقة ليحظى بالجدارة لملاقاة الله‌ تعالى فإنّ مثل هذا الشخص سيجد في نفسه تدريجيا حالة حضور القلب في الصّلاة.

إن شاء الله‌ نوفّق جميعا لفهم أسرار الصّلاة.


44ـ سرّ الطّهارة بالماء


بسم الله الرحمن الرحيم

«وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...»[1]

ينقل الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «سرّ الصّلاة»، كلاما لبعض أهل المعرفة وكبار العرفاء يقول: إنّ الطهور إمّا أن يكون بالماء أو بالتراب، الماء هو منشأ ومصدر الحياة، والحياة هي منشأ وأصل العلم ولمشاهدة العالم ومشاهدة الحي القيوم تبارك وتعالى، والتراب أيضا يعتبر أصل نشأة الإنسان[2]، وهذه العبارة عميقة المغزى، فعندما يسبغ الوضوء يجب أن يعلم أنّ الماء منشأ الحياة وأصل وحقيقة كلّ حياة هو الماء، وأنّ الماء هو سرّ الحياة، وأصل العلم يعود إلى هذا الماء لأنّ الماء منشأ الحياة والحياة بدورها منشأ العلم، والعلم بدوره منشأ مشاهدة الحي المطلق، وهكذا تلاحظون العلاقة الوثيقة بين الماء والحياة والعلم ومشاهدة الحياة المطلقة والحي المطلق، وهو الله‌ تبارك وتعالى.


1. سورة الأنفال، الآية 11.

2. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 41.

فلا ينبغي أن نتصوّر فقط أنّ الوضوء مجرّد غسل الأعضاء بواسطة الماء وأنّ الماء هو المادة السائلة لا أكثر، بل إنّ هذا الماء منشأ الحياة، والحياة هي منشأ العلم، وبواسطة العلم يتوجّه الإنسان إلى الحي القيّوم.

يقول الباري تبارك وتعالى في القرآن الكريم: «وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا* لِنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا...»[1]، والمعني الظاهري لهذه الآية الشريفة هو، أنّ الباري تعالى وبواسطة الماء أوجد الحياة الظاهريّة للأحياء، ولكن يجب أن نعلم أنّ هذا الماء منشأ للحياة الباطنيّة والعلم أيضا، والعلم بدوره وسيلة وطريق لحصول الإنسان على الحقيقة وأنّ أصل الحياة مستمدة من ذلك الموجود الحي المطلق، أو قوله تعالى في آية أخرى: «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...»، فبواسطة هذا الماء يريد الله‌ تعالى أن يطهّركم من وساوس الشيطان ويبعده عنكم.

هذه الآية الشريفة ذكرت أمرين وغايتين مهمّتين لإنزال الماء من السماء، إحدهما: «لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ...»، والثّانية: «وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...»، فالماء في حقيقته وباطنه يطهّر الإنسان من أشكال الرجس والتلوّث، والطهارة إمّا أن تكون بالماء أو بالتراب، والتراب بدوره أصل وجود الإنسان «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ...»[2]، فوجود جميع أفراد البشر يعود إلى التراب والإنسان خلق من التراب، والنتيجة أن تحصل الطهارة إمّا يكون بوسيلة الوضوء أو التيمم فينبغي على الإنسان أن يفكّر فيمن خلقه، ولأجل أي شيء خلقه، ومن أي شيء خلق؟ والتيمم بالتراب هو من أجل أن يشعر الإنسان بالخضوع أكثر ويبعد عن نفسه حالات التكبر والغرور، فالتراب هو الأصل في حالة الذلة والمسكنة، وعلى هذا الأساس عندما


1. سورة الفرقان، الآية 49.

2. سورة طه، الآية 55.

نريد اسباغ الوضوء أو التيمم يجب أن نلتفت إلى هذه النقاط، وعندما يقع نظرنا على الماء نتذكر الآية الشريفة: «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...»، فنعلم بأنّ استعمال هذا الماء في الطهارة الظاهريّة مقدّمة لتحصيل الطهارة الباطنيّة والنقاء من تلوّث الباطن، نسأل الله‌ تعالى أن يجعلنا من أهل الطهارة.


45ـ الماء الرحمة المطلقة للوجود


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «إِذَا أَرَدْتَ الطَّهارَةَ وَالوضُوءَ فَتَقَدَّم إِلى المَاءِ تَقَدُّمَكَ إِلى رَحمَةِ الله».[1]

إنّ إحدى النقاط التي يجب أن يلتفت إليها المصلّي في الوضوء، الخصوصيّات والأسرار الموجودة في الماء، فنقرأ في سورة الأنبياء الآية 30 قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَىٍّ...»، يعني أنّ منشأ حياة كلّ موجود حيّ هو الماء، وكما أنّ الحياة الظاهريّة والبدنيّة تحتاج إلى الماء فإنّ الحياة الباطنيّة تحتاج إلى الماء أيضا، لأنّ قلب الإنسان يتطهّر بهذا الماء من التلوّثات والرذائل والكدورات بواسطة هذه الطهارة، ومن هنا وجبت مثل هذه الطهارة.

وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: «وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...»[2]، فإنّ إزالة رجس الشيطان يتمّ بواسطة الماء الذي أنزله الله‌ تبارك وتعالى من السماء، وهكذا في مسألة التيمّم، فإذا التفت الإنسان أنّه خلق من هذا التراب وسوف يعود يوماً


1. مصباح الشريعة، ص 43.

2. سورة الأنفال، الآية 11.

إلى هذا التراب ويتبدّل إلى تراب أيضا، فمثل هذا التوجّه يمهّد قلبه للحضور في الصّلاة، وقد وردت في كتاب مصباح الشريعة رواية مفصّلة عن الإمام الصادق عليه‌السلام فيما يتّصل بالوضوء وأسراره، وأنّه يجب على الإنسان أن يلتفت إلى الجهات المختلفة للماء ويعلم أنّ كلّ واحدة منها تعتبر وسيلة سلوكه ورقيه إلى مقام من المقامات المعنويّة.

يقول الإمام عليه‌السلام: «إِذَا أَرَدْتَ الطَّهارَةَ وَالوضُوءَ فَتَقَدَّم إِلى المَاءِ تَقَدُّمَكَ إِلى رَحمَةِ الله»، يعني عندما تقترب من الماء لاسباغ الوضوء والطهارة فعليك أن تحسّ بأنّك تقترب من رحمة الله‌ الواسعة، ويستوحي الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه من هذه الآية الشريفة: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَىٍّ...»، ويقول: «إنّ الماء هو الرحمة الاطلاقيّة للوضوء»، فالماء منشأ حياة جميع الكائنات والرحمة الاطلاقيّة والمطلقة، بحيث يستوعب جميع الموجودات، فمن هذه الجهة عندما يريد الإنسان اسباغ الوضوء فعليه أن يلتفت أنّه قريب من هذه الرحمة الإلهيّة: «فإنَّ الله‌ تَعالى قَدْ جَعَلَ الماءَ مِفتَاحِ قُربِهِ وَمُناجَاتِهِ وَدَلِيلاً إِلى بِساطِ خِدمَتِهِ»، وفي اللغة العربية «بَساط» بفتح الباء تعني الأرض الواسعة، أما «بِساط» فتعني الفرش الذي يبسط على الأرض، يعني أنّ الإنسان إذا أراد الوصول إلى مرتبة رفيعة من القرب إلى الله‌ تبارك وتعالى، فعليه أن يأخذ مفتاح هذا المكان الرفيع، والماء هو مظهر رحمة الله‌ تبارك وتعالى.

«وَكَمَا أَنَّ رَحمَةَ الله‌ تُطَهِّرُ ذُنُوبَ العِبادِ كَذَلِكَ النَّجاسَاتُ الظَّاهِرِيَّةُ يُطَهِّرُها المَاءُ لا غَير»، فهنا يشير الإمام الصادق عليه‌السلام إلى هذه الآيات الشريفة ويقول: «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا»[1]، والآية: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَىٍّ...»، فَكمَا أَحيا بِهِ كُلَّ شيءٍ مُنْ نَعِيمِ الدُّنيا كَذَلِكَ


1. سورة الفرقان، الآية 48،

بِرَحمَتِهِ وَفَضلِهِ جَعَلَ حَياةَ القُلُوبِ بِالطِّاعَاتِ»، فكما أنّ الله‌ تبارك وتعالى خلق جميع النعم الدنيويّة بواسطة الماء ومنحها الحياة فإنّه تعالى منح قلوب البشر بفضله ورحمته بواسطة الحركة في خطّ الطاعة والعبوديّة والعبادة ومنح هذه القلوب الحياة، وبعبارة أخرى، إنّ حياة القلوب تتمحور فقط حول طاعة الله‌ تعالى، وهذه الطاعة والعبوديّة تتسبّب في حياة القلوب: «وَتَفَكَّرَ فِي صَفاءِ المَاءِ وَرِقَّتِهِ وَطُهرِهِ وَبَرَكَتِهِ وَلَطيفِ امتِزاجِهِ بِكُلِّ شَيءٍ»، فعندما تريد استعمال الماء في الوضوء فعليك أن تفكّر في جوانبه المختلفة من صفائه ورقّته وطهر وبركته وامتزاجه بجميع الأشياء في هذا العالم «امتِزاجِهِ بِكُلِّ شَيءٍ وَفِي كُلِّ شيء».

«وَاستَعْمِلْهُ فِي تَطهِيرِ الأَعضاءِ الَّتِي أَمَرَكَ الله‌ بِتَطهِيرها، وَآتِ بِأَدَائِها فِي فَرائِضِهِ وَسُنَنهِ»، يعني عليك بالاتيان بجميع الآداب الواجبة والمستحبة في غسل الوجه واليدين حال الوضوء بالمقدار المقرر والكيفيّة المذكورة في الشرع «فإِنَّ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنها فَوائِدَ كَثِيرَةً»، أي بكلّ واحدة من هذه الآداب فوائد كثيرة لتطهير الأعضاء والجوارح: «فَإِذَا استَعمَلها بِالحُرمَةِ انفَجَرَتْ لَكَ عُيُونُ فَوائِدِهِ عَنْ قَريب».


46ـ الاستلهام من الماء في الحياة


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «عَاشِر خَلقَ الله‌ كَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشياءِ»[1].

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «ثُمَّ عَاشِر خَلقَ الله‌ كَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشياءِ»، فبالرغم من أنّ الوضوء مقدّمة للصّلاة والصّلاة عبارة عن مناجاة وارتباط مع الله‌ تبارك وتعالى، ولكن عبادات الإنسان ليست فرديّة فقط ولا ترتبط مع سائر الناس، فالعبادات الإسلاميّة في ذات الوقت التي تقرب الإنسان من الله‌ تعالى وتقطع عنه تعلّقه بالدنيا وبما سوى الله، فإنّها أيضا نافعة للمجتمع أيضا، فالعبادة التي تشغل الإنسان بنفسه فقط ولا تجعله مستعدا لتقديم خدمة للآخرين والحضور في أوساط عباد الله‌ الذين هم مظاهر تجلّي الحقّ، فما هو أثر هذه العبادة؟ العبادة يجب أن تخلق توسعة وجوديّة في واقع الإنسان إلى درجة أنّه في ذات الوقت الذي يعيش فيه المصلّي مع الله‌ تبارك وتعالى ويأنس بقربه ومناجاته، فإنّه لابدّ من حضوره بين عباد الله‌ ليحفظ لهم هذا المقام من القرب المعنوي من الله‌ تعالى


1. مصباح الشريعة، ص 64.

ويتحرّك في طريق اسداء الخدمة لهم.

ويستفاد من عبارة الإمام الصادق عليه‌السلام: «ثُمَّ عَاشِر خَلقَ الله‌ كَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشياءِ»، أنّ الشخص المصلّي يجب أن يعاشر جميع عباد الله‌ ويخالطهم بشكل نقي كما يمتزج الماء بالأشياء من قبيل الحجر الصغير والكبير، ويحتفظ لنفسه بالصفاء والنقاء في هذا الارتباط مع الآخرين.

في طريق الحقّ يجب على الإنسان اجتناب إعمال الإرادة الشخصيّة ورؤية المنافع الذاتيّة في تواصله مع الناس وعباد الله، يقول الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه[1]: وتفكّر في نفس امتزاج الماء بالأشياء فإنّ هذا الامتزاج من أجل اصلاح حالها وإيصالها إلى كمالها اللائق بها وإحيائها، يعني كما أنّ ارتباط الماء بالأشياء سبب لحياتها وحفظها ورشدها، فإنّ كيفيّة معاشرة المصلّي للآخرين ومعاملته لعباد الله‌ يجب أن تكون أيضا مثل هذه الحالة، فيعاشر الناس من موقع الحفظ والاصلاح، ويذكر الإمام رضوان الله‌ عليه في ذيل هذه الرواية عبارة جميلة جدّا، ويقول: كما أنّ الماء يمتزج مع جميع الأشياء بلطف، فالإنسان العابد الذي وصل إلى مراحل من العبوديّة فإنّه لا يسمح لنفسه بالتكّبر على عباد الله‌ بل يتواصل معهم من موقع العطف واللطف، ولا يتعامل معهم بحالة من التحقير لهم، لأنّه يعلم أنّه في هذه الصورة فإنّ صلاته وعبادته لا تكون كاملة.

فعندما يرى المؤمن شخصا مشغولاً بارتكاب المنكر ويتحرّك في صدد اصلاح ظاهره وهدايته ولكنّ نهيه عن المعاصي والمنكر يجب أن يكون لغرض اصلاح حالته لا من أجل إِعمال النفوذ والسيطرة عليه، وهذه نقطة مهمّة جدّا ودقيقة، فالشخص الذي يريد إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي أن يقول: بما أنني آمرك وأنهاك فعليك بأن تطيع وتفعل ما أقول، إنّ الآمر


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 45.

بالمعروف يجب أن يشعر بالتحرّق لهداية الناس فيكون عاشقا للاصلاح، كما أنّ الماء يجري بين الأشياء من موقع العشق لها وبدون أي توقّع منها ويطهّرها من التلوّث ويرويها، وكذلك الإنسان يجب أن يتعامل مع أبناء نوعه بهذه الصورة.

«ثُمَّ عَاشِر خَلقَ الله‌ كَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشياءِ يُؤدِّي كُلُّ شيءٍ حَقَّهُ وَلا يَتَغَيَّرُ عَنْ مَعنَاهُ مُعتَبِرا لِقَولِ الرَسُولِ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله مَثلُ المُؤمنِ المُخلِصِ كَمَثلِ المَاءِ» يعني يعاشر الناس بالصفاء والنقاء، ويسعى أن يكون وجوده سبب طهارة الآخرين لا أن يخلق لهم المشاكل.

وأحد أسرار الوضوء التي يجب على الإنسان الالتفات إليها، أنّه يجد حالة من الاُنس مع الماء، وبذلك يجب عليه أن يتخلّق بصفات وخصوصيّات الماء أيضا.


47ـ الإخلاص والصفاء في التوجّه إلى الله


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا في الحلقة السابقة أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال: إنّ صفاء الإنسان وخلوص نفسه في جميع أعماله وطاعاته وعباداته لله‌ تعالى يجب أن يكون مثل صفاء الماء عند نزوله من السماء، ومن هذه الجهة يكون الماء طهورا، يعني كما أنّ الماء يتّصف بالصفاء الذاتي والنقاء عند نزوله من السماء فيجب على الإنسان أن يأتي بعباداته صافية ونقيّة في جميع أجزائها، وأحد أجزاء هذه العبادة هو الطهارة أو الوضوء الذي يعتبر مقدّمة للصّلاة، ولذلك ورد في بعض الروايات: «الوُضُوء نُورٌ»[1]، فالشخص الذي يتوضأ للصّلاة فإنّ هذه الطهارة الظاهريّة توجد له النورانيّة والطهارة الباطنيّة.

ويقول الإمام عليه‌السلام: إذا أردنا تحقيق هذه النورانيّة وحقيقة الطهارة النفسانيّة في الوضوء يجب أن نبتدى‌ء بالنيّة الخالصة والقصد الكامل لله‌ تعالى كما في سائر العبادات ولا يكون لنا قصد آخر غير ذلك، أي أنّنا نهدف من هذه العبادة التقرّب


1. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 41.

إلى الله‌ تعالى واطاعة أمره وتحصيل النورانيّة الباطنيّة بذلك، فلو أنّ أحدهم قال إنّ الوضوء بالماء يتسبّب في إيجاد النشاط والحيوية في الإنسان ويقع عنه التعب والملل، إن تأثير غسل الوجه بالماء من شأنه أن يزيل التعب الظاهري للإنسان، ولكن لا ينبغي أن يتوضأ الإنسان بهذه النيّة بل يكون نيّته امتثالاً لأمر الله‌ تبارك وتعالى، وهكذا نرى أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام عندما يقول إنّ إخلاصك وصفاء نيّتك في جميع العبادات يجب أن يكون مثل صفاء الماء ونقائه، لأنّه في ذلك الزمان عندما كان ماء المطر ينزل من السماء لا يختلط بأي شيء ويبقى على صفائه الذاتي، وهكذا يجب أن يكون عمل الإنسان طالبا لله‌ تعالى وصافيا ونقيا من أي شوائب الأخرى، وأي اختلاط بغيره.

«وَطَهِّر قَلْبَكَ بِالتَّقوى وَاليَقِينِ عِنْدَ طَهارَةِ جَوارِحِكَ بِالمَاءِ»[1]، فأنت تقوم بعمليّة تطهير القلب من شوائب المعاصي والنوازع الأنانيّة والرذائل النفسانيّة في عمليّة تطهير أعضائك وجوارحك بالماء عند الوضوء، وهذا القلب الطاهر والمتطهّر هو القلب الذي لا تمتزج معه ذرّة من الشرك، ولو للحظة واحدة، والقلب الطاهر هو القلب الخالي من وساوس الشيطان والخارج عن دائرة حكومته وسلطته.

كما نرى في بعض الروايات وفتاوى الفقهاء، من الاستحباب أن يكون الإنسان في جميع حالاته متطهّرا ومع الوضوء، لأنّ أحد آثار هذه الطهارة أنّها تؤثر على قلب الإنسان وتمنحه النورانيّة والصفاء وتمنع حضور الشيطان وساوسه في أعماق النفس، وأساسا فإنّ المصلّي الذي يعيش بطهارة كاملة وجامعة ويأتي بها بجميع آدابها وشروطها وخاصّة الأذكار والأدعية في أجزاء الوضوء، فإنّه يجد الاستعداد الكامل نفسيا للدخول في الصّلاة ويحصل على


1. بحار الأنوار، ج 77، ص 339.

اللياقة ليكون في محضر الباري تبارك وتعالى ويعيش اللذّة في مناجاته والتواصل معه.

وعلى هذا الأساس يجب أن نلتفت إلى أنّ الوضوء ليس فقط طهارة ظاهريّة بل يتسبّب وصولنا إلى الطهارة الباطنيّة، وإذا استطعنا الوصول إلى الطهارة الباطنيّة، فسوف نتمكّن من التوصل إلى حقائق الصّلاة وسائر العبادات وحتّى إلى باطن معاني ومفاهيم القرآن الكريم: «لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»[1]، نسأل الله‌ تعالى أن يجعل قلوبنا جميعا نقيّة وطاهرة.


1. سورة الواقعة، الآية 79.


48ـ سرّ غسل الوجه واليدين في الوضوء


بسم الله الرحمن الرحيم

يستفاد من الروايات أنّ الوضوء، مضافا إلى هذا الظاهر، له حقيقة باطنيّة في عالم الملكوت، فلا ينبغي أن يتصوّر أحد أنّ الوضوء عمل ظاهري وسطحي وقشري تماما، ولا ينبغي أن يتصوّر أنّ غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين عمل ظاهري فقط، ويقول ما هي آثار هذا العمل في صلاة الإنسان؟ إذا تصورنا أنّ الوضوء هو هذه الأعمال الظاهريّة فقط، فهنا يبرز أمامنا مثل هذا السؤال، ولكن إذا تبيّن لنا أنّ للوضوء حقيقةً وملكوتاً وباطناً وهذا العمل والوضوء الظاهري مقدّمة للوصول إلى تلك الحقيقة، فلا يبقى مجال لمثل هذا السؤال.

وقد وردت رواية مهمّة في كتاب «جامع أحاديث الشيعة»: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فسألوه عن مسائل فكان فيما سألوه أخبرنا يا مُحمّد لأي علّة توضيء هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «لَمّا وَسوَسَ الشَّيطانُ إِلى آدَم عليه‌السلام دَنا مَنَ الشَّجرةِ فَنَظَرَ إِليهَا فَذَهَبَ مَاءُ وَجْهِه»؛ وهو كناية عن أنّ وجه النّبي آدم صار مكدّرا بسبب اقتربه من الشجرة الممنوعة.

«ثُمَّ قَامَ وَمَشَى إِلَيها وَهِيَ أَوَّلُ قَدَمٍ مَشَتْ إِلى الخَطِيئَةَ»؛ ففي عالم التكوين كانت قدم آدم أوّل قدم تتوجّه نحو الذنب والخطيئة.

«ثُمَّ تَناوَلَ بِيَدِهِ مِنهَا مَا عَلَيها فَأَكَلَ فَطَارَ الحُلِّيُ وَالحُلَلُ مِنْ جَسَدِهِ فَوَضَعَ آدَمُ يَدَهُ عَلَى اُمِّ رَأسِهِ وَبَكَى،فَلَمَّا تَابَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيهِ فَرَضَ الله‌ عَلَيهِ وَعَلى ذُرِّيَّتِهِ تَطهِيرَ هَذهِ الجَوَارحِ»؛ وهكذا أوجب الله‌ تعالى على الناس في يوم القيامة تطهير هذه الأعضاء والجوارح بهذه الكيفيّة التي ارتكب فيها آدم الخطيئة.

«فأَمَرَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ بِغَسلِ الوَجْهِ لَمَّا نَظَرَ إِلى الشَّجَرَةِ، وَأَمَرَه بِغسلِ اليَدَينِ إِلى المِرفَقَينِ لَما تَناوَلَ بِهِما، وأَمَرَه بِمسحِ الرَّأسِ لَما وَضَعَ يَدَهُ عَلَى اُمِّ رَأسِهِ، وَأَمَرَه بِمَسحِ القَدَمَينِ لَمَا مَشَى بِهِما إِلى الخَطيئَةِ»[1].

وهذا الحديث الشريف الذي يتضمّن جواب النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى ذلك اليهودي ويبيّن السرّ في غسل الوجه واليدين، وأنّ المسألة تعود إلى ارتكاب آدم للخطيئة، فأمر الله‌ تعالى بالوضوء بعنوان تكليف على آدم وذرّيته، ويمكننا استفادة عدّة نقاط من هذا الحديث الشريف، إحداها، أنّ كلّ إنسان عادي يرتكب في حياته الخطأ بهذه الأعضاء من الوجه والعين والاُذن واللسان والفم و... ولذلك عندما يغسل وجهه بالماء فإنّه يجب أن يفهم نفسه ويلقنها أنّه لا ينبغي لهذا الوجه أن ينصرف في غير طاعة الله، ويتلوّث المعصية، فالوجه يجب استعماله في طاعة الله‌ وعبادته فقط.

فقد ورد في دعاء الوضوء: «اللّهُمّ بَيِّض وَجْهِي يَومَ تَسوَدُّ فِيهِ الوِجُوهُ وَلا تُسَوِّد وَجهِي يَومَ تَبيضِ فِيهِ الوجُوه»[2]، وهذه الأدعية يستحبّ قراءتها عند الوضوء.

فلو أنّ الإنسان المؤمن في حال الوضوء كان ملتفتا إلى هذه المفاهيم والآداب


1. جامع أحاديث الشيعة، ج 2، ص 282.

2. الكافي، ج 3، ص 7.

فسوف يعلم أنّ هذا العمل العبادي ليس مجرّد عمل ظاهري وسطحي بحيث إنّ الله‌ تعالى يقول لك: بما أنني ربّك وخالقك إنّي آمر بأن تفعل كذا وكذا ويجب عليك الامتثال والطاعة، كلاّ، هذه الأعمال لها أسرار وإذا التفت الإنسان إلى هذه الأسرار ويتذكّر عندما يمسح على رأسه آدم عندما وضع يده على رأسه وينتبه لئلا يتحرّك عقله وفكره في مسار غير مسار العبوديّة والطاعة لله‌ تبارك وتعالى.

نسأل الله‌ تعالى أن يعرفنا جميعا على أسرار العبادات ولاسيما الصّلاة.


49ـ أقسام الوضوء في نظر العرفاء


بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في رواية شاملة عن النّبي الأكرم صلوات الله‌ وسلامه عليه، أنّه أشار إلى أنّ سرّ الوضوء يعود إلى تاريخ النّبي آدم عليه‌السلام وحادثة اقترابه من الشجرة الملعونة، وعندما نقرأ كلمات بعض العرفاء فسوف نرى أنّهم يذكرون ما ورد هذه الرواية ولكن في قالب وببيان آخر، ويقسّم السيّد حيدر الآملي أعلى الله‌ مقامه الشريف في كتابه الجامع والنفيس باسم «أنوار الحقيقة وأطوار الطريقة وأسرار الشريعة»، الوضوء إلى ثلاثة أقسام:

1.وضوء أهل الشريعة.

2. وضوء أهل الطريقة.

3. وضوء أهل الحقيقة.

ثمّ يقول السيّد حيدر الآملي قدس‌سره: إنّ هذا التقسيم للوضوء ورد في رواية عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ولكن بتعبير آخر، فهو يرى أنّ وضوء أهل الشريعة هو هذه الأفعال الظاهريّة وطهارة أعضاء البدن وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين، وهكذا يأتي المكلّف بكلّ وضوء بتلك النيّة الظاهريّة.

ولكن عندما يصل إلى بيان وضوء أهل الطريقة، يقول: إنّ أهل الطريقة على أربع شعب، وهذه الشُعب الأربعة لا معنى لها في الطهارة الظاهريّة، وهذه الشُعب عبارة عن:

1. طهارة النفس؛ 2. طهارة العقل؛ 3. طهارة الباطن؛ 4. طهارة الأعضاء، وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أننا لا نقول بالتفكيك بين الشريعة والطريقة والحقيقة، وما ورد طبقا للقرآن الكريم والعقل القطعي والأحاديث المسلّمة عدم التفكيك بين هذه الأمور، ولذلك بحسب الأدلة القطعيّة فإنّ أهل الحقيقة لابدّ أن تتوفّر لديهم جميع خصوصيّات أهل الطريقة والشريعة، وكذلك فإنّ أهل الطريقة يجب أن تتوفّر لهم جميع خصوصيّات أهل الشريعة.

أمّا طهارة النفس فتعني أن يطهّر الإنسان نفسه من الرذائل الأخلاقيّة والصفات النفسانيّة الذميمة ولا يسمح لنفسه أن تتخلّق بالصفات السيّئة، وتتلوّث بالأفعال القبيحة، وفي مجال طهارة العقل لا يسمح الإنسان للأفكار الباطلة والعقائد الظالّة أن تجد الطريق إلى عقله، وفي مجال طهارة الباطن يسعى الإنسان لإبعاد باطنه وسرّه من النظر إلى الأغيار ولا ينظر أبدا بنظر الباطن إلى غير الله‌ بل يحصر توجّهه وميله بالله‌ تعالى، وفي طهارة الأعضاء لا يرتكب الإنسان الأعمال المنافية لشرع الله‌ ولا يسمح لجوارحه باليد والقدم، والعين، والاُذن واللسان و... بأنّ تتلوّث في مستنقع المعاصي ووحل الذنوب.

وبالإمكان ادراج هذا الكلام في الرواية التي نقلها المرحوم الصدوق في كتابه «من لا يحضره الفقيه» ويقول عليه‌السلام: «إِنَّ الوُضُوءَ عَلَى الوُضُوِ نُورٌ عَلى نُورٍ»[1]، فعندما يتوضأ الإنسان يحصل على الطهارة الباطنيّة، ولذلك فإنّ هذا الوضوء نور، فإذا توضأ مرّة ثانية دون أن يحدث حدثا نقضا للوضوء فسوف يكون هذا

الوضوء الثاني نور على نور، يعني سينال هذا الإنسان مرتبة أعلى من الطهارة.


1. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 41.

«وَمَنْ جَدَّدَ وُضُوئَهُ مِنْ غيرِ حَدثٍ آخرَ جَدَّدَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ تَوبَتَهُ مِنْ غَيرِ استِغفَارٍ»، هذا يعني أنّ الوضوء الثالث بمثابة التوبة والعودة والإنابة إلى الله‌ تبارك وتعالى بدون أن يصدر من استغفار.

وإذا كان الوضوء الثاني نور على نور، فالوضوء الثاني يخلّف أثرا مضافا إلى الوضوء الأوّل، وهذا كذا لو جدّد وضوءه المرّة الثّالثة فسوف يحصل على نور آخر ويترتّب عليه أثر جديد، وبإمكاننا تذكير هذه الآثار والمعطيات على طهارة النفس وطهارة العقل وطهارة السرّ والباطن.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام فيما يخصّ النيّة وحقيقتها: إذا أراد الإنسان أن ينوي تحصيل الطهارة قربة إلى الله‌ يجب عليه أن يعزم في قلبه وباطنه: «أن لا يفعل فعلاً يخالف رضا الله»، وهكذا تكون جميع عباداته خالصة لله‌ عزّ وجلّ، والنقطة المهمّة هنا أنّ هذا الشخص لا ينبغي أن يتصوّر أنّ النيّة الحقيقة تكون فقط بالنسبة إلى ذلك العمل، بل في هذا الوضوء أيضا النيّة الصحيحة والحقيقيّة هي أنّ الإنسان يعزم ويقرر بشكل حاسم أن لا يصدر منه أي فعل وعمل يخالف رضا الله‌ تعالى، وينبغي أن يجعل حياته ومماته لله‌ عزّ وجلّ، وهذه هي حقيقة النيّة الخالصة كما ورد في سورة الأنعام، الآية 162 و 163:

«قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِيِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»، فينبغي على الإنسان المؤمن أن تكون جميع أموره وحركاته وسكناته ومنها القيام والعقود والنوم واليقظة والحياة والممات كلّها لله تبارك وتعالى، فعندما يريد أن يغسل وجهه بالوضوء يجب أن ينتبه إلى أنّ هذا الوجه الظاهري يحكي عن الوجه الباطني ووجه القلب، إذن فكما أنّه يطهّر وجهه من التلوّث الظاهري يجب عليه أن يطهّر وجهه الباطني أيضا من التعلّق

بالدنيا وحبّ الدنيا: «فاِنَّ الدُّنيا جِيفَةٍ وَطُالِبُها كِلابٌ فَالطّالبُ والمَطلُوبُ نَجِسانٍ»[1]، أو نقرأ في قراءة أخرى قوله عليه‌السلام: «حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلُّ خَطِيئَةٍ وَتَركِ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ عِبَادَةٍ».

أمّا بالنسبة إلى غسل اليدين في الوضوء يقول عليه‌السلام: «غَسلُهُما وَطَهارَتُهما عَمّا فِي قَبضَتِهما مِنَ النَّقدِ وَالجنسِ وَالدُّنيا والآخرة»، وهذا في الحقيقة انقطاع عن المتاع الدنيوي وكذلك الاُخروي.

«أَمَّا مَسحُ الرَّأسِ أَنْ يَمسَحَ رَأسَهُ الحَقِيقِي وَهُو العِقلُ أَو النَّفسِ»، وعندما يمسح الإنسان رأسه في الوضوء فهو يريد في الحقيقة أن يمسح رأسه الحقيقي وهو عقله ونفسه من التلوّثات الفكريّة والشكوك الشيطان والخيالات الباطلة، أمّا مسح القدمين: «أَنْ يَمنَعها عَنِ المَشِي لِغيرِ رِضا الله»، ويقول حينها: لا أتحرّك بقدمي هاتين في مسير يخالف رضا الله‌ تعالى.

وهكذا ندرك ما في هذه الطهارة من النكات والحقائق الدقيقة المؤثرة في روحية الإنسان وسلوكه في حركة الحياة، فمثل هذا الشخص يشعر بالنورانيّة تحيط في نفسه وتحيط به من كلّ جانب، لأنّ الأشخاص الغارقون في المشاكل الدنيويّة ويعيشون الكآبة الروحيّة يتحرّكون لحلّ مشكلاتهم وفق الأفكار الخاطئة والحلول الباطلة، وأفضل طريق للحلّ هو ما ذكر في الفكر الديني، فالشخص الذي يشعر بعدم الراحة والكآبة والقلق والاضطراب، عندما يتوجّه للوضوء، فإنّ هذا الوضوء والطهارة تخلق له حفظا وحصنا من النور وتمنحه السكينة واستقرار النفس مضافا إلى أنّه بعد الوضوء يصلّي ركعتين بحضور القلب، فالباري تعالى يقول: «أَلاَ بِذِكْرِ الله‌ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»[2].


1. مصباح الشريعة، ص 138.

2. سورة الرعد، الآية 28.


50ـ تأثير الدعاء والذكر عند الوضوء


بسم الله الرحمن الرحيم

نتابع ذكر الروايات والأحاديث الشريفة المتعلّقة بأسرار الطهارة في الصّلاة، فقد وردت رواية عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام في كتاب «جامع أحاديث الشيعة» أنّ الإمام عليه‌السلام قال: «مَا مِنْ مُسلِم يَتَوضأ فَيقَُولُ عِندَ وُضُوئِه: «سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيكَ، اللّهُمَّ اجعَلنِي مِنَ التَّوابِينَ وَاجعَلنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ إِلاّ كُتِبَ فِي رِقٍّ وَخُتِمَ عَلَيها ثُمَّ وُضِعَتْ تَحتَ العَرشِ حَتّى تُدْفَعَ إِلَيهِ بِخَاتَمِها يَومَ القِيامَةِ»[1]، هذه الكلمات والعبارات الواردة في كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام ترتبط ارتباطا وثيقا بفلسفة تشريع الوضوء، فعندما يتوضأ الإنسان فلماذا يقول هذه العبارات، ولماذا يجب أن يتشهد بشهادة التوحيد، ولماذا يستغفر؟ لأنّ الطهارة عبارة عن استغفار واقعي للإنسان، فهذا الشخص عندما يتوضأ يعود إلى الله‌ تبارك وتعالى كما ذكرنا في قصّة النّبي آدم عليه‌السلام .


1. مستدرك الوسائل، ج 1، ص 321؛ جامع أحاديث الشيعة، ج 2، ص 260.

يقول أميرالمؤمنين عليه‌السلام: إنّ الإنسان إذا تكلّم بهذه الكلمات في حال وضوئه وطلب من الله‌ تعالى أن يجعله في زمرة التوابين والمتطهرين، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى يكتب هذه الكلمات في ورقة، وهذه كناية على أنّ هذه الكلمات لا تذهب هدرا بل تكون مثبتة عند الله، وهناك ملائكة مأمورون بكتابة هذه الكلمات وحفظها ثمّ الختم عليها ووضعها وحفظها تحت العرش إلى يوم القيامة فتعاد لصاحبها، وعندما نقرأ أنّ الإنسان المؤمن عندما يأتي يوم القيامة سيكون لها نور يهديه إلى الجنّة وهذا النور هو تلك الأعمال والعبادات والطاعات التي عملها الإنسان في هذا العالم وأرسلها إلى آخرته، وطبقا لهذا الحديث الشريف أنّ كلّ وضوء يتحوّل إلى نور يضيء الطريق لهذا الإنسان ليتحرّك بسرعة وبراحة إلى الجنّة، وينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي حقيقة الوضوء ما هي؟ وخاصّة الآداب والأذكار في حال الوضوء حيث ينبغي علينا تعلّمها بمقدار الإمكان ونقرأها في حال الوضوء ونقرأ هذه الأدعية والأذكار حال الوضوء حتما، ولا يكون حالنا أن نتوضأ عشرات السنين ولكن لا نفهم ما هي الغاية من هذا الوضوء؟ وبالتالي لا نحصل على ذلك الإحساس والنورانيّة الناشئة من طهارة الباطن.


51ـ أسرار الوضوء في حديث المعراج


بسم الله الرحمن الرحيم

وإحدى الروايات الواردة في مسألة أسرار الطهارة، الرواية الواردة في كتاب «علل الشرائع» ضمن حديث المعراج عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «قَالَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ يا مُحَمَّدُ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله مُدَّ يَدَكَ فَيَتَلقَّاكَ مَا يَسيلُ مِنْ سَاقِ عَرشِي الأَيمَنِ، فَنَزَلَ المَاءُ فَتَلَقَّيتُهُ بِاليَمِينِ فَمَنْ أَجلِ ذَلِكَ أَوَّلُ الوُضُوءِ بِاليَمِنى، ثُمَّ قَالَ يا مُحَمَّدُ خُذ ذَلِكَ فاغسِل بِهِ وَجهَكَ وَعَلَّمَهُ غَسلَ الوجَه، فإنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنظُرَ إِلى عَظَمَتِي وإِنَّكَ طَاهِرٌ».

عندما يسمع الإنسان هذه العبارة أو يقرأها فماذا سيكون حاله؟ نحن نغسل وجهنا في الوضوء لأننا نريد بذلك ملاقاة الباري تعالى والحديث معه ومناجاته، فينبغي أن يكون هذا الوجه طاهرا في ظاهره وباطنه أيضا، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله الذي يملك مقام النبوّة عندما أراد في معراجه النظر إلى عظمة الله‌ وجب أن يكون طاهرا، والصّلاة بدورها عندما تكون معراج المؤمنين فيما لو كانت مقترنة بالطهارة الصحيحة، ونحن في صلاتنا نتحرّك في الحقيقة بنحو من أنحاء المعراج إلى الله: «الصَّلاةُ مِعرَاجُ المُؤمِن» فالإنسان بهذه الصّلاة يعلّق في عوالم الملكوت

ثمّ يعود إلى هذا العالم.

«ثُمَّ اغسِل ذِراعَيكَ اليَمينَ وَاليَسارَ وَعَلَّمَهُ ذَلِكَ فإِنَّكَ تُريدُ أَنْ تَتَلقَّى بِيدِيكَ كَلامِي»، لماذا وجب غسل على النّبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله غسل اليدين؟ تقول الرواية: بأنّك تريد أن تتلقّى بيدك كلامي، يعني أنّ الغرض من غسل اليدين هو من أجل أن نحضر في مقام القرب الإلهي ونقف في محضر الله‌ بيد طاهرة ونطلب منه ما يسعنا من رحمته ولطفه، فلا يمكن أن يصلّي المؤمن ولا يتحدّث مع الله‌ ولا يطلب منه شيئا، ولو طلب منه شيئا فلا يمكن أن لا يعطى له شيء، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ومن أجل تسلّم كتاب الوحي يجب أن يكون ظاهر يديه طاهرتين أيضا.

«وَامسَح بِفَضِلِ مَا فِي يَدَيكَ مِنَ المَاءِ رَأسَكَ وَرِجلَيكَ إِلى كَعبَيكَ، وَعَلَّمَهُ المَسحَ بِرَأسِهِ وَرِجلَيهِ وَقَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمسحَ رَأسَكَ وَاُبارِك عَلَيهِ»، وهذه العبارة عميقة المغزى وزاخرة بالمعنى، يقول الله‌ تبارك وتعالى: يا محمّد! امسح يديك على رأسك لماذا؟ لأنّي اُريد أن أمسح رأسك بالبركة وأجعلك مباركا، فماذا يعني هذا؟ يعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى أراد أن يهب للنبي بركات وفيوضات على فكر وعقله ولكن الشرط الأولي الظاهري، هو أن يمسح الإنسان رأسه بماء الوضوء، وهذا الأمر يشير إلى أننا يجب أن نجعل فكرنا وعقلنا حصرا لله‌ فقط، لأنّ الفهم أو الذهن هو محل نزول الفيوضات الربانيّة على الإنسان.

ثمّ يقول: «فَأمَّا المَسحُ عَلَى رِجلَيكَ فَإِنّي أُرِيدُ أَنْ أُوطِئكَ مَوطئِا لَمْ يَطَأهُ أَحَدٌ قَبلَكَ وَلا يطؤُهُ أَحدٌ غَيرَكَ فَهذا عِلَّةُ الوُضُوء»، وهكذا نرى أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وصل إلى مقام «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»[1]، فقال الله، اُريد أن أجعل قدميك في مكان ومحلّ لم يضع أحد قدمه عليه حتّى جبرئيل.

والآن بعد أن نال النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله تلك المرتبة العالية وذلك المقام السامي في


1. سورة النجم، الآية 8 و 9.

سلوكه الإلهي والمعنوي، فنحن كبشر عاديين يجب علينا أن نمسح أقدامنا لأننا نريد أن نتقدّم خطوة في صلاتنا نحو مقام القرب الإلهي، فلو أننا واقعا نعيش هذا التوجّه والالتفات إلى هذه الحقيقة فإنّ الله‌ تعالى سيبارك على هذه الأقدام، إذن تلاحظون أنّ الوضوء يتضمّن أسرار وحقائق عميقة ولا ينبغي لنا أن نعيش الغفلة عنها، ومن المناسب أنّ الإنسان في حال اسباغ الوضوء أن يتذكر هذه العبارات وطبعا لابدّ من الاستمداد من نظر الله‌ ولطفه ويتذكر الإنسان هذه العبارات أثناء الوضوء ويستطيع إيجاد تحوّل في باطنه والحصول على تلك النورانيّة في الوضوء بحيث يشعر بها في وجوده وباطنه ويعيش بهذه النورانيّة حياة سعيدة في الدنيا والآخرة.

نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعا من أهل الحضور في ساحة قدسه إن شاء الله.


52ـ وضوء أهل الحقيقة (طهارة السرّ)


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا لحدّ الآن أنّ الإنسان لا يستطيع بدون أداء الطهارة الصحيحة أن يصل إلى باطن الصّلاة وحقيقتها، وفي الطهارة نفسها يجب أن يلتفت المصلّي إلى ملكوت الطهارة وحقيقتها وباطنها، ويعلم أنّ وراء هذه الأفعال الظاهريّة، أي غسل الوجه واليدين، تطهيرا في باطنه أيضا، ويجب علينا تحصيل الطهارة الباطنيّة من طهارة القلب والعقل والنفس، فلو أنّ المصلّي أسبغ وضوءه بمثل هذا العمق والدقّة وبهذا الالتفات إلى حقيقة الطهارة فستكون صلاته بشكل آخر وسينال مرتبة أقرب إلى الله.

وفي هذا المجال ورد في رواية وحديث قدسي متفق عليه بين الشيعة وأهل السنّة، أنّ الله‌ تبارك وتعالى يقول: «لا يَزالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أَحِبَّهُ»[1]، وهذا التعبير، رغم أنّه ورد في خصوص النوافل، لكن إذا أدّى الإنسان ما عليه من الواجبات والعبادات بشكل دقيق وعميق فسوف تؤثر هذه الخصوصيّة في


1. روضة المتقين، ج 12، ص 209.

وجوده أيضا، ولو أنّ المصلّي أسبغ الوضوء مع رعاية شروطه وخصوصيّاته بشكل كامل فسوف يصل إلى طهارة النفس والباطن وسيكون محبوبا للباري تبارك وتعالى.

«فإِذَا أَحببتُهُ كُنتُ سَمعَهُ وَبَصرَهُ وَلِسانَهُ وَيَدَهُ وَرِجلَهُ، فَبِي يَسمعُ وَبِي يَبصُرُ وَبِي يَنطِقُ وَبَي يَبطِشُ وبِي يَمشي»، هذا يعني أنّ هذا الشخص كلّ ما ما يسمعه أو يراه أو ما ينطقه بلسانه فسوف يكون ذلك بمشيئة الله‌ وإرادته، فالشخص الذي يقع محبوبا للذات المقدّسة فإنّ الله‌ تعالى في الحقيقة هو الحاكم على وجوده وهو مالك لتصرفاته وسلوكياته، وعندما نتحدّث عن سرّ وحقيقة الطهارة فنرى أنّ هذا الأثر يترتّب أيضا عليهما.

يقول المرحوم السيّد حيدر الآملي في كتابه «أنوار الحقيقة وأطوار الطريقة وأسرار الشريعة» في بحث وضوء أهل الحقيقة وهي المرتبة الثّالثة والعالية من مراتب الوضوء: «طَهارةُ السِّرِّ عَنْ مُشاهَدَةِ الغَير»، أي أنّ طهارة أهل الحقيقة، وهم الذين وصلوا إلى أعلى مرحلة في الكمال الإلهي والمعنوي بحيث إنّ سرّهم وضميرهم لا يشاهد سوى الله‌ تعالى، فكلّ ما يراه هذا العارف فهو يرى الله، وعندما يغسل وجهه فهو في الحقيقة يغسل الوجه الحقيقي له، أي سرّه وباطنه من التلوّث والتوجّه إلى ما سوى الله‌ ويتعهّد في نفسه ويلزم نفسه أن لا يرى سوى الله‌ تعالى ويطهّر وجهه من رؤية الله‌ تعالى: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله...»[1]، «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ»[2]، ويعلم أنّه كلما التفت إلى أي شيء فإنه يرى وجه الله‌ فيه، وكلّ ما هو موجود في العالم من الكائنات واقع في دائرة الاحاطة الربوبيّة له، يقول السيّد حيدر الآملي قدس‌سره: وهذا التوجّه هو ما ورد عن توجّه إبراهيم عليه‌السلام لله‌ تعالى حيث قال:


1. سورة البقرة، الآية 115.

2. سورة فصلت، الآية 54.

«إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»[1]. ثمّ يشير السيّد حيدر الإملي قدس‌سره إلى غسل اليدين: «عبارةُ عَن عَدمِ الالتفاتِ إِلى مَا فِي يَديهِ مِن متاعِ الدُّنيا والآخرةِ»، فعندما يغسل الإنسان يديه يقول: إنني لا التفت بعد الآن إلى ما في يدي من متاع الدنيا والآخرة، أمّا متاع الدنيا فهو من قبيل المال والمقام الأهل والأولاد، ومقام الآخرة الطاعات والعبادات، يعني أنّ هذا الإنسان يصل إلى مرتبة يرى نفسه فارغا ممّا في الدنيا والآخرة ويديه صفر من متاع الدنيا والآخرة، حتّى لو أنّه قضى عمره في العبادة فهذه الأعمال لا تساوي شيئا عند أهل المعرفة، لأنّ رؤية الطاعة والعبادة عند أهل المعرفة هو معصية بذاته، فعندما تقول: أنا الذي فعلت كذا وكذا من العبادات، أي أنني عبدت الله‌ عشر سنوات أو سبعين سنة، فمثل هذا الالتفات إلى النفس يعدّ معصية بذاته، فلا ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه الأعمال العباديّة، لأنّه أوّلاً أنّ التوفيق لأداء هذه الأعمال كان بعناية الله‌ ولطفه وإلاّ نحن لا نستطيع على القيام بذلك بدون العناية الإلهيّة، وثانيا، ينبغي أن نأمل أن يتقبّل الله‌ تعالى بفضله وكرمه ولطفه.

وقد ورد في الرواية التي ينقلها ابن أبي الجمهور الاحسائي في «عوالي اللئالي» وقال: «الدّنيا حَرامٌ عَلَى أَهلِ الآخِرَةِ»، فالأشخاص الذين يريدون الوصول إلى مراتب عالية في الآخرة فإنّ الدنيا تعتبر سمّا مهلكا لهم فيجب عليهم الإعراض عنها.

«وَالآخِرَةُ حَرامٌ عَلَى أَهلِ الدُّنيا»، لأنّهم سلكوا في خطّ الشيطان وتحرّكوا في طلب الدنيا والمال والمقام، ولهذا فالحياة الطيّبة في الآخرة حرام عليهم.


1. سورة الأنعام، الآية 79.

«وَهُمَا مَعَا حَرامَان عَلَى أَهلُ الله»[1]، وهذا يعني أنّ أهل الله‌ يتوجّهون فقط وفقط إلى الله‌ تعالى، ولا ينظرون أبدا إلى متاع الدنيا ولا متاع الآخرة.

ويتابع المرحوم السيّد حيدر الآملي كلامه في مسح الرأس ويقول: «عِبارةُ عَنْ تَنزيه سِرِّهِ وتَقديس باطِنِهِ الّذي هُو الرَّأسُ الحَقِيقِي»، والمسح على الرأس يقصد به تنزيه الرأس الحقيقي وهو باطنه من تلوّث الأنانيّة وكلّما يقصد به غير الله‌ في فكره ونفسه، فالشخص الذي يشاهد غير الله‌ ويتوجّه إلى غيره هو مشرك عند أهل المعرفة «كُلُّ مَنْ شاهَدَ الغيرَ فَهُوَ مُشرِكٌ وَكُلُّ مُشرِك نَجسٌ وَالنَّجِسُ لَيسَ لَهُ طَريقٌ إِلى عالَم القُدس»، وهذه الموارد والمفاهيم كلّها مقتبسة من الآيات القرآنيّة أو الروايات الشريفة، وتوجد في الوضوء أسرار ونكات وخفايا كثيرة إذا التفت إليها الإنسان من موقع الفهم والعمق فسوف يرد عالما آخر وتنكشف له حقائق خفيّة وتزول عن بصيرته ستائر وحجب، ومثل هذا الوضوء من شأنه أن يخلق حالة حضور القلب للمصلّي، نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا هذه النعمة العظيمة إن شاء الله.


1. عوالي اللئالي، ج 4، ص 119.


53ـ أذكار أميرالمؤمنين عليه‌السلام عند الوضوء


بسم الله الرحمن الرحيم

ورد التأكيد الكثير في كتبنا الروائيّة على استذكار الأدعيّة الخاصّة والأسرار الوارد عن الوضوء، فالوضوء إذا اقترن بهذه الأدعية والأذكار فسوف تكون له حقيقة أخرى ويكون هذا الشخص مستعدا للصعود في عبادته وصلاته إلى مراتب عليا، وقد ورد في رواية صحيحة عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام في كتاب «الكافي»[1]، تبيّن آداب الوضوء، يروي عبدالله‌ بن الكثير عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام كان جالسا وطلب من ولده محمّد بن الحنفية أن يأتي له بماء ليتوضأ، فعندما أتى له بالماء أخذ بيده اليمنى كفّا من الماء وصبّه على يده يسرى وذكر هذا والذكر: «بِسمِ الله‌ الحَمْدُ الَّذي جَعَلَ المَاءَ طَهُورا وَلَمْ يَجعَلْهُ نَجِسا»، ثمّ دعاء بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ حَصِّنْ فَرْجِي وَاعِفَّهُ وَاستُر عَورَتِي وَحَرِّمها عَلَى النَّارِ».

ثمّ إنّه تناول مقدارا من الماء واستنشق منه بأنفه ودعا بهذا الدعاء:

«اللّهُمَّ لا تُحَرُّمْ عَلَيَّ رِيحَ الجَنَّة، وَاجعَلنِي مِمَّنْ يَشُمُّ رِيحَها وَطِيبَها وَرَيحَانَها».


1. الكافي، ج 3، ص 70.

ثمّ إنّه عليه‌السلام وضع مقدارا من الماء في فمه المبارك وتمضمض به وقال: «اللَّهُمَّ انْطِقْ لِسانِي بِذِكْرِكَ وَاجعَلنِي مِمَّنْ تَرضى عِنهُ»، وجاء في بعض النسخ بدلاً من كلمة «انطق»، «اطلق»، أي أطلق لساني بذكرك بحيث يكون مشغولاً بذكرك دائما.

إذا كان وضوء الإنسان مقترنا مع هذه الأذكار وبخاصّة هذا الذكر «اللَّهُمَّ انْطِقْ لِسانِي بِذِكْرِكَ...»، فيتبيّن أنّ الإنسان حتّى لو أراد الدعاء والمناجاة مع الله‌ فإنّ اختيار لسانه بيد الباري تعالى ولا يتحرّك ولا ينطق إلاّ بمشيئة الله، أي لابدّ أن تشمله العناية الإلهيّة ليكون لسانه قابلاً ولائقا لمناجاة الله، وفي الكثير من الأوقات يجد الإنسان نفسه يدعو الله‌ تعالى بكلّ راحة ويقرأ القرآن أو يصلّي ولا يحسّ بالملل، ولكن أحيانا لا يوفّق لقراءة آية واحدة أو دعاء مختصر ولا يجد في نفسه الميل والشوق لذلك، فيتبيّن أنّ الدعاء والمناجاة لابدّ لها من توفيق رباني وعناية الإلهيّة.

وعند غسل الوجه دعا أميرالمؤمنين عليه‌السلام بهذا الدعاء: «اللّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَومَ تَسوَدُّ فِيهُ الوُجُوه وَلا تُسَوِّدْ وَجهِي يَومَ تَبيَضُ فِيهِ الوُجُوهُ».

وعند غسل يديه اليمنى قال عليه‌السلام: «اللّهُمَّ لا تعطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَالخُلدَ فِي الجِنانِ بِيسَارِي».

وعندما غسل يده اليسرى قال عليه‌السلام: «اللّهُمَّ اعطِنِي كِتَابِي بِشِمالِي وِلا تَجعَلهَا مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِي»، ثمّ مسح رأسه المبارك وقال: «اللّهُمَّ غَشنِي بِرَحمَتِكَ وَبَركَاتِكَ وَعَفوُكَ».

وعند مسح قدميه قال عليه‌السلام: «اللّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّراطِ يَومَ تَزِلُ فِيهِ الأقدامُ وَاجعَل سَعيي فِيما يُرضِيكَ عَنْهُ»، هذه هي الأدعية والأذكار التي كان الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام يدعو بها عند الوضوء.


54ـ باطن الوضوء: تبديل قطرات ماء الوضوء إلى ملائكة


بسم الله الرحمن الرحيم

استعرضنا رواية للإمام الصادق عليه‌السلام ينقل فيها دعاء الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام في حال الوضوء وتعرّفنا على مضامين هذه الأدعية والأذكار، ونرى من اللازم أن يقرأ كلّ إنسان هذه الأدعية والأذكار عندما يتوضأ، يذكر الله‌ وكذلك يتذكّر المعاد ويتذكّر الأمور الأخلاقية الملازمة لإنسانيّته، وبعد أن أنهى أميرالمؤمنين وضوءه التفت إلى ولده وقال: ««يا مُحَمّدُ! مَنْ تَوَضّأ مِثلَ مَا تَوُضُأتُ وَقَالَ مَثلَ مَا قَلتُ خَلَقَ الله‌ مِنْ كُلِّ قَطرَةٍ مَلَكَا يُقَدِّسُهُ وَيُسَبِّحُهُ وَيُكَبِّرُهُ وَيَكتُبُ لَهُ ثَوابَ ذَلِكَ إِلى يَومِ القِيامَةِ»، والنقطة المهمّة جدّا التي ينبغي على الجميع الالتفات إليها في ختام الرواية أنّ الإمام عليه‌السلام قال: إنّ كلّ شخص يتوضأ مثل هذا الوضوء، وهو وضوء أتباع أهل البيت عليهم‌السلام والذي تعلموه من مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام، وهو الوضوء نفسه الذي توضأه رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فمن توضأ بمثل هذا الوضوء ودعا بهذه الأدعية والأذكار فإنّ الله‌ تعالى يخلق من كلّ قطرة ملكا يسبّح الله‌ ويقدّسه ويكتب هذا

الذكر والتسبيح من الملك لصاحب هذا الوضوء في صحيفة عمله.

وفي هذه الرواية عدّة نقاط مهمّة ينبغي الالتفات إليها:

الاُولى، أنّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام لم يكن بصدد بيان ثواب الوضوء فقط بل في مقام بيان حقيقة الوضوء، فهو لا يريد أن يقول إنّ الشخص الذي يتوضأ فإنّ الله‌ تعالى سيكتب له الثواب، بل يريد أن يبيّن حقيقة هذا العمل وباطنه وأجزاءه، يعني أنّ ذلك الماء الذي يجري على بدن الإنسان المؤمن مقترنا بالذكر الله‌ وبتلك الكيفيّة الشرعيّة فإنّ حقيقة قطرات هذا الماء تتمثّل بشكل ملك من الملائكة، يعني هناك ملك بإزاء كلّ قطرة من قطرات ماء الوضوء، وعمل هؤلاء الملائكة الكثيرين الذين خلقوا من قطرات هذا الماء أنّهم يحمدون الله‌ ويقدّسونه إلى يوم القيامة، ولا يتصوّر أحد أنّ هذه الرواية تذكر فقط ثواب الوضوء، كلاّ، إنّ هذه الرواية تبيّن حقيقة قطرات ماء الوضوء والتي تتمثّل في هيئة الملائكة.

النقطة الثّانية، أنّ خصوصيّات هذه الرواية وتمثّل قطرات ماء الوضوء بالملائكة لا يختصّ بأميرالمؤمنين عليه‌السلام، فالإمام هنا يقول إنّ كلّ شخص إذا توضأ مثل وضوئي وذكر هذه الأذكار والأدعية فسوف يخلق الله‌ ملكا من كلّ قطرة من ماء وضوئه، ورغم أنّ نوع البشر عاجزون عن الاتيان بمثل هذا الوضوء وبهذه الكيفيّة والخصوصيّات ولذلك ذكر بعض الأعاظم والأكابر أنّ هذا المعنى يعدّ من خصوصيّات أميرالمؤمنين عليه‌السلام أو الأشخاص الذين بمثل مقامه وتالي تلوه وعلى مقربة منهم في مراتب الكمال المعنوي والإلهي.

إنّ بعض الشخصيات من الأولياء يعيشون النور الإلهي في جميع وجودهم وبعيدا عن كلّ رجس وذنب ورذيلة، فمثل هذا الشخص الطاهر المطهّر من كلّ رجس وذنب إذا توضأ فإنّ وضوءه يحمل مثل هذه الخصوصيّة والثمرة، ولكن يمكن القول إنّ المستفاد من هذه الرواية الشريفة أنّ الله‌ تبارك وتعالى قد يرتّب

مثل هذه الآثار والثمرات بفضله وكرمه ولطفه على جميع العباد الذين يتوضأون مثل هذا الوضوء، أي بمثل وضوء أميرالمؤمنين عليه‌السلام وبالترتيب المذكور ومع رعاية آدابه والأدعية والأذكار الواردة مع الالتفات والاعتقاد بمضامينها ومعانيها، يعني عندما يقول: «اللّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّراطِ يَومَ تَزِلُ فِيهِ الأقدامُ...»، فإنّه يرى واقعا يوم القيامة وجسر الصراط ويجد في نفسه القلق والاضطراب من حالته في ذلك اليوم الرهيب، فرعاية آداب الوضوء والتوجّه إلى معاني هذه الأذكار والمعتقدات الواردة في هذه الأدعية قد يتفق لبعض الناس أيضا.

وأساسا إذا قلنا إنّ مثل هذه الخصوصيّات يعني خلق الملائكة من قطرات ماء الوضوء يختصّ بأمر المؤمنين عليه‌السلام وفعل هذا الإمام، إذن فلماذا يقول الإمام عليه‌السلام: «مَنْ قَالَ مِثلَ قَولِي وَتَوضّأ مِثلَ وُضُوئِي»، فلو كان الآخرون عاجزين واقعا عن الوصول إلى هذه الحقيقة فما هي الثمرة والنتيجة المترتبة على هذه الحقيقة؟ فما يقوله البعض أنّ هذا الأمر يختصّ بالإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام خلاف لظاهر الحديث، وعندما نستعرض الروايات الواردة في باب الوضوء ونتمعّن فيها فسوف نرى كثرة الآثار والبركات الإلهيّة المترتبة على مثل هذا الوضوء.

إذن، يبدو أنّ هذا الأمر لا يختصّ بأميرالمؤمنين عليه‌السلام بل إنّ هذه الرواية تعكس مراتب الطهارة ووجود فرق بينها، فذلك الملك الذي يخلق من قطرات ماء وضوء أميرالمؤمنين عليه‌السلام يختلف قطعا عن ذلك الملك الذي يخلق من قطرات ماء وضوء الشخص العادي، فدرجات الملائكة تختلف بحسب اختلاف مراتب طهارة الأفراد، وهذا هو ما ثبت في محلّه، إذن فلا معنى للقول إنّ الآخرين محرومون من الوصول إلى هذه المرتبة.

النقطة الثّالثة، يستفاد من هذه الرواية أيضا أنّ الوضوء حتّى لو لم يكن بنيّة

الصّلاة بل يتوضأ المؤمن لمجرّد الطهارة مع توفّر شروط الوضوء فإنّ هذه الآثار والبركات ستترتّب عليه أيضا.

وأمّا هذه الرواية فلا تدلّ على أنّ هذا الشخص المتوضيء يقصد من ذلك الصّلاة بعده، فلم يُذكر في هذه الرواية قيد وشرط بعنوان الصّلاة، ولذلك ينبغي على المؤمنين الالتفات إلى هذه الحقائق واستثمارها والسعي يكونوا دوما على وضوء وطهارة وليعلموا كثرة البركات والثمرات المترتبة على الوضوء، عليهم رعاية الأذكار والأدعية الواردة في حال الوضوء لئلا يفقدوا هذه العنايات الإلهيّة الكبيرة ويحرمون أنفسهم من لطف الله‌ تعالى، ورعايته.


55ـ آثار وفوائد الوضوء


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد آثار الوضوء إيجاد النورانيّة في باطن الإنسان، وحقيقة هذا الوضوء خلق الملائكة من قطرات هذا الماء ليسبحوا الله‌ تبارك وتعالى ويكبّروه إلى يوم القيامة، ولعل البعض يخطر في ذهنه أنّ الوضوء بما أنّه مقدّمة وشرط من شروط الصّلاة فلا يحظى بأهميّة كبيرة، في حين يجب علينا الالتفات إلى أنّ الوضوء في ذات كونه شرطا للصّلاة فإنّه في نفسه عمل عبادي مهمّ جدّا وتترتّب عليه آثار مهمّة أيضا، وقد وردت الرواية الشريفة في كتاب «الكافي»[1] عن محمّد بن قيس يقول:

«سِمِعْتُ أَبَاجَعفَر عليه‌السلام يَقولُ وَهُوَ يُحَدِّثُ النّاسِ بِمَكّة: صَلّى رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهالفَجرَ» مع أصحابه إلى أن طلعت الشّمس وقام الأصحاب واحدا بعد الآخر وذهبوا: «حَتَّى لَمْ يَبقَ مَعَهُ إِلاّ رَجُلانِ»، أحدهما من الأنصار والآخر من قبيلة ثقيف، فالتفت إليهما رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وقال:


1. الكافي، كتاب الطهارة، باب النوارد، ح 7.

«قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَكُما حَاجَةٌ وَتُريدانِ أَنْ تَسألا عَنها فإِنْ شِئتُما أَخبَرتُكُما بِحَاجَتِكُما قَبلَ أَنْ تَسألانِي»، قالا: «فَإِنْ ذَلِكَ أَجلَى للعَمى وَأَبعَدُ مِنَ الإِرتِيابِ وَأَثبَتُ للإِيمَانِ» قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله:

«أَمَّا أَنتَ ياأَخا ثَقِيف فإِنَّكَ جِئتَ تَسأَلَنِي عَنْ وُضُوئِكَ وَصَلاتِكَ ما فِي ذَلِكَ مِنْ الخَيرِ»، ثمّ إنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله التفت إلى الأنصاري وقال له: إنّك تسأل عن الحجّ والعمرة، وما نحن بصدد الإشارة إليه هو جواب النّبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهعن سؤال الثقفي فيما يتّصل بالوضوء.

هنا يقول النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في جوابه: «أَمَّا وُضُوؤكَ فَإِنَّكَ إِذا وَضَعتَ يَدَكَ فِي إِنائِكَ ثُمَّ قُلتَ بِسمِ الله‌ تِنَاثَرتْ مِنها مَا اكْتَسَبتَ مِنَ الذُّنُوبِ، فإذَا غَسَلْتَ وَجهَكَ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ الَّتِي اكتَسَبتَها عَينَاكَ بِنظرِهِما وفُوكَ، فَإِذا غَسَلتَ ذِراعَيكَ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمالِكَ، فإِذا مَسَحْتَ رَأسَكَ وَقَدَمَيكَِ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ الّتِي مَشيتَ إِلَيها عَلَى قَدَمَيكَ».

أيّها الإنسان، تأمّل ما في الوضوء من آثار وبركات عظيمة، فيستطيع الإنسان بوضوء واحد أن يتطهّر تماما من الذنوب والآثام التي تلوّثت بها أعضاؤه وجوارحه، وقد ورد في أحاديث أخرى أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: «إنّ قَالَ فِي آخرِ وُضُوئِهِ وغُسلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ وَأَتُوبُ إِلَيكَ وأَشْهَدُ أَنّ مُحَمِّدا عَبْدُ هُوَرَسُولُهُ وأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّا وَلِيِّكَ وَخَلِفَتِكَ بَعدَ نِبيِّكَ عَلَى خَلقِكَ وَأَنَّ أَولِياءهُ خُلفَاؤكَ وَأَوصِياءهُ أوصِياؤكَ تَحاطَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ كِلُّها كَمَا تَحاطُ وَرَقُ الشَّجر»[1].

وهكذا تلاحظون الأهميّة البالغة لهذا الوضوء عند الله‌ تبارك وتعالى والتحوّل الكبير الذي ينتج بسبب هذا الوضوء وكم من الأسرار والحقائق الكامنة فيه، ولكن للأسف نحن لا نعلم بها ونعيش بعيدا عن هذه الحقائق المعنويّة.


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 77، ص 316.

وقد يتساءل أحيانا بعض الأشخاص بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم: لماذا نغسل وجوهنا وأيدينا من أجل الصّلاة، هؤلاء الأشخاص لا يعلمون أنّ الله‌ تعالى حكيم على الإطلاق وقد أوجب الوضوء مقدّمة للصّلاة، وهو عالم تماما بأسرار هذا الوضوء ولذلك يجب علينا السعي أن نكون على طهارة دائمة، ورغم أنّ الوضوء شرط للصّلاة ولكن لا ينبغي لنا الغفلة عن هذه الحقيقة ولا نتوضأ للصّلاة فقط بل نكون على وضوء في جميع الحالات لتشملنا أنوار هذا الوضوء ونستغرق في بركات هذه الطهارة إن شاء الله.


الباب الثاني: أسـرار سـتر العـورة



56ـ أسرار ستر العورة في الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد الشروط التي يجب على المصلّي رعايتها، ستر العورة، وقد يثار هذا السؤال، لماذا يجب على المصلّي أن يستر عورته في حال الصّلاة؟ فإنّ الله‌ تعالى هو العالم بظاهر الإنسان وباطنه ولا فرق لديه أن يكون المصلّي عريانا أو مستورا؟ وما هي الخصوصيّة والأسرار في ستر العورة بحيث صار شرط هذا العمل شرطا واجبا من شروط الصّلاة ويجب على المصلّي رعايته.

لقد ذكر علماؤنا في مدوّناتهم وكتبهم في بحث أسرار الصّلاة نقاط وملاحظات قيمة في هذا المورد، وبخاصّة الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، حيث ذكر نقاط مهمّة جدّا وبعضها خارج عن دائرة فهم أمثالنا وتختصّ بحقيقة هذا الإمام النورانيّة وأمثاله، وبالنسبة لستر العورة في الصّلاة لابدّ من القول إنّ ستر العورة وأعضاء البدن القبيحة أي المواضع التي يقبح النظر إليها والعقلاء يجتنبون النظر إليها والمرتبة الأدنى من ذلك ستر العورة، وعلى حدّ تعبير الإمام رضوان الله‌ عليه أنّ ستر العورة هو المفهوم عند عامّة الناس، ولكنّه يذكر

أيضا خمس مراتب أخرى لستر العورة: 1. ستر العورة لدى الخاصّة؛ 2. ستر العورة لدى الخواص؛ 3. ستر العورة لدى أهل الإيمان؛ 4. ستر العورة لدى أهل المعرفة؛ 5. ستر العورة لدى أهل الولاية[1].

ومن الواضح أنّ كلّ ستر يستلزم لباسا وساترا خاصّا، فستر المواضع القبيحة من ظاهر البدن يتمّ بهذه الملابس الظاهريّة بل حتّى في موارد لا يوجد لباس يستطيع الإنسان ستر عورته بورق الشجر وأمثال ذلك، وهكذا يستطيع الإنسان أن يستر هذه المواضع بسهولة، ولكن هناك مراتب أعلى من الستر وتستلزم لباسا آخر، من قبيل لباس التقوى، فعندما يقترف الإنسان الرذائل ويرتكب الأعمال القبيحة يجب عليه تغطيتها وسترها بلباس التقوى، أي أنّه يقوم بأعمال لجبران تلك الأعمال القبيحة ويستر نفسه بها، وفي المرتبة الثّالثة فيما لو أراد الإنسان ستر نفسه من القبائح والصفات الذميمة يجب عليه أن يرتدي لباس العفاف والطهارة، وفي المرتبة الرابعة فيما لو أراد ستر عيوبه القلبيّة وتغطية القبائح في نفسه وروحه يجب عليه استخدام لباس الطمأنينة، وفي المرتبة الخامسة يرتدي لباس الشهود ولباس التمكين وهي من جملة المفاهيم التي يصعب علينا جدّا دركها وفهمها.

ومقصودنا من الإشارة إلى هذه المراتب أنّ المصلّي يجب أن يعلم أنّه إذا وجب عليه ستر القبائح الظاهريّة وتغطية عورته في الصّلاة فإنّه يحتاج لستر أعماله وسلوكياته المذمومة إلى ساتر أيضا، وكذلك قلبه وفكره وباطنه تحتاج أيضا إلى ساتر، وتحتاج ملاكاته الأخلاقيّة وصفاته الذميمة إلى ساتر أيضا، فيجب علينا أن نتجاوز القبائح الظاهريّة ونركز تفكيرنا في القبائح الباطنيّة وكيفيّة سترها واصلاحها، يقول المرحوم الشهيد الثاني رضوان الله‌ عليه: يجب على


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 49.

الإنسان أن يجمع جميع قبائحه الباطنيّة في قلبه ويعلم أنّ الساتر الوحيد لها عبارة عن الخوف من الله‌ والأمل برحمته تعالى، أن يعيش حالة الخوف والرجاء وصفها ساترا للملكات الباطنيّة القبيحة والصفات الأخلاقيّة الذميمة، وتبيّن من ذلك لماذا وجب على المصلّي ستر العورة في حال الصّلاة وهو يقف أمام الباري تعالى العامّ بالظاهر والباطن، بل يجب عليه ستر العورة حتّى في الأماكن التي لا يوجد فيها أحد من الناس ولا يراه أحد، ومن هنا ورد التأكيد في اختيار المصلّي للباسه بأن لا يجعله منشغلاً بهذا اللباس عن الصّلاة والتوجّه إلى الله، وأن لا يكون لباسا خاصّا يخلق فيه حالة العجب والغرور.

وبعبارة أخرى إنّ الغاية الأساسيّة من البدن والعورة، هي الستر الظاهري لهذه الأعضاء والجوارح، وهذا العمل بمثابة مقدّمة للتوجّة إلى ستر سائر العيوب والقبائح، وبهذا العمل يدرك الإنسان عيوب ونواقص وتلوّثات كثيرة في نفسه وروحه يجب عليه سترها بطرق خاصّة.

ينبغي على الإنسان أن يعلم من خلال شرط الستر هذا أنّه يحتاج إلى ساتر واقعي، ويحتاج إلى توفير الساتر على أعماله الذميمة وأخلاقه القبيحة، يقول القرآن الكريم: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ...»[1].

نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا لباس التقوى الجميل.


1. سورة الأعراف، الآية 26.


57ـ الصورة الإنسانيّة، ستر لحقيقة الأعمال الحيوانيّة للبشر


بسم الله الرحمن الرحيم

تحدّثنا عن أسرار ستر العورة في الصّلاة، هذا الستر الظاهري الذي يجب على الإنسان أن يغطي قسما من بدنه في حالة الصّلاة، يتحرّك الإنسان لافهام نفسه بأنّها تحتاج إلى ستر وغطاء، فلا ينبغي للإنسان أن يتصوّر بأنّ جسمه فقط يحتاج إلى ساتر، بل يجب عليه ستر القبائح الباطنيّة ويفكر في إيجاد مثل هذا الساتر على أخلاقه وسلوكياته أيضا.

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه: إنّ الله‌ تبارك وتعالى ستار جميع عورات وقبائح الخلق، بمعنى أنّ أحد الأمور التي يجب من أجله أن نشكر الله، وهو أن الله‌ جعل للبشر لباسا (وهو اللباس الظاهري) يستطيع الإنسان بواسطته أن يستر بدنه، وقد منح الباري تعالى هذا الامتياز للبشر وليس لسائر الحيوانات والموجودات الأخرى مثل هذا الامتياز فهو كرامة من الله‌ تعالى للبشر حيث يستطيع الإنسان ستر بدنه وعوراته بالملابس المتنوعة في الثقافات المختلفة، ولكن ثمّة أمر آخر ينبغي الالتفات إليه وهو أنّ الله‌ تعالى جعل من هذه الصورة

الإنسانيّة ساترا لحقيقة أعمال البشر القبيحة، وبواسطة هذه الصورة الظاهريّة يتمّ ستر تلك الحقيقة الباطنيّة، وهذه نقطة مهمّة جدّا.

فلو أنّ الله‌ تعالى كشف الغطاء وأزاح هذه الصورة الإنسانيّة، ولو أنّ إرادة الحقّ تبارك وتعالى قررت أنّ كلّ شخص يعمل عملاً معينا فإنّ حقيقته وصورته الواقعيّة تنكشف وبدون أي ساتر لها، فإنّ الجميع سيواجهون الفضيحة ويتورطون في المذلة «إلاّ قليل»، ونعتقد أيضا وبحسب ما ورد في الآيات والروايات، أنّ الناس يوم القيامة يحشرون بتلك الصورة الواقعيّة لأعمالهم، فقد ورد في بعض الروايات أنّ بعض الناس يحشرون يوم القيامة بصور قبيحة وكريهة إلى درجة أنّ صورة القردة والخنازير تكون جميلة بالنسبة لهؤلاء، فهذا دليل على أنّنا نعيش في هذا العالم الدنيوي تحت مظلّة ستارية الباري تعالى، فالله‌ تبارك وتعالى لا يسمح بأن تنكشف الصورة الحقيقية لأعمال للآخرين، وإلاّ فلو انكشف باطن الأعمال فسوف تنكشف الصورة القبيحة والمتعفنة لكل عمل ذميم، ومن هذه الجهة فإنّ هذه الصورة الظاهريّة للإنسان تعتبر ساتر وغطاءً على تلك الصورة القبيحة لأعماله وصفاته الذميمة.

وقد ورد في الروايات أنّ الشخص الذي يعيش في هذا العالم في حالة التكبّر يأتي يوم القيامة صغيرا وحقيرا ويحشر كنملة صغيرة تسحقه الخلائق إلى أن يفرغ الله‌ من حساب جميع الناس، وهكذا نرى أنّ ظهور حقيقة المتكبّر في ذلك العالم بهذه الصورة، يقول الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه[1]: إنّ السالك سبيل الآخرة والمجاهد في سبيل الله‌ يجب أن يستر عوراته الباطنيّة بالتمسّك بمقام الغفاريّة والستاريّة للحق تعالى، لأنّه هو الذي ستر الصورة الحقيقة لأعمالنا في هذه الدنيا، فيجب على الإنسان أن يستأنس بذكر «ياغفّار وياستّار»، فإنّ الله


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 50.

تعالى يستعمل ستاريّته دوما في تعامله مع عباده، وينبغي الالتفات إلى أنّ الساتر والستّار الحقيقي هو الله‌ تعالى، ومن هنا يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أننا عندما نحتاج إلى ستر عيوبنا الظاهريّة والباطنيّة فبطريق أولى لا ينبغي لنا افشاء عيوب الآخرين، لأنّ هذه المسألة في غاية الخطورة بأن نلفت نظر الناس إلى عيوب شخص آخر بدون استخدام صفة الستّاريّة عليه، بل نكشف عيوبه ونقوم بفضحه أمام الملأ، وسوف نبيّن الآثار والافرازات الوخيمة جدّا على هذا العمل الشائن كما ورد في الروايات الشريفة.


58ـ ستر العيوب والعورات الباطنيّة


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة لأسباب ستر العورة هناك رواية مفصّلة ورد في كتاب «مصباح الشريعة» عن الإمام الصادق عليه‌السلام، ويذكرها الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه ويقول بعد نقله لهذه الرواية: إنّ التفكّر والتدبّر في هذا الكلام الجامع يفتح لأهل المعرفة وأصحاب القلوب أبوابا من الحِكم والمعارف.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «أَزيَنُ اللّباسِ للمُؤمِن لِباسُ التّقوى وأَنعَمُه الإِيمَان»، ولا يوجد لباس أفضل وأحسن من هذا اللباس، واللباس هو شيء الذي يحفظ الإنسان ويمنحه الوقار والعظمة ويدفع عنه بعض الأضرار والأذى، وأفضل لباس هو لباس التقوى الذي يورث الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، والإمام الصادق عليه‌السلام يشير في كلامه هذا إلى الآية القرآنيّة: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ...»[1].

ويتابع الإمام عليه‌السلام قوله: «وَأَمّا اللّباسُ الظَّاهِرُ فَنِعمَةٌ مِنَ الله‌ تَعالى تَستُرُ بِها عَوراتُ بَنِي آدمَ وَهِي كَرامِةٌ كَرمَ الله‌ بِها ذُرِّية آدمَ لَمْ يُكرِم بِها غيرَهُم، وَهِي


1. سورة الأعراف، الآية 26.

لِلمُؤمِنِينَ آلَةٌ لأَداءِ مَا افتَرضَ الله‌ عَلَيهِم، وَخَيرُ لِباسِكَ مَا لا يَشغُلكَ عَنِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ بلْ يُقرّبُكَ مِنْ ذِكرِهِ وشُكرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلا يَحمِلُكَ عَلَى العُجبِ وَالرِّياءِ وَالتَّزيِّنِ وَالتَّفَاخُرِ وَالخُيلاء».

ثمّ قال عليه‌السلام: «فَإِنّها مِن آفَاتِ الدِّينِ وَمُورِثَةٌ القَسوةَ فِي القُلُبِ، فَإِذَا لَبِستَ ثَوبَكَ فَاذكُر سَترَ الله‌ عَلَيكَ ذُنُوبَكَ بِرَحمَتِهِ، وَأَلبِس بَاطِنَكَ كَمَا أَلبَستَ ظَاهِرَكَ بِثَوبِكَ»، وعلى هذا الأساس، كما تغطي وتستر ظاهر بدنك بقطعة من القماش فعليك بستر نفسك بالصدق والأمان: «وَليَكُنْ بَاطِنُكَ فِي سِترِ الرَّهبة وَظَاهِرُكَ فِي سِترِ الطَّاعَةِ»، أي يجب عليك ستر باطنك بلباس الخوف من عذاب الله، وتستر ظاهرك بلباس الطاعة لله‌ تبارك وتعالى، وهذا يعني أنّ الطاعة لله‌ تعالى من شأنها أن تستر ظاهرك وشخصيّتك أمام الناس، وأمّا ستر باطنك وحالاتك النفسانيّة فينبغي سترها بلباس الخوف والرهبة.

«وَاعتَبِر بِفَضلِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ حَيثُ خَلقَ أَسبَابَ اللّباسِ لِيَستُرَ العَوراتِ الظَّاهِرَة، وَفَتَحَ أَبوابَ التَّوبَةِ والإِنابِةِ لِيَستُرَ بَِها العَورات البَاطِنَة»، ولكن ما المراد من العورات الباطنة؟

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «مِنَ الذُّنُوبِ وَأَخلاقِ السُّوءِ، وَلا تَفضَح أَحَدَا حِيثُ سَتَرَ الله‌ عَلَيكَ مَا هُو أَعظَمُ مِنْهُ»، أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء الذين يقرأون هذه السطور بدقّة أنتم تلاحظون أنّ الإنسان كيف يهتمّ بستر عورته أمام الناس وحفظ حيثيّته وسمعته أمام المخلوقين، وسبق أن قلنا بأن حقيقة العبادة هي أن يكون الإنسان غافلاً عن مخلوقين ولا يهتمّ إلاّ بما أمر الله‌ به، ومعلوم أنّ الله‌ تبارك وتعالى لا يريد أن أن تنكشف عيوب عباده، ولو أنّ شخصا اطّلع على عيوب شخص آخر، يقول الإمام عليه‌السلام: «وَلا تَفضَح أَحَدَا حِيثُ سَتَرَ الله‌ عَلَيكَ مَا هُو أَعظَمُ مِنْهُ».

«وَاشتَغلِ بِعَيبِ نَفسِكَ»، بأن تهتمّ باصلاح هذا العيب وجبران هذا الخلال.

«وَاَصفَح عَمّا يَعِينَكَ حَالَهُ وَأَمُرهُ»، أي لا تلتفت إلى نقاط ضعف الآخرين وما لا يرتبط بك حاله، فوجود عيوب لدى الآخرين لا يرتبط بشأنك وبحياتك.

«وَاحذْرِ أَنْ يَفنَى عُمْرُكَ بِعَمَلِ غيرِكَ»، فما أشقى الإنسان وما أقبحه عندما يصرف عمره السليم في تجسّس عيوب الآخرين، وهذا العمل المذموم وردت في نصوص كثيرة في ذمّه وتقبيحه، وللأسف فإنّ مجتمعنا الراهن متورط في مثل هذه السلوكيات اللاخلاقّية، وعندما نتساءل: لماذا لا تؤثر صلاتنا في تعديل أخلاقنا؟ بسبب أنّ الواجب في الصّلاة ستر العورة الظاهريّة وما يترتّب على من ذلك ستر عيوب الآخرين أيضا، ولا نسمح بافشاء عيوبهم وفضحهم، ولكن للأسف نرى الكثير من الأشخاص لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة فهنا يقول الإمام عليه‌السلام: لا ينبغي أن تتلف عمرك وإمكاناتك من أجل عمل غيرك، فلو كان لدى الآخر عيب وخطأ وسلوك مذموم فلماذا تنشغل أنت باحصاء عيوبه وتستعمل لسانك وفكرك ووقتك في مثل هذه الأمور؟

يجب علينا أن نعلم أنّ الشخص إذا كان في صدد فضح عيوب الآخرين فإنّه يتلف عمره من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كشف عيوب الآخرين على الملأ يتسبّب في أنّ الله‌ تعالى سيكتب أعمالك الصالحة في سجل عمله وبالتالي فإنّ ذلك الشخص سيتاجر بأعمالك الصالحة ويربح منك ما تعبت في كسبه وتحصيله وفي ذات الوقت تكون قد خسرت عملك وأهلكت نفسك.

ثمّ يقول عليه‌السلام: «فَإِنَّ نِسيَانَ الذُّنُوبِ مِنْ أَعظَمِ عُقُوبَةِ الله‌ فِي العَاجِلِ وَأَوفَرِ أَسبَابِ الُعُقُوبَةِ فِي الآجُلِ»، لأنّ الإنسان إذا نسي ذنوبه في هذه الحياة فسوف لا يتوفّق للتوبة منها واصلاح الخلل في عمله ونفسه.

«وَمَادَامَ العبْدُ مُشتَغُلاً بِطاعَةِ الله‌ تَعالى وَمَعرِفَةِ عُيُوبِ نَفسهِ وَتَرَكَ مَا يَشِينُ فِي دِينِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بِمَعزِلٍ عَنِ الآفَاتِ»، يعني إذا أراد الإنسان الابتعاد عن الآفات واجتناب الرذائل والعيوب فالطريق إلى ذلك أن يشغل نفسه بطاعة الله‌ عزّ

وجلّ ويهتمّ بمعرفة عيوب نفسه وإصلاحها وترك كلّما يوجب الانحراف عن خطّ الإيمان والصلاح والدين.

«غَائِصٌ فِي بَحرِ رَحمَةِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ يَفُوزُ بِجَواهِرِ الفَوائِدِ مَنَ الحِكمَةِ وَالبَيانِ»، فمثل هؤلاء الأشخاص، مضافا إلى بعدهم عن الآفات وقربهم من بحر رحمة الله‌ وبركاته، فإنّه يوما بعد آخر يحصلون على جواهر الحكمة والبيان، وهذا يعني أنّ الإنسان إذا اشتغل بعيوب نفسه فلا يلتفت بعدها إلى عيوب الآخرين، وإذا سلك في خطّ الطاعة والعبوديّة لله‌ تعالى، فإنّ الله‌ سيمنحه جواهر الحكمة ونفائس المعرفة ودرر البيان.

«وَمَادَامَ نَاسِيا لِذُنُوبِهِ جَاهِلاً لِعُيوبِهِ راجِعا إِلى حَولِهِ وَقُوَّتِهِ لا يُفلِحُ إِذا أَبَدا»[1]، وهكذ يبقى هذا الشخص الناسي لذنوبه غارقا في عيوبه ومتوكّلاً في إصلاح حاله ومعيشته على نفسه وحوله وقوّته بعيدا عن حول الله‌ وقوّته، فتقوده هذه الحالة إلى وادي الضلالة والهلكة.

وهكذا ترون أنّ معرفة أسرار ستر العورة سيفتح أبوابا للمعرفة على الإنسان، يعني أنّ ستر العورة الظاهري يقود الإنسان إلى أبواب جواهر الحكمة والبيان، فلو أنّ الإنسان اهتمّ برعاية هذه الأمور في واقع حياته سيحصل على نتائج كثيرة وثمرات مهمّة في واقع وحياته.

ونستنتج من مجموع ما تقدّم من مسائل وبحوث نقطتين مهمّتين فيما يتّصل بلزوم ستر العورة في الصّلاة.

1. إن ستر العورة الظاهري يتسبّب في التفات الإنسان إلى لزوم ستر عيوبه الباطنيّة.

2. إنّ ستر عورة الإنسان في الصّلاة يؤدّي إلى أن يعلم الإنسان وجوب ستر عيوب الآخرين.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا إلى تحصيل حقيقة هذه الأعمال.


1. مصباح الشريعة، ص 32 ـ 33.


الباب الثالث: أسرار وقت الصّلاة



59ـ سرّ تعيين الوقت للصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

أحد الأمور الأخرى في بحث أسرار الصّلاة التي يجب الالتفات إليها، مسألة وقت الصّلاة، ونعلم جميعا وجوب أوقات معيّنة للصلوات الواجبة مذكورة في فقهنا وكتب الفتاوى للمراجع الكبار، فصلاة الصّبح لها وقت، وكذلك صلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، ومضافا إلى الصلوات الواجبة فثمّة أوقات معينة ومقررة للنوافل اليوميّة أيضا، والنتيجة أنّ الصّلاة إنّما تقع صحيحة ومؤثّرة فيما روعيت هذه الأوقات بشكل كامل ويكون المصلّي حافظا لمواقيتها، وهنا قد يثار هذا السؤال: ألا يمكن أن يجعل الله‌ تبارك وتعالى تعليم وقت الصّلاة بعهدة الناس ولا يعيّن هو وقتا خاصّا لكلّ صلاة؟ يعني في أي وقت رغب الإنسان في العبادة والصّلاة ووجد في نفسه الاستعداد والشوق لها فيصلّي ولا حاجة لتعيين الوقت؟ وأساسا ما هي الحكمة في هذا الأمر بأن يعيّن الله‌ تبارك وتعالى وقتا لكلّ صلاة، بحيث إنّ الإنسان إذا صلّى صلاته قبل ذلك الوقت فلا تقبل منه ولا يكون قد أدّى تكليفه الشرعي؟ أي أنّ هذه الصّلاة قبل الوقت ليست مسقطة

للتكليف، وبالتالي فإنّ هذه الصّلاة لا يترتّب عليها أثر من آثار الصّلاة.

الجواب عن هذا السؤال واضح، لأنّ مسألة الوقت في باب الصّلاة تشير إلى وجود عناية خاصّة من أجلها عيّن الله‌ تعالى هذه الأوقات على المصلّين رغم أنّ الإنسان يستطيع في جميع الأوقات أن يعبد الله‌ تعالى، ولكن هذه الأوقات الخاصّة هي ظرف زماني جعله الله‌ تبارك وتعالى للصّلاة والعبادة بسبب وجود عنايات خاصّة واهتمام أكثر من المصلّين بهذه الصّلاة، ومن هذه الجهة فهي عبارة عن دعوة خاصّة، ومن جهة أخرى فالإنسان إذا علم أنّ الله‌ تعالى عيّن له وقتا خاصّا للصّلاة والمناجاة معه فإنّه قبل حلول ذلك الوقت يتحرّك على صعيد تهيئة نفسه لهذا اللقاء وينبعث فيه الشوق للمناجاة والحديث مع الله‌ تبارك وتعالى، ومثل هذا الشوق وفي غير هذه الفرضية لا معنى له ولا يمكن تصوّره.

وقد ذكر أكابرنا هذه المسألة في قالب مثال في كتبهم ومدوّناتهم، وذلك أنّه إذا قام رئيس بلد معين أو سلطان أو شخصيّة كبيرة بدعوة شخص من الأشخاص وفي وقت معين للقائه ومجالسته، وأراد أن يهتمّ ذلك الشخص بهذا اللقاء اهتماما خاصّا ويقول له إنني في هذا الوقت أسمع كلامك واستجيب لطلباتك، ففي هذه الصورة من الطبيعي أن يجد الإنسان في نفسه استعدادا وشوقا لهذا اللقاء ويحسب اللحظات إلى أن يحين موعد الحضور واللقاء.

وهكذا نرى أنّ الله‌ تبارك وتعالى تعامل مع الإنسان بهذه الصورة وقال له: إذا قمت من فراشك في أوّل طلوع الفجر وأقمت صلاة الصّبح فإنني في هذا الوقت سأتوجّه إليك بعناية خاصّة وأستجيب لك دعاءك واُحقق تطلباتك أكثر، وهذا الوعد لا سبيل إلى نقضه أو التخلّف عنه، وعلى هذا الأساس فإنّ أوقات الصّلاة تملك مثل هذه الخصوصيّة وأنّها عبارة عن ضيافة إلهيّة خاصّة لهذا الإنسان المصلّي.

يقول المرحوم الشهيد الثاني رضوان الله‌ عليه في كتابه حول أسرار الصّلاة: «وأمّا الوقت فاستحضر عند دخوله أنّه ميقاتٌ جعله الله‌ تعالى لك لتقوم به بخدمته وتتأهل للمثول في حضرته والفوز بطاعته»[1].

وسبق أن ذكرنا أننا نعيش دوما وفي جميع الحالات في محضر الباري تبارك وتعالى سواءً في حالة اليقظة أو المنام، أو المحادثة و...، ولكن عندما يحين وقت الصّلاة فكأنّ الله‌ ينتظر من عبده المؤمن أن يسمع صوته ويحدّثه، وينتظر مناجاته والانفتاح عليه فيما يختلج في قلبه ومكنونه، فلو أنّ الإنسان التفت إلى هذه المفاهيم فسوف يتجلّى هذا المعنى أكثر في ذهنه، وسيقف للصّلاة بين يدي الله‌ بحضور قلبه أكثر.

عندما يحين وقت الصّلاة يجب على المصلّي أن يستشعر الوجد والسرور والشوق يملأ جميع وجوده، فهل إننا نشعر بمثل هذه الحالة في صلاتنا؟ وعندما نسمع صوت المؤذن للصّلاة هل نشعر في قلوبنا بالانبساط والسرور والبهجة أم لا؟ فمن علائم الإنسان المؤمن أنّه عندما يحين وقت الصّلاة فإنّ حالة السرور والبهجه تملأ كيانه وقلبه، ويشعر أنّه قد آن وقت ملاقاته ومناجاته مع خالقه وربّه، ومن هذه الجهة ورد في سيرة أشرف المخلوقات النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله:

«كَانَ النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يَنتَطِر وَقتَ الصَّلاةِ وَيَشتَدُّ شَوقُهُ وَيَتَرَقَّبُ دِخُولَهُ وَيَقُولُ لِبلال مُؤذنَهُ أَرِحنَا يا بِلالُ»[2]، أي أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ينتظر وقت الصّلاة بشغفٍ ليتواصل مع الله‌ ويناجي ربّه، وهذه الحالة يجب أن تتوفّر في اُمّة النّبي أيضا، فيجب علينا أن ننتظر وقت الصّلاة بشوق ولهفة، إنّ وقت الصّلاة يجب أن يكون بالنسبة لنا مثل الضالّة للشخص، فنسأل دائما من هذا وذاك: متى يحين وقت الصّلاة؟ ومعلوم أنّ انتظار وقت الصّلاة يترتّب عليه آثار عظيمة جدّا في حياة المؤمن.


1. التنبيهات العليّة، ص 102.

2. نفس المصدر السابق.


60ـ حالة المصلّي عند حلول وقت الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا لحدّ الآن مسألة التوجّه إلى وقت الصّلاة وأن المصلّي يجب أن يكون مستعدا للدخول إلى الصّلاة وتجسيد حقيقة الصّلاة في نفسه.

وتقدّم في عبارة الشهيد الثاني رضوان الله‌ عليه في كتابه «التنبيهات العليّة»[1]، أنّه قال: «وأمّا الوقت فاستحضر عند دخوله أنّه ميقاتٌ جعله الله‌ تعالى لك لتقوم به بخدمته...»، ويتابع الشهيد الثاني كلامه ويقول:

«ثمّ استشعر بعد هذه البهجة خشية الله‌ تعالى في الوقوف بين يديه»؛ أي أنّك بعد شعورك بالبهجة والسرور من دخول وقت الصّلاة والمناجاة مع الله‌ فيجب أن تلتفت إلى هذا الأمر، وهو أنّك مثل هذا الموجود الحقير ومع كلّ ما تحمله من ظلمات نفسانيّة ستقف أمام أعظم موجود وأعظم قوّة في عالم الوجود، ويقول: «فإنّ استشعار الخوف شعار الكاملين»؛ فإحدى علائم الإنسان الكامل والذي وصل إلى مراتب عالية في سُلّم الكامل المعنوي وجود حالة الخوف والخشية


1. التنبهات العليّة، ص 104.

من الله‌ في قلبه، كما أنّ من علائم المطرودين من رحمة الله‌ هي الغفلة، وبذلك لا يشعرون في وجودهم وأذهانهم بأي حالة من الخشية والخوف من الله، لو أنّ الإنسان لم يجد في نفسه أثرا من الخشية والخوف من الله‌ فليعلم أنّه من المطرودين من رحمة الله، ولكن إذا أحسّ عند حلول وقت الصّلاة بالخشية من الله‌ في قلبه في ذات الوقت الذي يشعر فيه بالسرور والبهجة فليعلم أنّه أصبح من زمرة الأشخاص الكاملين، ويقول رحمه الله: يجب أن تحكّم عظمة الله‌ في نفسك وتلتفت إلى نقصك وضعفك في مقابل عظمة الله‌ وقدرته.

ونقرأ في سيرة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عن بعض زوجاته أنّه كان إذا حان وقت الصّلاة تقول: «كَانَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يُحدِّثُنا وَنُحَدِّثُهُ فَإِذا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعرِفَنا وَلَمْ نَعرِفهُ شُغلاً بِالله‌ عَنْ كُلِّ شَيٍّ»[1]. بمعنى أنّ ملامح النّبي وحاله تتبدّل عندما يحلّ وقت الصّلاة، فهذا النّبي الذي كنّا نعرفه قبل الصّلاة أصبح شخص آخر لشدّة شغفه بالحضور بين يدي ربّه، فلماذا لا نملك نحن اهتماما كافيا لوقت الصّلاة وعندما نسمع صود المؤذن يرتفع عاليا نستمر بعملنا وشغلنا؟

ألا يدلّ هذا على عدم اهتمامنا بالحضور بين يدي الله‌ تعالى وعدم اهتمامنا بأوامره؟ فكيف نتوقع مع ذلك أن يستجيب الله‌ دعانا؟

نحن لا نراعي حقّه ونعيش دائما حالة عدم الاهتمام بأوامره، ألم يكن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يهتمّ بدقّة لجميع أموره، وعندما يتحدّث مع أقرب المقرّبين إليه ويحلّ وقت الصّلاة فإنّه يقطع هذه المكالمة ويتوجّه للصّلاة، فلماذا لا نتّبعه على ذلك؟ لماذا عندما يحلّ وقت الصّلاة لا نترك علمنا وكسبنا ودرسنا وبحثنا وجلساتنا؟ هل هناك أهمّ من المناجاة مع الله‌ والحديث معه؟

لا ينبغي القول إنّ الوقت الصّلاة واسع وأنّ الله‌ تعالى أباح لنا الصّلاة في أي فترة من هذا الوقت المعدّ للصّلاة، ولكن أساس الصّلاة هو أوّل الوقت، فالصورة


1. عوالي اللئالي، ج 1، ص 324.

الحقيقية والكاملة للصّلاة تتحقّق في الصّلاة في أوّل الوقت، وحتّى لو كنت في ذلك الوقت في السيارة وفي حال السفر فعندما يحين وقت الصّلاة يجب علينا التوقّف للصلاة في وقتها ولا ندع فضيلة الصّلاة في أوّل الوقت تفلت من أيدينا.

ينقل صاحب كتاب «عوالي اللئالي» روايتين في هذا المجال: «إِنَّ عَليِّا عليه‌السلام إِذا حَضَرَ وَقتُ الصَّلاةِ يَتَمَلمَلُ وَيَتَزلْزَلُ وَيَتَلَونَ»، أي لا يهدأ له حال ويتلوّن لون وجهه ويعيش حالة الانتظار في جميع وجوده.

«فَيُقالُ لَهُ ما لَكَ يا أَمِيرَالمُؤمِنِينَ! فَيقُولُ جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ وَقتُ أَمَانَةٍ عَرَضها الله‌ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها»[1]، وهذه نعمة وموهبة منحها الله‌ تعالى لعباده، والسعيد من يتقبل هذه النعمة وهذه الموهبة بأفضل ما يمكن وينتفع بها غاية النفع، يجب علينا الاهتمام الجاد بوقت الصّلاة وأن نصلّي الصّلاة في أوّل وقتها ولا ندع فضيلة أوّل الوقت تذهب من أيدينا.

وجاء في رواية عن حالات الإمام زين العابدين عليه‌السلام: «كَانَ عَلَيُّ بنُ الحُسَينِ عليهماالسلامإِذا حَضَرَ لِلوُضُوءِ اصفَرَّ لَونُهُ فَيُقالُ لَهُ مَا هَذا الَّذِي يَعتَوِرُكَ عِندَ الوُضُوءِ؟ فَيَقُولُ: مَا تَدرُون بَينَ يَدَي مَنْ أَقُومُ»[2]، ينبغي بنا أن نهتمّ أكثر في حياتنا بوقت الصّلاة، ونخلق في أنفسنا وفي اُسرتنا وفي مجتمعنا بحيث ينتظر الجميع وقت الصّلاة وقبل أن يحين وقت الصّلاة يسأل أحدهم من الآخر: متى يحين وقت الصّلاة، ومتى يحين وصال الحقّ؟ ونفس هذا السؤال وهذا العمل له ثواب كثير كما ورد في الروايات، فقد ورد في بعض الروايات، أنّ أحد العبادات أن يجلس المرء في المسجد وينتظر وقت الصّلاة، قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «الجُلُوسُ فِي المَسجِدِ انتِظارا للصّلاةِ عِبَادَة»[3].

نسأل الله‌ تعالى أن يجعلنا جميعا من الحافظين لأوقات الصّلاة إن شاء الله.


1. علوالي اللئالي، ج 1، ص 324.

2. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 77، ص 347.

3. بحار الأنوار، ج 80، ص 380.


61ـ الأيّام لها حقيقة مستقلّة


بسم الله الرحمن الرحيم

الأمر المهمّ الذي يجب الالتفات إليه وبخاصّة في الصّلاة أنّ الزمان له دور مهمّ وأساسي في أعمال الإنسان، بحيث إذا وقع العمل في غير وقته وزمانه فربّما لا يؤثّر الأثر المتوقّع منه، وأعلى من ذلك أنّ الزمان نفسه، أعمّ من اليوم والليلة، ومع غضّ النظر عن الأعمال التي يقوم بها الإنسان في وقت معيّن، له حقيقة وللأسف نحن غافلون عنها، إنّ عقولنا الضعيفة والناقصة لا تلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ لكلّ زمان حقيقة معيّنة، فالنهار له حقيقة، واللّيل له حقيقة أخرى، ويوم الجمعة له حقيقة والأيّام الأخرى لكلّ منها حقيقة أخرى، ومع مطالعة روايات الأئمّة المعصومين صلوات الله‌ عليهم أجمعين يتبيّن هذا الأمر بوضوح كامل.

فقد ورد في كتاب «بحار الأنوار»[1] رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ قال: «إِذا كَانَ يَومَ القِيامَةِ بَعَثَ الله‌ الأَيّامَ فِي صُورٍ يَعرِفُها الخَلقُ أَنّها الأَيّام»، فهناك صورة


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 86، ص 353.

ليوم السبت وأخرى ليوم الأحد.. وهكذا...

«ثَمَّ يَبعَثُ الله‌ الُجمعَةَ أَمَامَها يقْدَمُها كَالعَرُوسِ ذَاتَ جَمالٍ وَكَمالٍ تُهدى إِلى ذِي دِينٍ وَمَالٍ، قَالَ: فَتَقِفُ عَلَى بَابِ الجِنَّةِ وَالأَيّامُ خَلفَها يَشهَدُ»، أي تبدأ الأيام بالشهادة والشفاعة وتقول لله‌ تعالى أنّ هذا الإنسان في الدنيا كان مهتمّا بي وكان يقيم الصّلاة والذكر والمناجاة في يوم الجمعة.

«وَيَشفَعُ لِكُلِّ مَنْ أَكثَرَ الصَّلاةَ فِيهِ عَلَى مِحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ».

يقول الراوي فسألت الإمام عليه‌السلام: «وَكَمْ الكَثِيرُ مِنْ هَذا وَفِي أَيِّ أَوقَاتٍ أَفضَلُ». والسؤال عن الإكثار من الصّلاة على محمّد وآل محمّد وفي أي وقت أفضل من يوم الجمعة

قال الإمام عليه‌السلام: «مَائَةِ وَلَيكُنْ ذَلِكَ بَعْدِ صَلاةِ العَصرِ: اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مَحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَجِلْ فَرَجَهُم».

ولدينا روايات أخرى تبيّن هذه النقطة المهمّة، وهي أنّ الأيّام والليالي تشهد لصاحبها، وهكذا الأمكنة وجميع أجزاء عالم الوجود يشهد للإنسان وسوف نبيّن ذلك إن شاء الله‌ في بحث المكان، وهو المكان الذي يصلّي فيه المؤمن، حيث يشهد يوم القيامة لهذا المصلّي، وكذلك الزمان يشهد أيضا لصاحبه، وجاء في رواية الأمالي للصدوق رحمه‌الله في المجلس الثالث والثلاثون في رواية عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال: «مَا مِنْ يَومٍ يَمْرُّ عَلَى ابنِ آدَمَ إِلاّ قَالَ لَهُ ذَلِكَ اليَومُ يا ابنَ آدَمَ أَنَا يَومٌ جَدِيدٌ وَأَنا عَلَيكَ شَهِيدٌ فَقُلْ فِيَّ خَيرا واعمَلْ فِيَّ خَيرا»، فلا ينبغي إهمال الوقت وتركه يمرّ دون أن نقوم بعمل صالح أو نتكلّم بكلام طيب حتّى يأتي يوم القيامة ويشهد لنا، وبحسب هذه الرواية أنّ الأيّام لها حقيقة وتأتي يوم القيامة وتشهد على أعمال الإنسان، فالشخص الذي ينتظر وقت الصّلاة ليقيمها في أوّله، فإنّ أولّ الوقت يأتي يوم القيامة ويشهد لصاحبه بأنّه صلّى في أوّل الوقت وما

يترتّب عليه من آثار كثيرة وبركات جليلة، وعلى هذا الأساس يجب علينا الالتفات إلى أنّ للزمان أثرا خاصّا في حقيقة الصّلاة والعبادة، ومن هذه الجهة إذا أراد المصلّي أن يحصل على جميع الآثار وبركات الصّلاة وخصوصا نيل الحقيقة الكاملة للصّلاة فينبغي عليه أداء الصّلاة في أوّل وقتها كيما تترتّب عليها جميع البركات والثمرات.

«أَوَّلُ الوَقتِ رِضوانُ الله‌ وَآخِرَهِ غُفْرَانُهُ»، بمعنى أنّ الشخص الذي يؤخّر صلاته إلى آخر الوقت فإنّ صلاته هذه ستفقد صورتها الحقيقة والنورانيّة التي تستوجب رضا الله‌ تعالى ولا ترتفع به في مراتب أعلى في سلّم الكمال المعنوي، بل إنّ هذه الصّلاة المتأخّرة قد تكون سببا في عفو الله‌ وغفرانه عن هذا المصلّي، ولكن ما يوجب رضوان الله‌ هي تلك الحقائق والأسرار الكامنة في الصّلاة والتي لا تدرك إلاّ الصّلاة في أوّل وقتها.

هيا بنا أن نتعاهد مع الله‌ تعالى أن نصلّي صلاتنا في أوّل وقتها، وعندما نصل إلى نهاية عمرنا ننظر إلى ما تقدّم من هذا العمر ونرى أننا قد صلّينا جميع صلواتنا في أوّل الوقت ولم نضيّع الصّلاة، والويل لذلك الإنسان الغافل الذي يقول: لقد بقيت نائما حتّى طلعت الشّمس وفاتتني الصّلاة، فمثل هذا الشخص حتّى لو أتى بصلاته قضاءً ولكنّه لا يعلم البلاء الذي حلّ به بسبب فوت الصّلاة والنعمة العظيمة والمرتبة العالية التي فقدها، هو لا يعلم أنّه قد أصبح محروما من الأنوار الإلهيّة والفيوضات الربانيّة في ذلك الوقت، فلو استيقظنا يوما ورأينا ـ لا سمح الله‌ ـ أنّ الشّمس تكاد تشرق وقد فاتتنا صلاة الفجر في أوّل وقتها، فيجب علينا أن نبكي على حالنا ونسكب الدموع ونقول لأنفسنا: ما أعظم البلاء الذي حلّ بنا، وما هذا العمل الذميم الذي صدر منها فحرمنا من التوفيق الإلهي الجليل، علينا جميعا أن نتواصل فيما بيننا بأن نصلّي صلاتنا في أوّل وقتها ولا ندع فضيلة أوّل الوقت تفلت من أيدينا إن شاء الله‌ تعالى.


62ـ نداء الأذان تذكير بالقيامة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ إحدى علامات المؤمن أنّه يفرح ويشعر بالسرور عندما يحين وقت الصّلاة، ويتحدّث الشهيد الثاني رضوان الله‌ عليه في عبارة جميلة للتعبير عن هذة الحالة الجديرة بالالتفات، يقول: «إِذا سَمِعتَ نِداء المُؤذن فَأحضِر فِي قَلبِكَ هَولَ النِّداء يَوم القِيامَة، وَتَشَمَّر بِظَاهِرِكَ وَباطِنِكَ للمُسارَعةِ وَالإجابَةِ، فَإنَّ المُسارِعِينَ إِلى هَذا النِّداءَ هُمْ الَّذينَ يُنادَونَ بِاللُّطفِ يَومَ العَرضِ الأَكبَرِ، فَأَعرِض قَلبَكَ عَلَى هَذا النِّداءِ فَإِن وَجَدتَهُ مَملُوّا بِالفَرحِ وَالأستِبشَارِ وَمُستَعِدّا بِالرَّغبَةِ إِلى الإِبتِدارِ فَأعلَم أَنَّهُ يَأتِيكَ النِّداُ، بِالبُشرى والفَوزِ يَومَ القَضاءِ»[1].

وطبقا لهذا الكلام فإنّ انتظار ومراقبة أوقات الصّلاة واستقبال هذا الوقت برحابة صدر وبفرح وشوق يتسبّب في نجاة الإنسان من أهوال يوم المحشر وحالات الاضطراب والوحشة يوم القيامة.

وطبعا، ثمّة نقاط أخرى لكلّ واحد من أوقات الصّلاة مذكورة في الروايات


1. التنبيهات العليّة، ص 104.

الشريفة، مثلاً بالنسبة لصلاة الظّهر، تقول الرواية: عندما عرج بالنبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى السماء وصلاة التي صلاها هناك كانت الصّلاة الظّهر.. وهنا يوجد بحث مهمّ في أنّ معراج النّبي وقع بالليل كيف يصلّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهصلاة الظّهر في معراجه؟ وهل يوجد في ذلك العالم صباح ومساء، ونهار وليل؟ وهنا نقاط أخرى يبحثها أهل الفن في محلّها، فصلاة الظّهر هذه هي الصّلاة التي صلاّها النّبي في معراجه، ووقت صلاة العصر عندما ارتكب آدم أبو البشر الخطأ وترك الأولى واقترب من شجرة الطبيعة، ووقت صلاة المغرب هو الوقت الذي تاب فيه آدم وصلّى فيها ثلاث ركعات، الركعة الاُولى لرفع خطئه، والركعة الثّانية من جهة خطأ حواء، والركعة الثّالثة بعنوان التوبة، ووقت صلاة العشاء هو تذكير بضمة القبر ويوم القيامة، فصلاة العشاء هي النور الذي يزيح ظلمات القبر وظلمة المحشر في يوم القيامة. على أساس هذه النقاط الواردة في بعض كتبنا الروائيّة، نفهم أنّ أوقات الصّلاة ليست مجرّد أمر اعتباري محض، بل لكلّ وقت من صلاة الصّبح، الظّهر، العصر، المغرب والعشاء مناسبات واقعيّة وحقيقيّة تماما، فلو أنّ الإنسان صلّى صلاته بهذه الأوقات فحينئذٍ سينال مرتبة الفوز العظيم، وبخاصّة في أوّل الوقت والذي ورد التأكيد عليه كثيرا في الروايات الشريفة.

فعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «إِنَّ فَضْلَ الوَقتِ الأِوّلِ عَلَى الآخِرِ كَفَضلِ الآخِرةِ عَلَى الدُّنيا»[1]، فهل الآخرة تقبل المقارنة مع الدنيا؟ ولو أنّ شخصا سمع هذه الرواية والتفت إلى أهميّة أوّل الوقت بالنسبة إلى آخره مثل نسبة الآخرة إلى الدنيا فهل يسمح لنفسه بعد ذلك أن يفقد ويتساهل بهذا الرأس مال العظيم في فضيلة الصّلاة في أوّل الوقت ولا يبالي بهذا الوقت ولا يهتمّ به؟

وقد ورد في الحديث الشريف عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «إِنَّ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 274.

يُحِبُ مِنْ الخَيرِ مَا يُعجِّلُ»[1]، «استَبِقُوا الخَيراتِ» و«وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...»[2].

ومن هذا المنطلق فالأصل في الصّلاة والصّلاة الكاملة هو الصّلاة في أوّل وقتها، وفي ذات الوقت فإنّ الله‌ تعالى قد وسع وقت أداء الصّلاة للشخص الذين لم يوفّق لإدراك فضيلة أوّل الوقت لبعض المشاغل الضروريّة، فمثل هذا الشخص يمكنه تأخير صلاته عن أوّل وقتها، ولكن في الحالات العادية إذا فاتت الصّلاة في أوّل الوقت فذلك يعني أنّ هذا الشخص قد خسر خسارة عظيمة جدّا.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا لنكون من الحافظين لوقت الصّلاة إن شاء الله.


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 274.

2. سورة آل عمران، الآية 133.


خلاصة من أسرار وقت الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

أ) إيجاد البهجة والسرور لملاقاة الله‌ ومناجاته.

ب) إيجاد الخشية من الله‌ تعالى في حال الوقوف بين يديه في الصّلاة، يعني أنّ المصلّي في ذات الوقت الذي يشعر فيه السرور والبهجة يجب أن يستشعر الخشية والرهبة، وهي شعار الكاملين.

ج) أن يشعر المصلّي بقيمة الزمان والوقت وأنّ الزمان سيشهد يوم القيامة كما في الأمكنة أيضا، فللأيّام والليالي حقيقة خاصّة لكلّ واحدة منها، ومن هذه الجهة فإنّ الصّلاة في أوّل الوقت لها حقيقة في عالم الملكوت لا يمكن للصّلاة في غير أوّل الوقت أن يكون لها غير هذه الحقيقة.

د) الأشخاص الذين يستجيبون في هذه الحياة الدنيا لنداء المؤذمن أسرع من الآخرين، فإنّهم يوم القيامه ينالون لطف الله‌ ورحمته أسرع من الآخرين، والأشخاص الذين يشعرون باللذة عند سماعهم صوت الأذان وحلول وقت الصّلاة فإنّهم يوم القيامة ستأتيهم البشرى بالصلاح والنجاح.

هـ) إنّ أوقات الصّلاة ليست مجرّد أمورا اعتباريّة محضة، بل إنّ كلّ وقت من

أوقات الصّلاة يحكي عن حقيقة واقعيّة، فصلاة الظّهر هي الصّلاة التي أقامها النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في معراجه، حينما كان يصلّي الله‌ تعالى على نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وكذلك حينا كانت تسبّح جميع الموجودات والكائنات لله‌ تعالى ووقت صلاة العصر عندما ارتكب النّبي آدم عليه‌السلام ترك الأولى في تناوله من الشجرة الممنوعة، وزمان صلاة المغرب هو وقت توبة آدم، وزمان صلاة العشاء التذكير بظلمة القبر وأهوال المحشر يوم القيامة.


63ـ تعيين أوقات الصّلاة في القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الله‌ تبارك وتعالى اهتمّ بشكل خاصّ في القرآن الكريم فيما يتّصل بأوقات الصّلاة، فالقرآن في ذات الوقت الذي ذكر فيه أصل وجوب الصّلاة وأحكامها والتأكيد الشديد على أصل إقامة الصّلاة، فإنّه أكّد بشكل خاصّ على أوقات الصّلاة، فنقرأ في الآية 238 من سورة البقرة الأمر بالمحافظة على الصلوات ولاسيما الصّلاة الوسطى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى...». وقد ذهب المفسّرون إلى أنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة الظّهر.

وقد أشار الباري تعالى في آيات أخرى إلى ثلاث أوقات للصّلاة وجعل وقت الصّلاة في هذه الأوقات، من قبيل الآية 114 من سورة هود: «وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفا مِنْ اللَّيْلِ...»، حيث ذهب المشهور من المفسّرين، أنّ «طرفي النّهار» يعني الصبح والمغرب، فهنا نرى أنّ الله‌ تعالى يأمر بإقامة الصّلاة في هذين الوقتين وهما طرفي النّهار، وأحدهما الصّبح والآخر المغرب، أمّا «زلفا من اللّيل» فقهو إشارة إلى صلاة العشاء، وفي بعض الآيات القرآنيّة نجد أنّ القرآن

ذكر جميع أوقات الصّلاة كما ورد في الآية 79 من سورة الأسراء: «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»، والمراد من دلوك الشّمس هو الوقت الذي تصل فيه الشّمس إلى دائرة نصف النّهار، يعني موقع زوال الشّمس وأذان الظّهر، وطبعا ذكروا للدلوك معانٍ مختلفة، مثل «دلك» مأخوذة من الدلك وهو الحك، وهو بالحك باليد، أمّا لماذا ورد التعبير عن زمان وصول الشّمس إلى دائرة نصف النّهار بدلولك الشّمس؟ فثمّة تفاسير مختلفة، فذهب البعض إلى أنّ الشّمس في هذا الوقت وهو وقت الظّهر تشرق بشدّة بحيث إنّ الإنسان يدلك عينه من شدّة وضوء الشّمس، وذهب البعض الآخر، أنّ الشّمس في هذا الوقت تعبر من دائرة نصف النّهار متّجهة نحو المغرب، وهنا تفاسير أخرى أيضا.

وقد تبيّن أنّ المراد من دلوك الشّمس وقت صلاة الظّهر، ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام في رواية: «دلوك الشّمس هو وقت زوال الشّمس».

أمّا المراد من غسق اللّيل فهو نصف اللّيل، وهو الوقت الذي يبلغ فيه اللّيل منتهى الظلمة وتكون فيه ظلمة اللّيل على أشدّها، في حين أنّ الله‌ تبارك تعالى جعل إقامة الصّلاة منذ زوال الشّمس إلى منتصف اللّيل، وفي هذا الوقت تكون فيه غاية الصّلاة، وفي هذا المقطع من الآية الشريفة إشارة إلى أربع صلوات: صلاة الظّهر والعصر، صلاة المغرب والعشاء، ثمّ أشارت الآية إلى وقت صلاة الصّبح بقولها: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ...»، أي ما يقرأ في الصّلاة عند طلوع الفجر، وقد وردت الروايات في تطبيق صلاة الصّبح على المقصود من قرآن الفجر.

وهكذا نرى أنّ الله‌ تبارك وتعالى، بيّن اهتمامه الفائق بالصّلاة بحيث إنّه عيّن وقتا خاصّا لها وأمر بأن يأتي المكلّف بصلاته في هذه الأوقات، ولا ينبغي أن يتوّهم أحد أنّ الإنسان إذا أراد عبادة الباري تعالى فلا يلزم تعيين وقت محدد

للعبادة والصّلاة، لأنّ كلّ واحد من هذه الأوقات التي عينها الباري تعالى في القرآن الكريم له حقيقة وسرّ منحصر بذلك الوقت بحيث إنّ المكلّف إذا أتى بصلاته في غير هذا الوقت فإنّه لا يدرك حقيقة هذه الصّلاة ولا ينال من بركاتها المعنويّة، نأمل أن يكون اهتمامنا بهذه النعمة الإلهيّة بأوقات الصّلاة يؤدّي إلى أن ندرك الأهميّة الخاصّة لهذه الأوقات ونحظى بالتوفيق للالتزام بها.


64ـ أهميّة صلاة الصّبح


بسم الله الرحمن الرحيم

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»

تبيّن لحدّ الآن أنّ المصلّي إذا أراد أن يدرك حقيقة وباطن الصّلاة ويحقق في ذاته تلك الأسرار التي جعلها الله‌ تبارك وتعالى للصّلاة، فيجب عليه الاهتمام الشديد بوقت الصّلاة وأن يعلم أنّ إقامة كلّ صلاة في وقتها الخاصّ له أثره الخاصّ، وبديهي أنّ الصّلاة إذا فاتت ولم يصلّها الإنسان في وقتها، فإنّه حتّى لو كان قضاؤها واجبا من الناحية الفقهيّة، ولكن صلاة القضاء هذه توجب له اسقاط التكليف فقط، ولا نعلم أنّ الأسرار والحقائق الموجودة في صلاة الأداء، هل هي نفسها تترتب على صلاة القضاء أيضا؟ ومعلوم أنّ هذا الشخص لا ينال جميع تلك الحقائق في صلاة القضاء، ولذلك يجب علينا الاهتمام بالصّلاة وإقامتها في أوقاتها المحددة.

وكذلك تبيّن أنّ الإنسان عندما يراجع القرآن الكريم فسوف يرى اهتماما خاصّا من قِبل الباري تعالى بالنسبة لأوقات الصّلاة فنقرأ في الآية 79 من سورة

الأسراء: «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»، وهنا نرى تصريح القرآن الكريم بنقطة مهمّة جدّا بحيث إنّ الشخص إذا التفت إلى هذه النقطة فسوف لا يدع صلاة الصّبح تفوته في أي يوم ولا يخسر تلك المعطيات والبركات الكثيرة في حال فوتها ولا يمكن جبران هذه الخسارة بعدها، يقول الباري تعالى في هذه الآية: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»، أي أنّ صلاة الصّبح وما يقرأ في هذه الصّلاة من آيات القرآن في وقت الفجر سيكون مشهودا، أي يكون مورد النظر والتوجّه والشهادة، ولكن ماذا يعني هذا الكلام؟ ومن قِبل أي أشخاص يكون مشهودا؟ ومن هم الأشخاص الذين يشاهدون هذا المصلّي الذي يستيقظ في أوّل طلوع الفجر ويؤدّي هذه الصّلاة؟

عندما نتصفح الروايات الشريفة الواردة في هذا الصدد فسوف يتبيّن أنّ صلاة الصّبح مشهودة لملائكة اللّيل والنّهار، فإنّ ملائكة اللّيل سيشهدونها وكذلك الملائكة المختصّون بوقت النّهار، يعني أنّ صلاة الصّبح هي الصّلاة الوحيدة التي يشهدها طائفتان من الجنود الإلهيين ويسجلونها في صحفهم ويشهدون عليها ويكتبونها في صحيفة عمل الإنسان، فالمجموع من الملائكة المأمورين بالإشراف وكتابة أعمال الإنسان في اللّيل سيشاهدون هذه الصّلاة، وكذلك تلك المجموعة من الملائكة المأمورين بالإشراف على أعمال هذا الشخص في وقت النّهار، فإنّهم سيشهدون هذه الصّلاة أيضا، ومعلوم أنّ هذا المفهوم من تغيير النوبة وتبديل الملائكة وكيف يحصل هذا التبديل، وهل أنّ ملائكة اللّيل ستعرج إلى السماء وملائكة النّهار ستنزل وأمثال ذلك، ينبغي بحثها في محلّها.

ونقرأ في كتاب «علل الشّرائع» عن سعيد بن المسيّب عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام يسأله: «مَتى فُرِضتْ الصَّلاةُ عَلَى المُسلِمِينَ عَلَى مَا هِي اليَوم» أو

«عَلى ما هُم اليَوم عَلَيه»، فالسؤال هنا عن أوقات الصّلاة اليوميّة المعينة من الصّبح والظّهر والعصر والمغرب والعشاء ومتى وجبت هذه الصلوات؟

فقال عليه‌السلام: «بِالمَدِينَةِ حِينَ ظَهَرَتْ الدَّعوَةُ وَقَوي الإِسلامُ»[1].


1. علل الشرائع، ج 2، ص 324.


65ـ صلاة الصّبح مشهودة ملائكة اللّيل والنّهار


بسم الله الرحمن الرحيم

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»

من المسلّم في علم الفقه، وكذلك من الناحية التاريخيّة، أنّ الصّلوات اليوميّة الخمس كانت وفي بداية تشريعها من قِبل الله‌ تبارك وتعالى عشر ركعات، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهبما لديه من صلاحية في التشريع من قِبل الله‌ تعالى أضاف إليها سبع ركعات، فكانت النتيجة سبعة عشر ركعه في اليوم، فقد اُضيف إلى صلاة الظّهر ركعتان وكذلك ركعتان لصلاة العصر وركعتان لصلاة العشاء وركعة واحدة لصلاة المغرب.

والنقطة الملفتة للنظر كما ورد في بعض الروايات في ذيل هذه الآية الشريفة، وهي ما ورد في تفسير نور الثقلين[1]: «فَلمَّا صَلَّى المَغرِبَ بَلَغَهُ مَولِدُ فَاطِمَةَ عليهاالسلام فَأَضَافَ إِلَيها رَكعَةً شُكرَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ»، ومنذ ذلك الوقت صارت صلاة المغرب ثلاث ركعات بشكل دائم، فالأصل فيها ركعتان وقام النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بإضافة


1. تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 201.

ركعة واحدة إليها شكرا لله‌ تعالى على ولادة فاطمة الزهراء عليهاالسلام.

«فَلَمّا أَنْ وُلِدَ الحَسنُ عليه‌السلام أَضَافَ إِلَيها رَكعَتَينِ شُكرا لله‌ عَزَّ وَجلَّ، فَلَمّا أَنْ وُلِدَ الحَسينُ عليه‌السلام أَضَافَ إِلَيها رَكعَتَينِ شُكرا لله‌ عَزَّ وَجلَّ»، وهكذا يتبيّن لماذا أضاف النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله سبع ركعات للصّلاة اليوميّة.

وجاء في رواية سعيد بن المسيّب عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام: عندما ظَهَرَتْ الدَّعوَةُ وَقَوي الإِسلامُ ووجَبَ الجهاد على المسلمين: «زَادَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فِي الصّلاةِ سَبْعَ رَكَعاتِ فِي الظُّهرِ رَكعتينَ وَفِي العَصر رَكعتينَ وَفِي المَغربِ رَكعةً وَفِي العِشاءِ الآخِرةِ رَكعتينَ وَأَقَرَّ الفَجرَ عَلَى مَا فُرِضتْ بِمَكَةَ لِتَعجِيلِ عُرُوجِ مَلائِكةِ اللَّيلِ إِلى السَّماءِ وَلِتَعجِيلِ نُزُولِ مَلائِكةِ النَّهارِ إِلى الأَرضِ، فَكانَ مَلائِكَةُ النَّهارِ وَمَلائِكَةُ اللّيلِ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهصَلاةَ الفَجرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ الله‌ تَعالى إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودَا لِيَشهدهُ المُسلِمُونَ وَلِيَشهَدهُ مَلائِكَةُ النَّهارِ وَمَلائِكةُ اللّيلِ»[1].

وجاء في رواية أخرى: «فَإِذا صَلّى العَيْدُ الصُّبحَ مَعَ طُلُوعِ الفَجرِ أُثبِتَتْ لَهُ مَرَّتَينِ أَثَبتَها مَلائِكةُ اللّيلِ وَمَلائِكةُ النّهارِ»[2]. وعلى هذا الأساس إذا التفت الإنسان إلى أهميّة صلاة الصّبح وما فيها من الخصوصيّة وقدر عظيم فإنّه سوف لا يسمح لنفسه بأن تفوته هذه الصّلاة أبدا.


1. علل الشرائع، ج 2، ص 324.

2. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 283.


66ـ لزوم الاهتمام بأداء صلاة الصّبح في وقته


بسم الله الرحمن الرحيم

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»

يستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ صلاة الصّبح مشهودة ملائكة اللّيل وملائكة النّهار، ويجب على الإنسان الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّ صلاة الصّبح إذا مضى من وقتها ساعة واحدة أو نصف ساعة، وأتى بها المصلّي بعد طلوع الفجر بساعة فسوف لا يترتّب عليها ذلك الأثر وتلك الثمرة الخاصّة، فإذا أراد المؤمن أن تكون صلاته مشهودة لملائكة اللّيل والنّهار فيجب أن يصلّيها في أوّل طلوع الفجر وعند عروج ملائكة اللّيل إلى السماء في هذا الوقت ونزول ملائكة النّهار إلى الأرض في الوقت نفسه أيضا، وبذلك تشهد له هاتان المجموعتان من الملائكة أنّه صلّى الصّبح لوقتها، وظاهر الرواية أنّ كلّ ما يكتبه الملائكة في صحيفة أعمال هذا المؤمن له قيمة خاصّة وأثر معين، ولذلك ارجو من الأخوات والإخوة المؤمنين أن يتقيدوا حتما بصلاة الصّبح ولا يتساهلوا في الإتيان بها لوقتها، وليعلموا وجود آثار كبيرة وبركات كثيرة على صلاة الصّبح في أوّل وقتها.

وأذكر لكم حكاية في زمان حياة آية الله‌ العظمى فاضل اللنكراني رضوان الله‌ عليه، فقد جاء إليه شيخ كبير من بلد آذربيجان وقال له عبارة تعجبت منها واقعا وشعرت بالغبطة له، قال ذلك الشيخ المسن: إنّني طيلة حكم الاتحاد السوفياتي الماركسي على بلد آذربيجان لم تفتني صلاة الصبح ولا مرّة واحدة، فما أعظم ما يعيشه المؤمن من اللذّة والبهجة بحيث إنّه يرى سبعين أو ثمانين سنة من عمره قد مضى وهو الآن يريد أن يقيم أعماله في تلك المدّة ويرى أنّه صلّى طيلة هذه المدّة صلاته على وقتها ويشكر الله‌ تعالى أنّه رزقه هذه النعمة بحيث أتى بواجباته وعباداته كاملة، فلو أنّه غادر الدنيا في هذه اللحظة فلا توجد صلاة في ذمّته، ولكن بعض آخر ممن لهم عمر أقلّ عندما ينظرون إلى ماضيهم فسوف يرون أنّ بعض صلاتهم قد فاتت ويجب عليهم الآن أن يبادروا بسرعة إلى قضائها ويؤدّون تكليفهم الشرعي تجاه هذه الصّلاة، ولا يوكِلون أمرها إلى غد وبعد غدٍ إلى يحين أجلهم وينتهي عمرهم وربّما لا يوفّقون لقضاء تلك الصلوات ولا يعلم بعد الموت أنّ ورثتهم سيبادرون للقضاء عنهم.

ومن هذا المنطلق ينبغي علينا أن نتأمل ونفكّر في ماضينا، فلو كنّا نحتمل أنّ صلاة قد فاتتنا فيما مضى من عمرنا فيجب علينا المبادرة إلى قضائها، وينبغي أن نتذكر هذه الآية الشريفة: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»، فعندما نريد أن نلجأ في اللّيل إلى الفراش نسأل الله‌ تبارك وتعالى وندعوه: إلهي أنت الذي فرضت عليَّ صلاة الصّبح فأسألك أن توقظني في هذا الوقت وتوفّقني للمشاركة في محفل الاُنس والنور مع عشّاقك ومحبّيك، وعليكم باختبار ذلك، فعلماؤنا الأكابر قالوا مرّات عديدة بأنّه لا يمكن أن يطلب الإنسان من الله‌ تعالى في اللّيل بأن يستيقظ لصلاة الصّبح وحتّى لصلاة اللّيل ولا يوفّق لذلك، فبدلاً من التوصيّة بهذا وذلك أن يوقظنا لصلاة الصّبح، فلنطلب من الله‌ والملائكة الإلهيين ذلك، فهؤلاء مستيقظون دائما ومهتّمون بنا.

والآن إذا كنّا نعيش هذا الهاجس وقعا، فإذا استيقظنا يوما من النوم في الصباح الباكر ورأينا أنّه قد مضى على آذان الفجر نصف ساعة فعلينا أن نقول عجيب لقد ذهبت ملائكة اللّيل ولم تشاهد صلاتنا في هذا الصباح، فما أعظم هذه الخسارة، ولو أننا أوجدنا في أنفسنا مثل هذه الحالة فسوف نستيقظ دوما عند أذان الصّبح للصّلاة والمناجاة مع الله‌ تبارك وتعالى، وهكذا يتبيّن لنا معنى هذه الآية الشريفة وينبغي علينا جميعا فهم هذا المعنى وحفظه في أذهاننا وتكرار هذه الآية في حال سيرنا: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا»، فعندما نستيقظ لصلاة الصّبح ننظر إلى السماء لنرى الملائكة الإلهيين، فملائكة اللّيل يعرجون إلى السماء فوجا فوجا، وملائكة النّهار ينزلون إلى الأرض مجموعة بعد مجموعة، فيسّلم هذا المصلّي عليهم ويقيم هذا التواصل والارتباط معهم حتّى نعيش هذه الحالة من اللذّة والبهجة في صلاتنا إن شاء الله.


67ـ سرّ أوقات الصّلاة في جواب النّبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله للعالم اليهودي


بسم الله الرحمن الرحيم

يروي المرحوم الشيخ الصدوق رحمه‌الله عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال: «جَاءَ نَفَرٌ مِنَ اليَهودِ إِلى النَّبِيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فَسَأَلَهُ أَعلَمُهُمْ عَنْ مَسائِلَ: أَخبِرنِي عَنِ الله‌ لأَيِّ شَيءٍ فَرَضَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الخَمسَ الصَّلواتِ فِي خَمسِ مَواقِيتَ عَلَى أُمَّتِكَ فِي سَاعَاتِ اللَّيلِ والنّهارِ».

«فَقَالَ النَّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: إِنَّ الشَّمسَ عِندَ الزَّوالِ لَها حَلَقَةٌ تَدخُلُ فِيها»، ولعل ذلك إشارة إلى دائرة نصف النّهار عندما تصل الشّمس إلى هذه الدائرة يحين وقت صلاة الظّهر.

«فَإِذا دَخَلَتْ فِيها زَالَتِ الشَمسُ فَيُسبِّحُ كُلُّ شَيءٍ دُونَ العَرشِ بِحَمدِ رِبِّي جَلَّ جَلالُهُ، وَهِي السِّاعةُ الّتي يُصلِّي عَلَيَّ فِيها رَبِّي، فَفَرَضَ الله‌ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي فِيها الصَّلاةُ وَقَالَ: «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...»[1]»، وهذه هي خصوصيّة صلاة الظّهر ووقت صلاة الظّهر.


1. سورة الاسراء، الآية 79.

وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن يتصوّر أحد أنّ وقت صلاة الظّهر عبارة عن قسم من الوقت في مدّة أربع وعشرون ساعة من اللّيل والنّهار قد قسمها الله‌ بهذه الصورة، كلاّ، ففي جميع هذه الأوقات توجد حِكم وحقائق خقيّة، ولو أنّ الإنسان علم أنّ وقت صلاة الظّهر وهو وقت الذي صلّى الباري تبارك وتعالى على نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهوأنّ جميع موجودات العالم تسبّح الله‌ تعالى وتقدّسه سيكون هذا الشخص سائرا مع هذا القافلة العظيمة ويجعل نفسه في بحر هؤلاء المسبّحين لله‌ ويتحرّك مع قافلة العشّاق والذّاكرين لله‌ تعالى.

يقول عليه‌السلام: «وَهِي السَّاعَةُ الَّتِي يُؤتى فِيها بِجَهنّمَ يِومَ القِيامَةِ فَما منْ مؤمنٍ يُوافِقُ تِلكَ السَّاعَةَ أَنْ يَكُونَ ساجِدا أَو رَاكِعا أَوْ قَائِما إِلاّ حرَّمَ الله‌ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ».


68ـ سرّ تعيين وقت صلاة العصر


بسم الله الرحمن الرحيم

ويتابع أميرالمؤمنين عليه‌السلام في نقله تلك الرواية عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله حيث يتحدّث فيها عن أسرار أوقات الصّلاة، فيقول: «وأَمّا صَلاةُ العَصرِ فَهِي السَّاعَةُ الّتي أَكَلَ آدمُ عليه‌السلام فِيها مِنَ الشَّجرَةِ فَأَخرَجَهُ الله‌ عَزَّ وَجلَّ مِنَ الجَنَّةِ».

«فأَمَرَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ ذُرِّيَّتَهُ بِهذِهِ الصَّلاةِ إِلى يَومِ القِيامَةِ وَاختَارَهَا لأُمَّتِي فَهِي مِنْ أَحبِّ الصَّلَواتِ إِلى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوصَانِي أَنْ أَحفَظَها مِنْ بَينِ الصَّلَواتِ».

ويتبيّن من هذا الحديث الشريف الحكمة في تعيين وقت صلاة العصر، يعني أنّ الإنسان في وقت العصر يجب أن يتذكّر كيف أنّ أبا البشر ارتكب ذلك الترك الأولى وطرد من الجنّة فيجب على ذريّته وأولاده في هذا الوقت بإقامتهم لصلاة العصر جبران تلك النقيصة والخطيئة وإبعاد أنفسهم عن آثارها السلبيّة، ومن هذه الجهة كانت صلاة العصر أحبّ الصّلوات عند الله‌ تبارك وتعالى، يعني أننا نريد في وقت صلاة العصر أن نقول لله‌ تعالى، إذا ارتكب آدم تلك المعصية وترك الأولى فنحن بصلاتنا في هذا الوقت نعلن اطاعتنا وعبوديّتنا وانقيادنا لك ونمتثل

أوامرك، ولو أنّ آدم صدر منه ذلك الخطأ فنحن نعلن بعبادتنا وصلاتنا هذه أننا لا نريد أن نخالف أوامرك ونعصيك، يعني أنّ صلاة العصر هذه تتلوّن بلون خاصّ وتعتبر امتثالاً مضاعفا، فنفس الصّلاة تعتبر امتثالاً لأمر الله‌ وطاعة له، ومع الالتفات إلى الواقعة التاريخيّة فيما يتّصل بآدم ومخالفته للأمر الإلهي، فنحن ذريّة آدم نريد من إقامتنا صلاة العصر، مضافا إلى امتثال الأمر الإلهي، نقول لله‌ تبارك وتعالى: إلهنا نحن لا نريد أن نرتكب ذلك الخطأ ولا نريد الخروج عن دائرة الانقياد والطاعة والعبوديّة لك.


69ـ سرّ تعيين وقت صلاة المغرب والعشاء


بسم الله الرحمن الرحيم

علمنا من الرواية الواردة عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام فيما يتّصل بصلاة المغرب أنّ الله‌ تبارك وتعالى قبل في هذا الوقت توبة آدم، وأساسا فإنّ نفس تذكّر هذه الواقعة في هذا الوقت وأنّ توبة جدّنا آدم أبوالبشر ذلك النبيّ الكبير، يوحي لنا بأن نتحرّك نحو التوبة والإنابة إلى الله، ومن هذه الجهة تكون لصلاتنا حقيقة أخرى بوصفها توبة عمليّة إلى الله‌ بالرغم من أنّ كلّ صلاة في حقيقتها توبة وإنابة إلى الله، ولكن بخصوص وقت صلاة المغرب عندما يتذكّر الإنسان هذه الخصوصيّة في هذا الواقعة فإنّه يتحرّك عملاً نحو التوبة، إنّ توبة آدم كانت بهذا الشكل أيضا فقد صلّى آدم ثلاثه ركعات، ركعة واحدة بسبب الخطيئة التي ارتكبها، والركعة الثانية بسبب خطيئة حواء، والركعة الثالثة بوصفها توبة إلى الله‌ من هذه الخطيئة.

«فَفَرَضُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الثَّلاتَ رَكَعاتٍ عَلَى أُمَّتِي»، وقد ورد في بعض الروايات الأخرى أنّ الركعة الثالثة أضافها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عندما بشّروه بولادة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، ولا تنافي بين هذه الأخبار، فربّما صلّى آدم عليه‌السلام هذه الركعات

الثلاث، ثمّ إن الله‌ تعالى جعلها ركعتين على اُمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهتخفيفا لهم، لأنّ الله‌ تعالى علم أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله سيضيف إليها ركعة ثالثة، كفرض على المسلمين، ولذلك تنطبق هذه الركعة الثالثة بوصفها توبة آدم وكذلك بوصفها شكرا لله‌ على ولادة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ولا إشكال من هذه الجهة.

والنقطة المهمّة جدّا في هذا المورد أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: «وَهِي السَّاعَةُ الَّتِي يُستَجابُ فِيها الدُّعاءُ فَوَعَدَنِي رَبِّي عَزّ وَجَلَّ أَنْ يَستَجيبَ لِمَنْ دَِعاهُ فِيها»،، وليس فقط يستجاب دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، بل يستجاب لكلّ شخص إذا دعا الله‌ تعالى في وقت المغرب، فصلاة المغرب هي الصّلاة التي قال الله‌ تعالى عنها في الآية الشريفة: «فَسُبْحَانَ الله‌ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ»[1]، وتقول الرواية: «وَهِي الصَّلاةُ الَّتِي أَمَرَني رَبِّي بِها فِي قَولِهِ تَبَارَكَ وَتَعالَى «فَسُبْحَانَ الله‌ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ».

ونتابع قوله عليه‌السلام: «وَأَمَّا صَلاةُ العِشاءِ الآخِرِ فَإِنَّ للقَبرَ ظُلمَةٌ وَلِيَومِ القِيامَةِ ظُلمَةٌ»، ومن هذه الجهة أمر الله‌ تعالى بصلاة العشاء لتنير قبرنا وتزيل الظلمة عنّا في هذا الموقف العصيب، هذه بعض النقاط التي ينبغي أن يستحضرها الإنسان في صلاته، وإن كانت نيّتة في الصّلاة هي الطاعة لله‌ تبارك وتعالى وامتثالاً لأمره، ولكننا نعلم أنّ مصداق هذه الإطاعة والامتثال من شأنه إزاحة ظلمة القبر وظلمة المحشر في يوم القيامة.

«أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الصَّلاةِ لِتُنوِّرَ القَبرَ وَلِيُعطِينِي وَأُمَّتِي النُّورَ عَلَى الصِّراطِ»، والآن مع الالتفات إلى هذه الخصوصيّات الواردة في هذه الصّلاة، هل نسمح لأنفسنا بأن نضيّع صلاة عشاءنا أو نصلّيها دون حضور القلب ونخسر بذلك كلّ هذه البركات المثوبات؟!


1. سورة الروم، الآية 17.

«َمَا مِنْ قَدَمٍ مَشَتْ إِلى صَلاةِ العَتمَةِ إِلاّ حَرَمَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ وَ هِي الصَّلاةُ الّتي اختَارها الله‌ تَعالى وَتَقَدَّسَ ذِكرُهُ لِلمُرسَلِينَ قَبلِي».

ومن هذا يتبيّن أنّ تعيين أوقات الصّلاة له جهة خاصّة في كلّ صلاة، فصلاة الصّبح مشهودة للملائكة ووقتها من طلوع الفجر حيث يجتمع في هذا الوقت ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدون لهذا المصلّي بصلاة الفجر، وصلاة الظّهر عند ما يصلّي الباري تعالى على النبيّ وتسبّح بحمده جميع الموجودات والكائنات، وصلاة العصر عندما ارتكب النبيّ آدم عليه‌السلام تلك الخطيئة وترك الأولى وتاب منها، وصلاة المغرب هو الوقت الذي قبلت فيه توبة آدم، ووقت صلاة العشاء يذكرنا بظلمة القبر والقيامة، وصلاة العشاء من شأنها أن تدفع هذه الظلمة عنّا في تلك المواقف العصيبة.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا أن نكون من المصلّين الحقيقيين إن شاء الله.


70ـ عقوبة عدم الاهتمام بوقت الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الدقّة والتمعّن في الآيات الشريفة من سورة الماعون يبيّن لنا ضرورة وأهميّة التوجّه والاهتمام أكثر لوقت الصّلاة، فنقرأ في آيات هذه السورة الشريفة: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»[1]، وهكذا نرى أنّ الله‌ تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة في مقام التهديد العظيم والشديد لمصلّي الذي يصلّي وهو يعيش الغفلة عن ذكر الله‌ وعن الصّلاة، فالويل إمّا يعني العذاب الشديد، أو المكان الذي فيه عذاب شديد، وقبل هذه الآية الشريفة يقول تبارك وتعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ»[2]، حيث ذكر الكثير من المفسّرين في هذا المقام أنّ هذه الآية: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ»، ترتبط بما قبلها من الآيات في حين أنّ الله‌ تبارك وتعالى بعد أن يقرّر في أوّل السورة تكذيب المكذبين بيوم القيامة والأشخاص الذين يهينون اليتيم ويحرمون


1. سورة الماعون، الآية 4 و 5.

2. سورة الماعون، الآية 1 ـ 3.

المساكين من الطعام ويهددهم بأنواع العذاب الشديد، ثمّ يبيّن مسألة جديدة ومستقلة، وهذا بذاته يحكي عن أهميّة هذه المسألة، ويرى المحقّقون في علوم القرآن أنّ الآيات الاُولى من سورة الماعون مكيّة، ومن قول: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» إلى آخر السورة مدنيّة، وفيها يقول: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»، يعني الأشخاص الذين يتساهلون بصلاتهم ولا يهتمّون بأدائها على وجهها ولا يحفظون أوقاتها يؤخّرونها عن وقتها المقرّر، وعندما يسمعون صوت الأذات في أوّل الوقت يقولون في أنفسهم: نحن مشغولون فعلاً بعمل أهمّ وسوف نصلّي بعد ذلك ولا يلتفتون إلى وقت الصّلاة، وهؤلاء إمّا أن يؤخّروا صلاتهم عن أوّل وقتها، أو لا سمح الله‌ يتركون الصّلاة ويقولون سوف نقضي هذه الصّلاة فيما بعد وفي خارج الوقت، في حين يجب أن نلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الشخص إذا أخّر صلاته عمدا وصلاّها خارج الوقت ولو على شكل قضاء الصّلاة، ولكنّه في هذا العمل قد ارتكب معصية كبيرة، والآية الشريفة تقول: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»، ولم تقل الذين هم يتساهلون أثناء الصّلاة، بل قالت: الذين يسهون في صلاتهم، والسهو عن الصّلاة يعني ترك الصّلاة في أوّل الوقت أو ترك الصّلاة في أصل الوقت، أو أساسا لا سمح الله‌ ترك الصّلاة كليّا في بعض الأيّام وفي بعض المناسبات ويقول: الآن توجد حفلة أو يوجد عرس ولا مجال لأداء الصّلاة في هذا الوقت، وسوف أقضي هذه الصّلاة بعد ذلك.

وهكذا ترون أنّ الله‌ تبارك وتعالى يقول في هذه الآية الشريفة: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»، الذين يتعاملون مع صلاتهم بهذه الصورة، وللأسف أنّ بعض الأشخاص من المسلمين والمؤمنين يؤخّرون صلاتهم أحيانا عن أوّل الوقت وفي الغالب يعيشون حالة اللامبالاة في أوقات الصّلاة ولا يهتمّون بوقت الصّلاة، فهذه الآية الشريفة من سورة الماعون يجب توضع أمام أعيننا، لئلا نكون نحن

مشمولين هذه الآية الشريفة ونحن في حال الصّلاة ويقال لنا: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ»، وطبعا هناك نقاط تفسيريّة دقيقة أخرى في هذه الآية الشريفة ليس هنا مجال لبيانها.

وعلى هذا الأساس يجب على المسلمين، وبخاصّة الشيعة وأتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، الالتفات إلى أنّ أحد الامتيازات وخصوصيّات الشيعة أن يكونوا محافظين على أوقات الصّلاة ويجب عليهم الاهتمام بها وبأوقاتها.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «إِنَّ فَضْلَ الوَقتِ الأِوّلِ عَلَى الآخِرِ كَفَضلِ الآخِرةِ عَلَى الدُّنيا»[1].


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 274.


الباب الرابع: سرّ استقبال القبلة التوجّه إليها في الصّلاة



71ـ لزوم التوجّه إلى الكعبة


بسم الله الرحمن الرحيم

من البحوث التي يجب التوجّه إليها في بحث أسرار الصّلاة، مسألة القبلة ووجوب استقبال المصلّي للكعبة في صلاته، فأحد شروط صحّة الصّلاة أنّ المصلّي يجب أن يتوجّه في صلاته إلى الكعبة بحيث إنّه إذا انحرف متعمدا ولو بمقدار قليل عن جهة الكعبة فإنّ ذلك من شأنه إحداث خلل في صحّة صلاته، والنقطة المهمّة هنا: ما هو السرّ في استقبال المصلّي للكعبة؟ لأننا من جهة نقرأ في الآيات القرآنيّة الشريفة: «للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله...»[1]، فإذا كان الحال كذلك وأنّ الله‌ تعالى موجود في كلّ مكان ولا توجد أي جهة من جهات العالم يمكن القول إنّ الله‌ تبارك وتعالى ليس بحاضر فيها، فلا يمكن القول إنّ الله‌ تعالى موجود في السماء لا في الأرض، ولا يمكن القول إنّ الله‌ تعالى موجود في الكعبة لا في مكان آخر، والعقل يؤيد هذا المعنى أيضا ويحكم بأنّ ذلك الموجود الذي خلق جميع ما في هذا العالم وجميع الكائنات لابدّ أن تكون

له الإحاطة القيوميّة بجميع هذه الكائنات والمخلوقات، ويجب أن يكون حاضرا في كلّ مكان ولا يمكن عقلاً أن نتصوّر مكان يخلو من وجود الله‌ تبارك وتعالى.


1. سورة البقرة، الآية 115.

ومع الالتفات إلى هذه الحقيقة فلماذا يجب علينا التوجّه إلى الكعبة في الصّلاة؟ ما هو السرّ في المسألة، بحيث إنّ المصلّي لو لم يتوجّه في صلاته إلى الكعبة فإنّ هذه الصّلاة لا تقع مقبولة من الله‌ تعالى حتّى لو صلّى جميع سنوات عمره إلى الجهات الأخرى؟

ولتوضيح المسألة يجب بداية ذكر مقدّمة، فأساسا أنّ التوجّه للكعبة لا يختصّ بالصّلاة، فلو تصفحنا الكتب الفقهيّة والمتون الروائيّة فسوف نرى الكثير من الأمور التي يجب فيها التوجّه إلى الكعبة، فذبح القربان لا يكون حلالاً ومذكى لو لم يتمّ استقبال القبلة في ذبحه، وكذلك يستحب أن يمدّد المحتضر نحو القبلة، وعندما يدفن الميّت يجب أن يكون وجهه نحو القبلة، فحتّى في الجلوس العادي فالأفضل أن يجلس الإنسان مستقبلاً القبلة، وقد ورد في خصوصيّات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال: «كَانَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أَكثَرُ مَا يَجلِسُ تَجَاهَ القِبلَةِ»[1].

وكذلك روى حمّاد بن عثمان: «رَأَيتُ أَبَا عَبدِللهِ عليه‌السلام يَجلِسُ فِي بَيتِهِ عِنْدَ بَابِ بَيتِهِ قُبالَةَ الكَعبَةِ»[2].

وقد ورد في روايات أيضا في باب الزراعة: «إِذَا أَرَدتَ أَنْ تَزرَعَ زَرْعا فَخُذْ قَبضَةً مِنْ البَذرِ وَاستَقبِلْ القِبلَةَ، وَقُلْ: «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»[3]»[4]، ثمّ قلْ ثلاث مرّات: «الله‌ الزّارع»، إذن فمسألة استقبال القبلة لا


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 661.

2. المصدر السابق، ص 662.

3. سورة الواقعة، الآية 63 و 64.

4. المصدر السابق، ص 262.

تختصّ بالصّلاة بل تشمل حالات وأمور أخرى أيضا، وهذا يبيّن وجود سرّ وحقيقة كامنة في الكعبة المشرّفة بحيث إنّ الناس ينبغي عليهم استقبال القبلة في الكثير من أمورهم والتوجّه إليها.


72ـ سرّ أهميّة الكعبة وجعلها القبلة للمسلمين


بسم الله الرحمن الرحيم

تقدّم أنّ التوجّه نحو القبلة لا يختصّ بحال الصّلاة بل موجود في أمور كثيرة كذبح القربان، والزراعة وحتّى الجلوس العادي، فإنّ مسألة استقبال القبلة مذكور في هذه الموارد، بل قد ورد في الروايات الشريفة أنّ أحد شروط استجابة الدعاء أنّ الإنسان يتوجّه نحو القبلة ويدعو الله‌ تبارك وتعالى، يقول صفوان الجمّال: «شَهِدتُ أَبَاعَبدِالله‌ عليه‌السلام وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فِي التَّكبِير، وَقَالَ: اللّهُمَّ لا تُؤْيسِني مِنْ رَوحِكَ وَلا تُقنِّطنِي مِنْ رَحمَتِكَ وَلا تُؤمِنِّي مَكْرَكَ»[1]، وحتّى في مورد النسوة اللاتي لهنّ عذر شرعي في عدم الصّلاة فإنّه يستحب لهنّ الوضوء والجلوس في مجالس الصّلاة وهو المحلّ الذي يقمن فيه الصّلاة ويجلسن باتجاه القبلة ويذكرن الله‌ تعالى بمقدار ما تستغرقه الصّلاة، إذن فقد تبيّن أنّ استقبال القبلة لا يختصّ بحال الصّلاة ومن هذه الجهة يجب علينا الفات النظر والذهن إلى هذه النقطة، وهي: ما هي خصوصيّة الكعبة، وماذا تمثّل من رمز، وما هي الحقيقة الكامنة فيها؟ وبحسب تعبير الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في كتابه «سرّ


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 544.

الصّلاة»: إنّ الكعبة اُمّ القُرى ومركز بسط الأرض[1].

وقد ورد في رواية عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «سُمِّيَتِ الكَعبةُ كَعبَةً لأَنّها وَسَطُ الدُّنيا»[2]، أي أنّ الكعبة مركز ثقل العالم، وأوّل نقطة ظهرت من الماء بعد حادثة الطوفان وسفينة النبيّ نوح عليه‌السلام هي الكعبة، والقرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة في سورة النازعات ويقول: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا»[3]، ممّا يفيد مركزيّة الكعبة للعالم، وبالإمكان القول إنّ الكعبة وجه الله‌ تبارك وتعالى في هذا العالم الأرضي.

يقول المرحوم الميرزا جواد الملكي التبريري رضوان الله‌ عليه: إنّ الله‌ تعالى له في كلّ العالم وجه بالنسبة لأهل ذلك العالم، وفي عالم الدنيا فإنّ وجه الله‌ بالنسبة لأهل الأرض هو الكعبة المعظمة، يعني أنّ الله‌ تعالى قرر بأنّ الأشخاص الذين يريدون التوجّه إلى الله‌ تبارك وتعالى من سكان الأرض فعليهم التوجّه نحو الكعبة، فنحن عندما نتوجّه نحو الكعبة فهذا يعني أنّ توجّهنا منحصر فقط نحو الله‌ تبارك وتعالى لا إلى غيره من الأشياء، فوجه الله‌ لا يعني القول إنّ الله‌ تعالى لو وجه ظاهري، بل الوجه هنا يعني المظهر الذي بواسطته يتوجّه الإنسان نحو الحقّ رغم أنّ الله‌ تعالى محيط بالإنسان في جميع الحالات وأنّ الإنسان يستطيع التواصل معه ومناجاته في كلّ حال، ولكن في حال الصّلاة وبما أنّ وجه الله‌ في الأرض يتمثّل في الكعبة المعظمة، فالمصلّي يجب عليه في هذا المورد التوجّه نحو القبلة.

على هذا الأساس يجب على المصلّي في جميع الحالات، سواءً في حال الوقوف أو الجلوس أو حتى لو اضطر إلى الصّلاة بحال الاضطجاع أن يستقبل الكعبة المعظمة ويتوجّه نحوها.


1. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 65.

2. من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 190.

3. سورة النازعات، الآية 30.


73ـ القبلة والأمن المعنوي


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «كَانَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ صَلواتُ الله‌ عَلَيهِ َءِذَا أَهَلَّ هِلالُ شَهْرُ رَمَضانَ أَقبَلَ إِلَى القِبلَةِ»[1].

نستنتج ممّا تقدّم من لزوم رعاية استقبال القبلة في الاتيان بالأمور المهمّة، أنّ للكعبة المشرفة رمزا وسرّا خاصّا، فما هو هذا السرّ؟ وقد ورد في بعض الروايات أنّ القبلة عنوان الأمن للناس، يقول أميرالمؤمنين عليه‌السلام: «لا يَجُوزُ للرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّي وَبَينَ يَدَيهِ سَيفٌ لأَنَّ القِبلَةَ أَمْنٌ»[2]، أي أنّ الكعبة هي محلّ الأمن الإلهي، ومن خلال التدقيق في هذه العبارة نستوحي أنّ الوقوف في مقابل القبلة واستقبال الكعبة المشرفة يمنح المؤمن حال من الأمن الروحي والمعنوي، يعني كما أنّ الله‌ تبارك وتعالى جعل من محيط الكعبة ومكّة المكرمة حرما للأمن الإلهي، وهذا الأمن لا يختصّ بالشخص الذي يدخل إلى ذلك المكان المشرّف


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 4، ص 74.

2. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 250.

بل يوجد أمن فوق هذا الأمن الظاهري، فالإنسان عندما يتوجّه إلى القبلة فإنّ الله‌ تبارك وتعالى يجعل له حالة من الأمن لا تتوفّر لو توجّه نحو الجهات الأخرى، رغم أنّ الله‌ تعالى موجود في جميع الجهات الأخرى، ولكن هذه الحالة من الأمن الخاصّة لم تتعلّق مشيئة الباري تعالى في الجهات الأخرى، وبحسب هذه الرواية فإنّ المصلّي يجب أن يعتقد بأنّه واقف في حرم الأمن الإلهي بحيث لا يصحّ منه وضع سيف أمامه للدفاع عن نفسه، وهذا الحديث الشريف يفيد قطعا وجود حالة من الأمن المعنوي والباطني، يعني أنّ الإنسان الذي يستقبل القبلة فإنّ فكره وقلبه وعقله ونفسه تكون بعيدة عن أجواء الضلالة ووساوس الشيطان والأفكار الباطلة، يعني أنّ الله‌ تعالى يتدخل في هذه الحالة ويقيد الشيطان في سلطته على هذا المؤمن.

إنّ الله‌ تبارك وتعالى، كما يقيد أيدي وأرجل الشيطان في شهر رمضان، فعندما يقف المصلّي ويستقبل القبلة فإنّ حالة من الأمن ستشمله ويبتعد عنه الشيطان، فمن هذه الجهة ورد في بعض الروايات عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِذا قَامَ العَبدُ إِلى الصَّلاةِ فَكَانَ هَوَاهُ وَقَلبَةُ إِلى الله‌ تَعالى انصَرفَ كَيومِ وَلَدَتْهُ أُمِّهُ»[1]، وهذا يعني أنّ استقبال المصلّي بظاهر بدنه نحو القبلة يعتبر مقدّمة لاستقبال وجه باطنه يعني قلبه وروحه نحو الله‌ تبارك وتعالى، كما ورد من قوله عليه‌السلام أنّ الكعبة أمن، يعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى يحفظ المصلّي في هذه الحال ويبعد عنه لوث الشيطان والأفكار الباطلة، ولا يسمح أن يتورط هذا المصلّي بوحل الوساوس الشيطانيّة والنوازع النفسانيّة، وهكذا نرى أنّ الله‌ تعالى يوفّر جميع الشروط والظروف المناسبة لكي يتوجّه هذا العبد نحوه ويتواصل مع ربّه بالمناجاة والعبادة، فهذه إحدى النقاط المهمّة التي ينبغي الالتفات إليها في باب استقبال القبلة.


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 81، ص 261.


74ـ تناسب الظاهر والباطن في التوجّه إلى الله


بسم الله الرحمن الرحيم

في مقام الجواب عن هذا السؤال لماذا يتوجّه المصلّي في صلاته نحو الكعبة المشرّفة؟ وما هي الحكمة والسرّ في شرطيّة استقبال القبلة للمصلّي؟ يقول الشهيد الثاني أعلى الله‌ مقامه الشريف[1]: «أمّا الاستقبال فهو صرف لظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله‌ تعالى»، وهذا يعني أنّ هذا المصلّي يريد أن يخاطب الله‌ تبارك وتعالى ويقول: إلهي لقد أعرضت عن الدنيا وما فيها وأعرضت عن كلّ ما ليس له صبغتك ولونك، واُريد أن أتوجّه بكلّ وجودي في الظاهر والباطن نحوك، فلو أنّ المصلّي التفت إلى هذا المعنى فسوف يؤثر ذلك قطعا في نيّة صلاته، وستكون هذه الصّلاة أكثر خلوصا ومعنوية وحيوية، ولذلك ورد في الروايات أنّه يجب أن تكونوا في الصّلاة بحيث إنّكم ترون الله، فإنّ لم تكونوا ترونه فإنّه يراكم.

ثمّ يقول الشهيد الثاني قدس‌سره: «أفترى أن صرف القلب عن سائر الأمور إلى أمر الله


1. التنبيهات العليّة، ص 105.

تعالى ليس مطلوبا منك»، وكما أنّ القلب يعدّ حرم الله‌ ولا يجوز أن يسكن فيه غير الله‌ تعالى ولا يتوجّه إلى غيره فبدنك الظاهري أيضا يجب أن يتوجّه نحو الله‌ تعالى، وهكذا نستنتج أنّ الأمر الإلهي باستقبال والتوجّه نحو الكعبة في الصّلاة يجب أن تكون هناك رابطة وعلاقة بين هذا الظاهر وبين الباطن، بحيث إنّ الإنسان عندما يتوجّه بظاهره نحو الله‌ تعالى فإنّ قلبه لا محالة سيتوجّه نحو الله‌ أيضا، فعندما يتوجّه قلبه، فإنّ ظاهره لا محالة سيبتعد عن غير الله‌ ويتوجّه نحو الباري تعالى رغم أنّ علماءنا الكبار غالبا ذكروا في كتبهم الأخلاقيّة والعرفانيّة أنّ الظاهر هو طريق إلى الباطن، كما هو الحال في مسألة استقبال القبلة والتوجّه نحو الكعبة المشرّفة، وبحسب ما ورد في بعض الروايات أنّ ما يقابل الكعبة في السماء الرابعة هو البيت المعمور، وهو محل طواف الملائكة، والبيت المعمور بدوره يقع بإزاد عرش الله‌ تبارك وتعالى، وهذا الارتباط العميق من الأرض إلى السماوات يعكس وجود هذا الارتباط بين هذا الظاهر وذلك الباطن.

لا ينبغي أن نتصوّر أنّ الكعبة مجرّد بناء متشكل من أحجار وضعها النبيّ إبراهيم عليه‌السلام في ذلك المكان وبالإمكان أيضا أن يضعها في مكان آخر، ولكنّه اتّفق أن وضعها في مكّة، أي بمعنى أنّ مكان الكعبة هو أمر اعتباري، كلاّ، فثمّة أسرار كثيرة في الكعبة ومكانها، فقد ورد في الروايات أنّه يستحب النظر إلى الكعبة، فعندما يجلس الإنسان في المسجد الحرام فيستحبّ له النظر إلى الكعبة وكلّما نظر إلى الكعبة أكثر ازداد ثوابه، وهذا بسبب أنّ ظاهر الكعبة ليس هو المقصود بل يجب أن يكون معلوما أنّ البيت المعمور يقع في السماء بمحاذاة الكعبة، والبيت المعمور بدوره يقع بمحاذاة العرش الإلهي، يعني أنّ سرّ الكعبة هو البيت المعمور، وسرّ البيت المعمور هو عرش الله‌ تبارك وتعالى، إذن فعندما نقف اتجاه القبلة ونعرض بوجهنا عن كلّ ما سوى الله‌ تعالى ونتوجّه إلى حقيقة واحدة يعني الله‌ تبارك وتعالى، فهذا يعني أنّ ظاهر الإنسان سيتلوّن وبصطبغ بصبغة إلهيّة أيصا.


75ـ الصورة الباطنيّة لعدم التوجّه إلى الله‌ في الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

تبيّن لحدّ الآن، كما يجب أن يكون قلب المصلّي متوجّها نحو الله‌ تعالى فإنّ ظاهره وجوارحه يجب أن تكون متوجّهة نحو وجه الله‌ وهو الكعبة المشرّفة، وأحد آثار توجّه المصلّي نحو الكعبة أو يفهم نفسه ويوحي لقلبه أنّ هذا القلب يجب أن يكون فقط وفقط ذاكرا لله‌ تعالى ويعيش أجواء عظمته وقدرته، فلو أنّ الشخص توجّه إلى الكعبة واستقبل القبلة في صلاته ولكن قلبه كان يميل نحو غير الله، فهذا يعني أكبر استهزاء بالله‌ تعالى، فلو أنّك بحسب الظاهر تنظر إلى شخص معيّن وبدأت بالحديث معه ولكنّ قلبك وحواسك في مكان آخر، أو بالعكس لو كنت عارفا بأنّ الشخص الذي يقف في مقابلك ويتحدّث معك فإنّ قلبه وفكره في محلّ آخر فماذا يكون حالك؟ لا ينبغي أن يكون ظاهرنا وبدننا متوجّها نحو القبلة ولكن قلبنا غير متوجّه نحو الله‌ ونفكر في أمور أخرى.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «أَمَا يَخَافُ الّذي يُحَوِّلُ وَجهَهُ فِي الصَّلاةِ أَنْ يُحوِّلَ الله‌ وَجهَهُ وَجهَ حِمارٍ»[1]، فمثل هذا الشخص الذي يفكّر في


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 81، ص 211.

صلاته بالأمور الدنيويّة وينشغل قلبه بمتاع الدنيا وزخارفها عليه أن يخاف أن يبدّل الله‌ وجهه وجه حمار. يجب علينا التأمّل والدقّة في هذه الرواية الشريفة ونستخلص منها نقاط مهمّة، فلماذا عبّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّ مثل هذا الشخص ربّما قيافته وملامحه على شكل الحمار، ربّما يكون المعنى أنّ الشخص الذي يتوجّه نحو الله‌ ببدنه ولكن قلبه وفكره يعيش في مكان آخر، فإنّ أحد آثار هذه الحالة أنّ الله‌ تبارك وتعالى سيقلل من عقله إلى درجة أنّه يكون في قلّة العقل كالحمار، ومن البعيد جدّا أن يكون مقصود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّ الله‌ تعالى يحوّل وجهه الظاهري والبدني لهذا الشخص إلى وجه حمار بالمعنى الظاهري، بل يقول إنّ الصورة الباطنيّة لهذا الشخص يكون حالها حال الصورة الباطنيّة للحمار، لأنّ الحمار يعدّ من بين الحيوانات أقلّها عقلاً وذكاءً، وطبعا ثمّة احتمال آخر في مورد هذه الرواية، وهو أنّ هذه الحقيقة المذكورة في هذا الحديث تتعلّق بالشخص الذي يحوّل وجهه في صلاته من هذه الجهة إلى تلك باستمرار، ولكن الاحتمال الصحيح هو الاحتمال السابق.

إذن لابدّ أن نلتفت إلى أننا عندما نقف للصّلاة، فكما أننا نستقبل القبلة بأبداننا فينبغي أن نفكر بعظمة الله‌ تبارك وتعالى ونعيش أجواء الخضوع والخشوع القلبي لله‌، وذلك بأن يكون قلبنا أيضا متوجّها للكعبة ويرى البيت المعمور وعرش الله‌ تعالى لتكون صلاتنا مفعمة بالروح المعنويّة والملكوتيّة إن شاء الله.


76ـ خصوصيّات الكعبة


بسم الله الرحمن الرحيم

قلنا إنّ التوجّه للكعبة المشرّفة باستقبال القبلة لا يختصّ بحال الصّلاة، بل هو وارد في الكثير من الأمور المعنويّة والدينويّة، سواءً كان بنحو الالزام والوجوب، أم بنحو الاستحباب والندب، وسبق أن استعرضنا رواية تقرّر أنّ استقبال القبلة يوجب للإنسان الشعور بالأمن، قد وردت نقطة أخرى في الروايات أيضا، وهي أنّ الكعبة: «أَوَّلَ رَحمَةٍ وُضِعَتْ عَلَى وَجهِ الأَرضِ فَجَعَلَهُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمنا»[1]، ولذلك ورد استحباب الصيام في يوم دحو الأرض وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، وثواب الصوم فيه بمقدار سبعين سنة من الصيام، ودحو الأرض هو اليوم الذي ظهرت فيه الكعبة في حادثة الطوفان، يعني ذلك القسم من الأرض الذي خرج من سطح الماء ثمّ بدأ بالتوسع والامتداد، وهذه الخصوصيّات للكعبة تلفت أنظارنا أكثر إلى عظمة الكعبة، وقد ورد في رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام، وذلك عندما ينسب الله‌ تعالى الكعبة إلى نفسه ويقول: «بيتي»،


1. الكافي، ج 4، ص 149.

وهذا الانتساب يعكس عظمة هذا المكان الشريف وجلالة قدره.

والإنسان من بين جميع الموجودات يفكر بأنّ الله‌ تعالى قال في حقّه: «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي...»[1]، فجميع ما لدى الإنسان من سمّو وعظمة وكرامة بسبب هذه النسبة الإلهيّة أي بسبب نفخ الروح الإلهي في هذا الإنسان وبذلك ينتسب إلى الحقّ تبارك وتعالى ويملك من هذه الجهة صلاحية ولياقة الخلافة الإلهيّة، وهذه النسبة لا نجدها في غير الإنسان من الجمادات سوى في الكعبة حيث نسبها الله‌ تعالى إلى نفسه وقال: «بيتي».

ونحن عندما نقف مستقبلين هذا البيت الحرام فنجد أنفسنا متوجّهين في مسار آخر يختلف عن المسارات الدينويّة في العالم، فنحن نقف حينها أمام عظمة الباري تعالى ونتوجّه إلى بيته الحرام، يجب أن نلتفت إلى أنّ هذه الحالة من شأنها أن تقرب الإنسان أكثر من الباري تعالى وتهييء نفسه لمناجاته ودعائه.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية[2]: «إِذَا إِستَقبَلتَ القِبلَةَ فَآيس مِنَ الدُّنيا وَمَا فِيها وَالخَلَقَ وَمَا هُمْ فِيهِ»، وكلّ هذه العظمة والمعطيات الجليلة في استقبال القبلة ليست فقط لأنّ الإنسان يتوجّه بوجهه وبدنه نحو الكعبة، بل بسبب رعاية شروطها ومقدّماتها، وأحد هذه الشروط أنّ الإنسان عندما يتوجّه إلى القبلة يعيش حالة اليأس من الدنيا ولا يعتبر للدنيا أية قيمة ويعرض عن الخلق وما هم فيه من مشاغل الدنيا، «وَاستَفرِغْ قَلْبَكَ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشغُلُكَ عَنِ الله‌ تَعالى»، سواءً كان الشغل الجاه والمقام أو المال والعمل والكسب حتّى ذلك الاشتغال القلبي للعلم والبحوث العلميّة، فيجب على الإنسان عندما يقف مستقبلاً القبلة أن يكون


1. سورة الحِجْر، الآية 29.

2. مصباح الشريعة، الباب 13.

قلبه خاليا من جميع هذه الأمور ومتجّها نحو الباري تعالى ومستشعرا عظمته وكبرياءه.

«وَعَاينْ بِسِرِّكَ عَظَمةَ الله‌ تَعالى»، فعندما يعيش الإنسان حال اليأس عن الدنيا والخلق ويبعد نفسه عن كلّ ما سوى الله‌ تعالى فإنّه سيشاهد بهذا الباطن والسرّ عظمة الباري تعالى ويستشعر الخضوع والخشوع وهو يقف هذا الموقف، وهنيئا للأشخاص الذين يعيشون هذه الحالة في وجودهم ويشاهدون عظمة الله‌ في عين بصيرتهم وقلوبهم، فالغاية من استقبال القبلة والتوجّه إليها في الصّلاة، أن يطهّر الإنسان قلبه من التلوّثات والوساوس ويزيح عن قلبه الموانع التي يعيقه في مسيرته المعنوية نحو الله‌ تعالى فيشاهد العظمة والطهر والصفاء في ساحة القدس الربوبي والذات المقدّسة.

ومعنى استقبال القبلة في التوجّه إلى الكعبة أنّ الإنسان يجمع جميع أموره ويلقيها بعيدا، وبالتالي يشاهد عظمة الباري تعالى في باطنه وقلبه، والتوجّه نحو القبلة يذكّر الإنسان يوم القيامة هو ذلك اليوم الذي يجب أن نقف فيه جميعا أمام الله‌ تعالى للحساب في محكمة العدل الإلهي، ومثل هذا التوجّه القلبي يورث الإنسان حالات معنويّة رائعة جدّا، نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا مثل هذه الحالات إن شاء الله.


خلاصة أسرار القبلة


ألف) يستفاد من الروايات أنّ من اللازم أو المناسب في الإتيان بالأمور المهمّة أن يستقبل المؤمن القبلة، مثل الزراعة وذبح القربان وكذلك لغرض استجابة الدعاء ودفن الميّت، وعلى هذا الأساس فالتوجّه للكعبة واستقبال القبلة لا يختصّ بالصّلاة.

ب) إنّ الكعبة هي اُمّ القُرى ومركز بسط الأرض ودحوها، وبحسب بعض الروايات أنّ الكعبة تقع وسط الأرض وأنّها وجه الله‌ في الارض لأهلها.

ج) بما أنّ الكعبة محلّ الأمن، فالوقوف باتجاه الكعبة منح الإنسان حالة من الأمن الروحي والمعنوي.

د) التوجّه نحو الكعبة يعني اعراض الإنسان ظاهر بدنه عن جميع الجهات ويتوجّه نحو الله‌ وبيته الكريم.

هـ) مع التوجّه نحو الكعبة فإنّ ظاهر وباطن الإنسان يتحدان في هذا الاتجاه، أي في التوجّه نحو الله.

و) وبالتوجّه الظاهري نحو الكعبة فإنّ قلب الإنسان يجب أن يتوجّه نحو البيت المعمور وعرش الله.

ز) الكعبة أوّل رحمة نزلت من الله‌ تعالى إلى أهل الأرض، وأوّل تجلي من تجليات الحقّ تعالى على الأرض.

ح) إنّ استقبال القبلة والتوجّه نحو الكعبة يذكر الإنسان بوقوفه أمام الله‌ عزّ وجلّ يوم القيامة، وعليه يجب أن يغض الإنسان نظره عن الدنيا وما فيها ويعرض عن الناس وما هم فيه.


الباب الخامس: أسرار الأذان والإقامة



77ـ أسرار الأذان والإقامة


بسم الله الرحمن الرحيم

وأحد المسائل التي ينبغي الالتفات إليها والاهتمام بها فيما يتّصل بالصّلاة وأسرارها، مسألة الأذان والإقامة قبل الصّلاة، ولعلّ يمكن القول إنّ الأسرار الموجودة في الأذان والإقامة تعدّ مقدّمة لفهم ودرك أسرار وحقائق الصّلاة، ومن أجل أن يصل الإنسان إلى حقيقة الصّلاة فإنّ الأذان والإقامة بمثابة التمهيد لهذا المصلّي، للوصول إلى تلك الحقيقة، وهذه من خصوصيّات عبادة المسلمين ولم تكن في الاُمم السابقة والأديان الأخرى، طبعا فإنّ أصل الصّلاة كانت موجودة في الأديان السابقة، ولكن مسألة الأذان والإقامة تعدّ من اختصاصات ومميزات هذا الدين الحنيف وقد جعلها الله‌ تعالى امتيازا لاُمّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله.

وثمّة عدّة أمور تبحث في مسألة الأذان والإقامة، أوّلاً ما ورد في الروايات الشريفة من البركات والمثوبات الكثيرة والعديدة للأذان والإقامة، بحيث تلفت نظر الإنسان أكثر إلى حقيقة هذا العمل، فسبق أن ذكرنا أنّ فقهاءنا فيما يتّصل بالأذان والإقامة ليس فقط يقولون برجحانهما واستحبابهما، بل ذهبوا إلى أنّه

الأذان والإقامة من المستحبّات المؤكدة، بل إنّ بعض الفقهاء القدماء قالوا بوجوبهما في جميع الصّلاة، والبعض ذهب إلى وجوبهما في خصوص صلاة الصّبح والمغرب، وبعض آخر في خصوص صلاة الجماعة، وعلى أيّة حال فمن الناحية الفقهيّة فإنّ الأذان والإقامة وردا مورد اهتمام كبير جدّا بحيث إنّ الصّلاة لا ينبغي أن تقام بدون أذان وإقامة، أي أنّ الصّلاة بدون أذان وإقامة لا يمكن أن تكون صلاة كاملة، وعلى هذا الأساس ينبغي للمصلّين الأعزاء الاهتمام بهذه المسألة ورعاية الأذان والإقامة قبل الصّلاة.

جاء في رواية بلال أنّه قال: «سَمِعتُ رَسُولَ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يَقُولُ: مَنْ أَذَّنَ عَشْرَ سِنينَ أَسكَنَهُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ إِبراهِيمَ الخَليلِ فِي قُبَّتِهِ أَو فِي دَرَجَتِهِ»[1]،

وقد ذكر علماؤنا أنّ هذه الروايات تتجاوز حدّ الخبر الواحد وفوق حدّ الاستفاضة وتقرب من التواتر، قوله عليه‌السلام: «مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلّى صَلّى خَلفَهُ صَفّانِ مِنَ المَلائِكَةِ» .

والنقطة المهمّة هنا، ما ورد في بعض الروايات تبيّن مقدار هذا الصف: «أَقلُّهُ مَا بَينَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَأَكثَرُهُ مَا بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ»، فعندما نرى أنّ الله‌ تبارك وتعالى يهتمّ بالأذان والإقامة بهذه الصورة عندما يقف المصلّي بين يديه، فهذا الأمر يجب أن يدفعنا إلى التفكير في حقيقة الأسرار الخفيّة والكامنة في الأذان والإقامة، وما هي النقاط العجيبة والحقائق الدقيقة المقترنة بالأذان من بدايته إلى نهايته؟ وأساسا ما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي يصل إليها الإنسان بالأذان والإقامة وبأي مرحلة من مراحل العبوديّة يصل هذا المصلّي؟ ونجد الجواب عن هذه الأسئلة عندما يأتي المصلّي بالأذان والإقامة كمقدّمة للصّلاة ويستشعر في


1. تفسير العياشي، ج 2، ص 334؛ بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 81، ص 124.

2. الدعائم، ج 1، ص 146.

نفسه بروح العبوديّة لله‌ تعالى وأنّه يتكامل في مراتب التوحيد، ثمّ يكون مستعدا ولائقا للحضور والوقوف في محضر الحقّ تبارك وتعالى أي الصّلاة، يجد في نفسه الصلاحية والقابليّة إلى أن يرتفع في معراج الملكوت ويبدأ حركته المعنويّة نحو الله‌ تبارك وتعالى.

وبعبارة أخرى أنّ الأذان والإقامة عاملان مهمّان جدّا في حركة الإنسان المعنويّة ومن أجل أن يشرع الإنسان بصلاته بالكيفيّة المطلوبة.


78ـ الأذان: دعوة جميع قوى الملك والملكوت للحضور


بسم الله الرحمن الرحيم

ثمّة أسرار مهمّة جدّا في الأذان والإقامة والتي تتضمّن التكبير والتهليل والشهادة بالرسالة والولاية والدعوة للفلاح والخلاص كذلك ينتهي الأذان والإقامة بالتكبير والتهليل أيضا.

يقول بعض الأكابر من علماء العرفان والأخلاق: إنّ نداء المؤذن يذكّر الإنسان بالنداء في يوم القيامة الكبرى لحضور جميع الخلائق في عرصات المحشر، ويقول المرحوم الملا محسن الفيض الكاشاني في كتابه «الحقائق»: «وإذا سمعت نداءالمؤذن فاحضر في قلبك هول نداء يوم القيامة، وتشمّر بظاهرك وباطنك للمسارعة والإجابة فإنّ المسارعين إلى هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر»، وأساسا فإنّ المرحوم الفيض الكاشاني يلفت النظر إلى مسألة دقيقة في الأذان، وهي أنّ الإنسان إذا أراد أن يرى حاله يوم القيامة وعندما يدعو الباري تبارك وتعالى جميع الناس لحسابه، فكيف يكون حاله واستعداده في ذلك الوقت؟ هل يشعر في ذلك اليوم بالسرور والفرح أو يكون ذلك بالنسبة له

يوم الندم والحسرة؟

يقول: إنّك ترى في هذا العالم الدنيوي هل أنّك تشعر بالسرور والانبساط مع سماعك للأذان أم لا؟ وعندما يبدأ المؤذن بالأذان هل تشعر بالنشاط في قلبك وتحسّ بأنّ قلبك مليء بالغبطة والسرور أم لا سمح الله‌ لا يوجد أي تغيير في قلبك؟ ولو أنّ أحدهم سمع صوت المؤذن وانقبض قلبه لذلك لا سمح الله، وتصوّر أنّ هذا الأذان قد نغص عليه لذّته ووقته، فالويل لمثل هذا الشخص.

ويتابع الفيض الكاشاني قدس‌سره بالقول: إنّ نوعية ردّة الفعل للشخص في هذا العالم بالنسبة لصوت المؤذن تعكس ردّة فعلهم لذلك النداء الإلهي في عرصات المحشر يوم القيامة وهل أنّ استجابته لذلك النداء إيجابيّة أم سلبيّة، ثمّ يشير الكاشاني إلى كلام النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بهذه المناسبة: «أَرحنَا يا بِلالُ»، وأنّ هذه العبارة مرتبة بهذا المعنى ويقول:

«أَرِحنا بِها وَبِالنِّداءِ إِلَيها»، فالمؤذن يدعو المؤمنين إلى مجلس الحضور بين يدي الباري تعالى والحديث معه والمعراج إليه، ولو أخذنا بعين الأعتبار كلامه: «الإنسان يموت على ما يعيش ويحشر على ما يموت ويحصد ما زرعه في أرض قلبه»، فهذا يعني أنّ جميع الحالات التي يعيشها المرء في هذا العالم ويموت عليها فإنّه سوف يحشر بتلك الحالات والنيّات وبتلك الكيفيّات في يوم القيامة ويجد ثمرة ما زرعه في قلبه في حياته الدنيا.

والحال إذا شعر الشخص عند سماعه لنداء المؤذن بحالة من السرور والفرح وأنّه سوف يقدم على خالقه ويحضر في مجلس ملاقاته، وما يترتّب عليه من إفاضات الحقّ تبارك وتعالى عليه في ذلك المجلس، فإذا شعر الإنسان من هذا النداء بحالة من الشوق والرغبة في التحليق في عالم الملكوت وغادر الدنيا بهذه الحالة فسوف يحشر يوم القيامة بهذه الحالات والملكات النورانيّة في نفسه

وسوف تنقذه هذه الحالات والملكات المعنوية من أزمات المحشر وظلمات يوم القيامة.

وثمّة عبارة عميقة للإمام الراحل رضوان الله‌ تعالى عليه: إنّ الأذان هو قوى الملك والملكوت في الإنسان الكبير والصغير للتهيئة والاستعداد للحضور في محضر الحقّ تبارك وتعالى، فليس الأذان مجرّد دعوة الناس إلى المسجد والوقوف للصّلاة، بل هو دعوة لجميع قوى العالم بواسطة الأذان، سواء الإنسان الصغير أم الإنسان الكبير، القوى الملكية أو الملكوتيّة، فالجميع مدعوون للحضور في محضر الحقّ تبارك وتعالى، ومن هذه الجهة يجب علينا الاهتمام الجاد بمسألة الأذان والإقامة.


79ـ سرّ التكبيرات الأربع والشهادة بوحدانيّة الله‌ في الأذان


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول المرحوم الكليني في كتابه «الكافي» في رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام: «لَمَّا أُسرِيَ بِرَسُولِ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إِلى السَّماءِ فَبَلَغَ البَيتَ المَعمُورَ وَحَضَرَتْ الصِّلاةُ فَأَذَّنَ جِبرئيلُ وَأَقَامَ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وَصَفَّ المَلائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ خَلَفَ مُحَمُّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله»[1].

ويتبيّن من قيام جبرئيل الأذان والإقامة لهذه الصّلاة أنّ حقيقة الصّلاة لا تتيسر بدون الأذان والإقامة، ويجب علينا أن نأسف على أنّ الكثير من صلواتنا اُقيمت بدون الأذان والإقامة، ومثل هذه الصّلاة ليست بصلاة كاملة، وهذه الصّلاة لا تستطيع العروج بالإنسان إلى مراتب عالية من حضور القلب، وهذه الصّلاة ليست معراج المؤمن، فالصّلاة بدون الأذان والإقامة صلاة ناقصة جدّا.

وسبق أن ذكرنا عبارة الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه حيث يقول: إنّ الأذان دعوة لجميع قوى العالم، قوى الملك والملكوت للحضور في محضر الحقّ تبارك وتعالى فما هو هذا الأذان؟ في الأذان هناك أربع تكبيرات في مطلع الأذان، وثمّة


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 302.

أسرار وحقائق كامنة في هذه التكبيرات الأربع، وهنا يعلن المصلّي بهذه التكبيرات عن عجز جميع الموجودات في العالم عن القيام بالثناء على الحقّ تعالى وحمده، فالمصلّي يريد أن يقول بهذه التكبيرات أنّ كلّ موجود في العالم لا يستطيع أبدا أن يحمد الله‌ ويثني عليه كما هو حقّه، وعندما تبدأ الصّلاة بهذه التكبيرات في الأذان ويتمّ ذكرها مجددا في الإقامة فهو اعتراف منّا بأنّه لا يوجد أي كائن وأي بشر يقدر على أداء حقّ الله‌ في الحمد والثناء، وعندما تتكرر كلمة «الله‌ أكبر» أربع مرّات، فهذا يعني أنّ الله‌ أكبر من قدرة الشخص على حمده وثنائه، وهذا إعلان للقصور عن قابلية الحضور، والإنسان العاجز يعترف هنا بأنّه غير جدير ولا يملك القابليّة واللياقة على الحضور في محضر الحقّ تبارك وتعالى، وبعد الاعتراف بالعجز بالقصور يستعد لاظهار الخوف والخشية والخضوع، ثمّ يأتي بدور الشهادة بوحدانية الباري تبارك وتعالى ويقول: «أَشهَدُ أَنْ لا إِلهِ اإِلاّ الله»، ويكرر هذه الشهادة مرّتين، ولعلّ ذلك بسبب أنّ الشهادة الاُولى هي شهادة التوحيد على الذات، يعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى لا شريك له في ذاته، والشهادة الثانية هي شهادة التوحيد في الفعل، يعني أنّ كلّ فعل يصدر في هذا العالم هو فعل الله‌ ولا يوجد فاعل غير الله‌ في عالم الوجود، وقد أشار إلى هذه النقطة أيضا بعض الأكابر كالمرحوم الفيض الكاشاني قدس‌سره.

والجدير بالذكر أنّ شروع الأذان بالتكبير وختم الأذان بالتكبير أيضا قد يتضمّن رسالة خاصّة، فماذا يمكن أن نستوحي من ذلك؟ ألا نفهم من ذلك أنّ الإنسان يصل في هذه المرحلة إلى هذه الحقيقة: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»[1]، وكلّ شيء هو لله‌ تعالى، والإنسان عندما يلتفت إلى هذه النقاط في الأذان والإقامة سيفهم الخطوات الكبيرة التي يجب أن


1. سورة الحديد، الآية 3.

يخطوها في خطّ الكمال حتّى يحصل على اللياقة والقابليّة للورود في محضر القدس الإلهي، فلا ينبغي القيام بسرعة ونكبّر تكبيرة الإحرام مباشرة وندخل في الصّلاة، فمثل هذا العمل يشير إلى عدم معرفة قدر هذه العبادة المهمّة واضاعتها، وهذه العبادة يجب الإتيان بها مع مقدّماتها، وتلك المقدمات الرائعة والبديعة جدّا تشير إلى أنّ الله‌ تعالى يمنّ علينا بأن نتذكره ونتعرّف عليه ونتواصل معه، وينبغي أن نختبر أنفسنا في هذا المجال عندما نقوم بقراءة الأذان والإقامة ونرى كيف أنّ هذه الصّلاة قد أحدثت تحوّلاً كبيرا في حياتنا.


80ـ ثواب الأذان


بسم الله الرحمن الرحيم

يجب على الإخوة والأخوات المصلّين أن يلتزموا بالأذان والإقامة في صلاتهم، فالصلاة المقترنة بالأذان والإقامة تختلف كثيرا عن الصّلاة بدون الأذان والإقامة، أضف إلى ذلك أنّ نفس حقيقة وروح الصّلاة تختلف كثيرا وبينهما بون ساشع، ومن الموارد التي ذكرت الروايات الشريفة الثواب الجزيل على فعل عبادي للإنسان هو هذه المسألة، بحيث إنّ علماءنا الكبار سعوا كثيرا في فهم وتسويغ مثل هذا الثواب وتفسيره، وينقل الشيخ الصدوق في كتابه الأمالي المجلس 66 عن الإمام الصادق عليه‌السلام وهذا الإمام ينقل عن آبائه العظام صلوات الله‌ عليهم أجمعين عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «أَلا وَمَنْ أَذَّنَ مُحتَسِبا يُريدُ بِذَلِكَ وَجْهِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ أَعطَاهُ الله‌ ثَوابَ أَربَعِينَ أَلفَ شَهيدٍ وَأَبَعِينَ صِدِّيقٍ وَيَدْخُلُ فِي شَفَعَتِهِ أَرَبعُونَ أَلفَ مُسيء، وَإِنَ المُؤذِّنَ إِذا قَالَ: أَشهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلاَّ الله‌ صَلَّىْ عَلَيهِ تِسعُونَ أَلفَ مَلك وَكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ فِي ظِلِّ العَرشِ حَتَّى يَفرَغُ الله‌ مِنْ حِسابِ الخَلائِق»، وهذا يعني أنّ هذا الشخص يعيش ذلك اليوم سعادة مطلقة وراحة كاملة ويعيش المحو في

جمال الحقّ تعالى والاستغراق في النعيم والرضوان الإلهي، إلى أن يفرغ الله‌ تعالى من حساب الخلائق.

وهنا يطرح سؤال مهم، وهو: كيف يمكن لأذان واحد يستغرق بضع دقائق أن يرتب عليه الباري تعالى هذا المقدار من الثواب العظيم؟

وفي مقام الجواب نلفت النظر إلى نقاط عدّة، أوّلها أنّ الثواب المقرر للإنسان في مقابل عمله لا يقع بإزاء ذلك العمل بل هو فضل من الله‌ ولطفه، ولذلك يمكن أن يعطي الله‌ تعالى ثوابا واحدا على عمل معين، ويعطي لشخص آخر عدّة أضعاف من ذلك الثواب على هذا العمل، لأنّ الملاك في باب الثواب هو الفضل الإلهي وليس الثواب يقدّر بمقدار العمل.

وبالنسبة للعقاب فالأمر يختلف، لأنّه سيكون بمقدار ذنب الإنسان، وهذا هو مقتضى العدالة، في حين أنّ مسألة الثواب ترتبط بفضل الله‌ ورحمته.

النقطة الثانية، إنّ هذا الثواب لا يعطى لأي مؤذن كان بل هو مشروط بقيد «وجه الله» وهو شرط مهمّ جدّا ولا يعلم أنّ كلّ مؤذن سيحقق هذا الشرط بسهولة.

النقطة الثالثة، أنّ رقم ألف ومائة ألف ومليون تختلف في المقدار بالنسبة إلينا، ولكنّها بالنسبة لما عند الله‌ تبارك وتعالى لا تختلف ولا فرق بينها أبدا، فخلق شيء واحد بالنسبة إلى الله‌ تعالى لا يختلف أبدا مع خلق جميع العالم وجميع الكائنات، ويكفي أن يريد الله‌ تعالى إيجاد هذا الشيء أو الأشياء وليس الأمر أنّ خلق هذا العالم أصعب عند الله‌ من خلق جزء صغير من أجزائه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»[1]، فإرادة الحقّ تعالى بالنسبة لجميع أفعاله متساوية،


1. سورة يس، الآية 82.

خلافا لحالنا وما عندنا حيث يختلف الحال بين الواحد والمائة، وعندما ندرك أنّ الله‌ تعالى كذلك ويتّصف بالكرم والجود بهذا الشكل، فهل من الإنصاف وهل يصحّ أن يفقد المصلّي مثل هذا اللطف العناية من الله‌ ويستغرق عمره ولا يؤذن ويقيم مرّة واحدة لصلاته؟!


81ـ سرّ الشهادة بالرسالة والولاية في الأذان


بسم الله الرحمن الرحيم

روى عبدالله‌ بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال لبلال: عندما يحين وقت الصّلاة فاصعد على جدار المسجد وارفع صوتك بالأذن: «فَإِنَّ الله‌ قَدْ وَكّلَ بَالأَذانِ رِيحا تَرفَعُهُ إِلى السَّماء، وَأَنَّ المَلائِكَةَ إِذا سَمِعُوا الأَذانَ مِنْ أَهلِ الأَرضِ قَالُوا هَذِهِ أَصواتُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بِتَوحِيدِ الله‌ عَزَّ وَجلَّ، وَيَستَغفِرُونَ لأُمَّةِ مُحَمَّد صلى‌الله‌عليه‌و‌آله حَتَّىْ يَفرَغُوا مِنْ تِلكَ الصَّلاةِ»[1].

لماذا يجب على المصلّي أن يأتي قبل الصّلاة بالشهادة على رسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في أذانه: يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه: «الشهادة برسالة النبيّ الخاتم هي توسل بالمقام المقدّس للشفيع المطلق والشفاعة المطلقة»، لأنّ الوارد في القرآن الكريم أنّ النبيّ هو الشفيع المطلق، وبهذه الشهادة تحصل للإنسان صحبة مع هذا الرسول الإلهي الذي يتمتع بالولاية المطلقة، وهذا يعني أنّ هذا المصلّي يتحرك في سلوكه المعنوي في معراجه والحديث مع الله‌ تعالى، فهو بهذه


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 307.

الشهادة بالرسالة يجعل نفسه مصاحبا للنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وشهادته على ولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب صلوات لله‌ وسلامه عليه يجعل نفسه مصاحبا لصاحب الولاية المطلقة، فسواءً وفّقنا في الأذان بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام أم لم نوفّق لذلك فإنّ الشهادة برسالة النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله تتضمّن الشهادة على ولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام أيضا، لأنّ رسالة النبيّ لا تكتمل إلاّ بولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

وهنا يستعرض الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في كتابه «آداب الصّلاة» كلاما لاستاذه الكبير المرحوم شاه آبادي رضوان الله‌ عليه ويقول: إنّ شيخنا العارف الكامل روحي فداه يقول: «إنّ الشهادة بولاية ولي الله‌ تتضمّن الشهادة برسالة النبيّ، لأنّ الولاية هي باطن الرسالة»[1]، إذن فالإنسان المصلّي كما يتحرّك في صحبة المقام النبوي فإنّه يصاحب المقام المقدّس العلوي والولوي.

وجاء في بعض الأحاديث الشريفة: «بِعَليٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ»[2]، أو ورد في بعض الروايات في تفسير: «قَدْ قَامَتْ الصّلاةُ»، أنّه «إنَّ بِعَليٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ»، فلو أننا علمنا أنّ الإمام علي عليه‌السلام هو حقيقة القرآن وهو القائل عن نفسه بأنّني القرآن الناطق، فإنّ حقيقة الصّلاة والصوم هي عليّ عليه‌السلام .

نسأل الله‌ تعالى أن ينير قلوبنا بنور ولاية علي بن أبي طالب إن شاء الله.


1. آداب الصّلاة، ص 141.

2. أسرار العبادات وحقيقة الصّلاة، ص 23.


82ـ الصّلاة أفضل الأعمال وأصل الفلاح


بسم الله الرحمن الرحيم

قلنا فيما يتّصل بالأذان والإقامة أنّ المصلّي في التكبيرة الاُولى يعلن عن عجز جميع موجودات العالم عن حمد وثناء الحقّ تبارك وتعالى، فبعد الشهادة بتوحيد الذات والتوحيد بالأفعالي، تصل النوبة في هذا السفر الروحاني إلى الصّلاة وهي معراج المؤمن من خلال الشهادة برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وولاية أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام ويستمد المعونة والمدد من صحبة هذين العظيمين.

فبعد بيان هذه الشهادة يعلن المصلّي استعداده للصّلاة والوقوف بين يدي الله‌ بذكر هذه الفقرة من الأذان: «حَيِّ عَلَى الصَّلاةِ»، التي تدعو الجميع للاسراع في التوجّه إلى الصّلاة، وبعد ذلك يقول المؤذن: «حَيِّ عَلَى الفَلاح» وبذلك يتبيّن السرّ الاجمالي للصّلاة وهو طلب الفلاح والنجاح في الصّلاة والاسراع للحركة في خطّ الفلاح، أحيانا يخطر على ذهن الإنسان وقبل الالتفات إلى معاني هذه الكلمات أنّ الله‌ تعالى لا يحتاج لصلاتي، إذن فلماذا أوجبها عليَّ؟ أمّا قولهم إنّ الصّلاة عبارة عن أداء شكر الله‌ تعالى على نعمائه فهو تعبير ساذج جدّا، إذن

فلماذا التكليف بالصّلاة؟ الحقيقة أنّ هذا الذكر في الأذان يقرّر: إنّ الصّلاة وضعت من أجل الفلاح، والصّلاة شرعت لغرض تحقيق السعادة للإنسان ونيل مرتبة القرب من الله‌ «حَيِّ عَلَى الفَلاح»، «حَيِّ عَلَى خَيرِ العَملِ»، وأفضل عمل يقود الإنسان في سلّم النجاة والكامل المعنوي هو الصّلاة، وينبغي الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّه يستحبّ الدعاء بين الأذان والإقامة وقد ورد التعبير عنه بدعاء «التوجّه»، وأورد الشيخ الكليني رحمه‌الله في المجلد الثاني من كتابه «الكافي» وهو: «اللّهُمَّ إِنَّي أَتَوَجّهُ إِلَيكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ»، وهكذا يتحرّك الإنسان في أذانه بصحبة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهوأميرالمؤمنين عليه‌السلام ويقرأ هذا الدعاء: «اللّهُمَّ إِنَّي أَتَوَجّهُ إِلَيكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ»[1]، ومن هذا الدعاء نفهم أنّ طريق التقرّب والتوجّه إلى الله‌ منحصر بواسطة النبيّ وآله الطاهرين عليهم‌السلام .

الأشخاص الذين لا يريدون فهم حقيقة مذهب الشيعة والمضامين السامية والمفاهيم العالية لهذا المذهب ويتحرّكون في مواجهته من موقع العناد والتعصب هم أشخاص يعيشون حالات الجهل وظلمة القلب، أمّا القلوب الطاهرة فبسبب ما فيها من نورانيّة تفهم أنّ طريق الوصول إلى الله‌ يجب أن يكون بواسطة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهوأله بيته الطاهرين عليهم‌السلام، واليوم نرى أنّ القوى الاستعماريّة أوجدت الوهّابية لغرض محو الدين وهجموا بكلّ قواهم ومكرهم على الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يرون أنّ هذه المفاهيم شرك بالله‌، فيجب أن نسألهم: إذا كنتم تقولون لا ينبغي طرح كلّ ما هو غير الله‌ في الدعاء، فلماذا يجب علينا في الأذان الذي هو مقدّمة لأهم عبادة وهي الصّلاة، أن نشهد برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله؟ إذا قالوا: إنّ الله‌ تعالى أمرنا بذلك، فنقول في جوابهم: إنّ الله‌ أمر أيضا بالشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام .


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 544.

إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وأوصيائه الكرام عليهم‌السلام هم حقائق نورانيّة نستطيع بواسطتهم التوجّه إلى الله‌ تعالى: «اللَّهُمَّ إِنّي أَتَوجّهُ إِلَيكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمِّدٍ وَأُقَدِّمُهُم بَينَ يَدَي صَلاتِي، وَصَلِّ عَلَيهِم فَاجعَلنِي بِهِمْ وَجِيها فِي الدُّنيا وَالآخرَةِ وَمَنَ المُقَرِّبِينَ كَمَا مَنَنْتَ عَلَينا بِمَعرِفَتِهِم».

ومن هنا نرى من المناسب أن يهتمّ المؤمنون والمصلّون الأعزاء بقراءة هذا الدعاء في صلاتهم.


83ـ الأذان يبعد الشّيطان


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «أَذِّن فِي بَيتِكَ فإِنَّهُ يَطرُدِ الشَّيطَانَ».[1]

يستفاد من الروايات الشريفة وكلمات العلماء أنّ مسألة الأذان والإقامة في الصّلاة مهمّة جدّا وكما أشرنا في بحث القبلة أنّ المصلّي عندما يتوجّه نحو الكعبة فإنّه يبتعد ذلك عن الكثير من مصائد الشيطان ويتحرّك في طريق الأمن المعنوي، والأذان له أيضا هذه الخصوصيّة.

وقد ورد في بعض الروايات: «أَذِّن فِي بَيتِكَ فإِنَّهُ يَطرُدِ الشَّيطَانَ»، ولعلّ إحدى الحكم في استحباب الاُذان في اُذن الوليد أنّ الله‌ تبارك وتعالى بهذه الطريقة يبعد الشيطان عن هذا الطفل، وينقل الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في كتابه «سرّ الصّلاة» عن كتاب «علل الشرائع» حديثا مفصّلاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام فيما يخصّ صلاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في المعراج، وأنّه قال عليه‌السلام: «أَنزَلَ الله‌ العَزِيز الجَبّار عَلَيهِ مَحمَلاً مِنْ نُورِ فِيهِ أَربَعُونَ نَوعا مِنْ أَنواعِ النُّورِ، كَانَتْ مُحدِقَةً حَولَ العَرشِ


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 308.

عَرشهُ تَبارَكَ وَتَعالى تَغشَى أَبصَارَ النَّاظِرِينَ، أَمَّا وَاحِدٌ مِنْها فَأَصفَرٌ فَمِنْ أَجِلِ ذَلِكَ اصفَرتْ الصُّفرةُ، وَوَاحِدٌ مِنها أَحمَرٌ فَمِنْ أَجِلِ ذَلِكَ احمَرتْ الحُمرَة»، إلى أنّ جلس النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهعلى محمل من نور: «فَجَلسَ عَلَيهِ ثُمَّ عُرجَ إِلى السَّماءِ الدُّنيا فَنَفَرتِ المَلائِكَةُ إِلى أطرَافِ السَّماءِ، ثُمَّ خَرَّتْ سُجَّدا فَقَالَتْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبِّنا وَرَبِّ المَلائِكَةِ وَالرُّوح مَا أَشبَهَ هَذا النُّورُ بِنُورِ رَبِّنا، فَقَالَ جِبرئِيلُ: الله‌ أَكبَرُ الله‌ أَكبَرُ»، هذا التكرار في الأذان والإقامة تذكرنا بتعدد التكبير الذي يذكره جبرئيل من جراء عظمة حضور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في السماء الدنيا وما ترتّب عليه من سجود الملائكة، فنور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله كان إلى درجة من العظمة بحيث إنّ ملائكة السماء سجدوا وللمرّة الثانية وقال جبرئيل: «الله‌ أَكبَرُ الله‌ أَكبَرُ،، فَسَكَتِ المَلائِكَةُ وَفُتِحَتْ أَبوابُ السَّماءِ وَاجتَمَعتْ المَلائِكَةُ»، فَقالَ: «يامُحَمَّدُ كَيفَ أَخُوكَ إِنْ أَدرَكتَهُ فَأقرأهُ مِنّا السَّلامَ».

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «بِخيرٍ، هَل تَعِرفُونَهُ؟»، فقالوا: «فَقَالَ كَيفَ لَمْ نَعرِفْهُ وَقَدْ أَخَذَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ مِيثاقَك ومِيثَاقَهِ مِنّا»[1].

وبعد أن ينقل الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه هذه الرواية يقول: «ثمّة أسرار وحقائق في هذا الحديث الشريف تقصر يد آمالنا عن الوصول إليها»[2]، وما ندركه بفهمنا القاصر من هذا الحديث لو قمنا بذكره وبيانه لكان حديثا مطولاً ويخرج عن مجال هذه الأوراق، يعني أنّه يقول: إنّ المعاني والمفاهيم التي تتبادر إلى الذهن من هذا الحديث الشريف لا أستطيع بيانها هنا، والمقصود من ذكر البعض منها لاستشهاد لهذه المسألة وهي أنّ ملائكة الله‌ اجتمعت بذكر الإقامة، يعني أنّ المصلّي عندما يؤذن ويقيم فإنّه يقول: إنّ جميع الملائكة تجتمع لذلك، وهذه


1. علل الشرائع، ج 2، ص 312.

2. سرّ الصّلاة معراج السالكين، ص 71.

الملاحظة واردة في الروايات الشريفة.

ومع قول المصلّي للأذان يصطفّ خلفه صفّان من الملائكة، ومع قوله الإقامة يصطفّ صفّ واحد من الملائكة في هذه الصّلاة ويرى المصلّي حضور الملائكة بعين قلبه، فما أحلى هذه الصّلاة التي يوفّق المؤمن للقيام بها!! رزقنا الله‌ بها إن شاء الله.


84ـ الأذان حكاية أذكار الملائكة في المعراج


بسم الله الرحمن الرحيم

أحد الأسئلة التي تثار عادة في أذان أغلب المؤمنين هو: ما هي أسرار فصول ومقاطع الأذان؟ فالمؤذن يتبع بالتكبيرات الأربع، فما هي الخصوصيّة الكامنة في هذا العدد من التكبيرات؟ وبعد التكبير تأتي الشهادة على وحدانيّة الباري تبارك وتعالى وأن لا يوجد معبود سواه، ثمّ الشهادة على الرسالة والولاية في الأذان؟ وقبل استعراض بعض النقاط الواردة في كتب الأكابر من العلماء والعرفاء ربّما يمكن ذكر هذه النقطة، وهي أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عندما ذهب إلى المعراج وحدث ذلك السفر السماوي وتلك الحركة الإلهيّة العظيمة وعاش رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أوج الكرامة الإلهيّة في مساره ومعراجه، فإنّه أوجد في تلك العوالم في عالم الملكوت وبين الموجودات السماويّة والملائكة نشاطا وحيوية وحركات وأذكار، فحركة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لم تكن خافية على ملائكة الله‌ في السموات.

وقد وردت الإشارة في تلك الرواية المعروفة أنّ الملائكة في بعض السماوات تصوّروا أنّ هذا النور هو نور الله‌ تعالى وسجدوا له، ولكن بعد أن نبّههم

جبرئيل وقال لهم إنّ هذا النور هو نور النبيّ الخاتم محمّد بن عبدالله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فهنا انطلقت التكبيرات من الملائكة وقوله: «الله‌ أَكبَرُ الله‌ أَكبَرُ أَشهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله‌ وَأشهَدُ أنّ مُحَمّدا رَسُول الله»، في تلك العوالم وبعبارة أخرى أنّ الأذان يحكي ما ورد في أذكار الملائكة عند معراج رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى السماء، فالأذان يحكي عن تلك الأعمال والأذكار التي قام بها الملائكة في مقام عظمة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله عندما رأوا نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فدهشوا في المرتبة الاُولى بحيث إنّهم تصوّروا أنّ هذا النور هو نور الله‌ تعالى ونور العظمة الإلهيّة والذات المقدّسة، ولعلّهم في السماء الاُولى كبّروا التكبيرة الاُولى، وفي السماء الثانية كبروا التكبيرة الثانية، وفي السماء الثالثة كبّروا التكبيرة الثالثة، وفي السماء الرابعة كبّروا التكبيرة الرابعة، وطبعا هذا مجرّد احتمال نطرحه في المقام وبعض الروايات في الجملة تؤيد هذا المعنى أيضا.

وعلى هذا الأساس فالأذان يحكي عن واقعة مهمّة حديث في الملأ الأعلى يعكس الأذكار التي قالها ملائكة الله‌ في تلك العوالم، وبما أنّ الصّلاة معراح المؤمن، فيجب قبل الصّلاة أن يذكر ويكرر ما قاله الملائكة الإلهيون في تلك الواقعة ليكون مستعدا لهذا العروج الإلهي في عالم الملكوت ويحظى بتقرّب أكثر إلى الله‌ تبارك وتعالى.

النقطة الثانية التي ينبغي ذكرها هنا، أنّ الأذان جامع للتكبير والشهادة على التوحيد والشهادة على الرسالة، والشهادة على الولاية، وهذه نقطة مهمّة جدّا جدّا، وتتضمّن أسرارا كثيرة.


85ـ سرّ التكبيرات الأربعة في الأذان


بسم الله الرحمن الرحيم

ما هي الخصوصيّات الكامنة في التكبيرات الأربع في الأذان؟ إنّ المعنى الإجمالي للتكبير هو أنّ الله‌ أكبر من أن يدركه أو يصفه الإنسان، يقول أميرالمؤمنين صلوات الله‌ وسلامه عليه في رواية في معنى التكبير: إنّ التكبير هو نفي الكيفيّة عن الله‌ تبارك وتعالى أي الكيفيات الماديّة التي تنطلق من أي توصيف يقوم به عقلنا الناقص لله‌ تعالى ويريد بيان كيفية للباري تعالى ومع قوله الله‌ أكبر يتمّ نفي جميع هذه التوصيفات، ويقول إنّ المؤذن عندما يقول أكبر:

«كَأَنَّهُ يَقُولُ الله‌ أَجَلُ مِنْ أَنْ يُدرِكَ الوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ الَّذِي هُوَ مَوصُوفٌ بِهِ وَإِنَّما يَصفُهُ الوَاصفُونَ عَلَى قَدْرِهِمْ لا عَلَى قَدْرِ عَظَمتِهِ وَجَلالِهِ، تَعالَى الله‌ عَنْ أَنْ يُدْرِكَ الوَاصِفُونَ صِفَتَهُ عُلُوّا كَبِيرا»[1]، فالشخص الذي يكبّر الله‌ تعالى ويقول كلمة الله‌ أكبر بلسانه فهذا يعني أنني أقرّ بأنّه لا موجود غير الله‌ تعالى يستحق العظمة والكبرياء، والآن وقد عرفنا المعنى الإجمالي للتكبير يجب أن نعلم ما هي


1. بحار الأنوار، ج 81، ص 131.

الأسرار في تعدد الكبيرات، ولماذا جعلت أربع تكبيرات؟ هنا توجد احتمالات عدّة:

الاحتمال الأوّل: أنّ هذه التكبيرات الأربع، إشارة في كلّ واحدة منها إلى مقام خاصّ، فالتكبير الأوّل هو التكبير عن توصيف الذات الإلهيّة، وأنّ الله‌ تعالى أكبر من يعرفه أي شخص ويصفه كما يليق به، التكبير الثاني من توصف صفات الله، فالله‌ تعالى بعد دائرة الذات أكبر من أن يوصف بأوصاف نستطيع فهمها وبيانها، والتكبير الثالث هو التكبير عن التوصيف في مقام الأسم، فالله‌ أكبر من أن نستطيع أن نذكر له اسم من الأسماء ونعرفه باسمه، والتكبير الرابع هو التكبير عن وصف الله‌ في مقام العمل، وهذا الاحتمال هو ما ذكره الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، وعلى هذا الأساس فإنّ لكلّ واحدة من هذه التكبيرات الأربع مقاما وإشارة إلى بُعد خاصّ، يعني أننا لا نستطيع معرفة الله‌ لا في مقام الذات ولا الصفات ولا في الأسماء ولا في الأفعال.

الاحتمال الثاني: أنّه لا يبعد أن يكون الأذان حكاية وانعكاس عن تلك الواقعة الإلهيّة عند عروج النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى السماوات، يعني عندما عرج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى السماء رآى الملائكة الإلهيين عظمة هذا النبيّ، كبّروا أربع تكبيرات، ونحن بدورنا نكبّر هذه التكبيرات في الأذان حكاية وتقليدا عمّا فعل الملائكة في واقعة المعراج، فالمصلّي عندما يقول في أوّل الأذان أنّه لا أحد يستحق الثناء والحمد سوى الله، وهو ذلك العظيم الذي لا يوجد أكبر منه وهو الله، وذلك الشخص الذي يملك اللياقة للعظمة والكبرياء هو الله‌ تعالى، فإنّ هذا التكبير هو الذكر سيؤثر في روحه وعمله تأثيرا كبيرا.

فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ الأذان مجرّد شعار ظاهري بين المسلمين، فالإنسان عندما يأتي بالأذان فإنّه يلتفت ويعترف بوجود مجموعة من الحقائق الواقعيّة،

وبعد أن يدخل إلى الصّلاة فإنّ صلاته هذه تتضمّن ثناءً جامعا وتسبيحا كبيرا، وأكبر تسبيح وثناء لله‌ تعالى يوجد في الصّلاة وذكر هذه المقدّمات في الأذان يقودنا إلى مثل هذه الصّلاة وأن نقول: إلهنا! لو أننا صلّينا لك مثل هذه الصّلاة طيلة عمرنا فإننا لا نستطيع أن نثني عليك ونحمدك ونسبحك كما تستحق الحمد والتسبيح، وهذا الإقرار والاعتراف في أوّل الأذان يبدأ بهذه التكبيرات الأربع.

يجب علينا الاهتمام الجاد بالأذان، وقبل الدخول إلى الصّلاة يجب أن نلتفت إلى حقائق الأذان، وهذا التوجّه والالتفات يهيى‌ء الإنسان للدخول في الصّلاة والوقوف بين يدي الباري تعالى.


86ـ سرّ التكبيرات الأربعة في كلام الإمام الخميني قدس‌سره


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا بعض الاحتمالات فيما يتعلّق بأسرار التكبيرات الأربع، والاحتمال الثالث هو ما ورد في كلمات الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، وسبق أنّ قلنا إنّ المؤذن في التكبير الأوّل يلتفت إلى كبرياء الذات الإلهيّة المقدّسة ويعلن لجميع قواه الظاهريّة والباطنيّة عظمة الذات المقدّسة وكبرياء الباري تعالى، لأنّ الأذان يعني الإعلان، والمصلّي في التكبيرة الاُولى يعلن عن كبرياء الباري تعالى لجميع أعضاءه وقواه الظاهريّة والباطنيّة.

التكبيرة الثانية، يعلن فيها المصلّي لملائكة الله‌ تعالى الموكّلين على كلّ واحدة من هذه القوى الظاهريّة والباطنيّة، كبرياء وعظمة الباري تعالى.

وفي التكبيرة الثالثة، يعلن المصلّي عظمة وكبرياء الباري تعالى لجميع موجودات العالم الغيبي والشهود، يعني أنّ هذا الإنسان لا يلتفت بعد هذا إلى نفسه والملائكة المحيطين به، بل يتوجّه إلى جميع موجودات العالم المشهودة أو الغيبيّة، ويعلن لها كبرياء الحقّ تبارك وتعالى في عالم الغيب والشهود.

وفي التكبيرة الرابعة، يعني عن عظمة الحقّ تعالى للملائكة الموكلّين بالسماوات والأرض، والنتيجة التي يستوحيها الإمام الراحل قدس‌سره من هذا الفهم العرفاني اللطيف هو أنّ الشخص المؤذن بهذه التكبيرات الأربع يعلن لجميع سكان عالم الغيب والشهود وجميع الموجودات في عوالم الحضور عظمة وكبرياء الحقّ تبارك وتعالى[1].

والآن ربّما يطرح هذا السؤال: ما هو الغرض من هذا الإعلان؟ ولماذا يعلن الشخص المؤذن لأعضائه الباطنيّة والظاهريّة من اليد والقدم والعين والاُذن عظمة الله‌ تعالى وكبريائه؟ لماذا يعلن هذه العظمة الإلهيّة للملائكة الموكّلين به؟ ولماذا يلعن هذه الحقيقة لجميع موجودات العوالم الأخرى؟

في مقام الجواب ينبغي القول إنّ الغرض من ذلك أمران:

الأمر الأوّل: أنّ الإنسان عندما يعلن عظمة الله‌ وكبريائه لجميع موجودات العالم فإنّ نفس هذا الإعلان يعني العجز والقصور من جانبه وكذلك من جانب جميع الموجودات، أي العجز والقصور أن يستطيع أحد من هذه الكائنات عبادة لله‌ وثناءه وحمده كما هو حقّه، الإنسان بهذه التكبيرات، في ذات الوقت الذي يعلن عن كبرياء الباري تعالى، فهو يقرّ بعجز وقصور جميع موجودات العالم، وهذا يعني أيّها الإنسان وأيّها الملائكة وأيّتها الموجودات في عالم الغيب والشهود إنّ الله‌ تعالى إلى درجة من العظمة والكبرياء بحيث لا نستطيع نحن من معرفته ولا نستطيع عبادته كما يستحقه وكما يليق بشأنه.

الأمر الثاني: إنّ الإنسان ومن خلال الأذان يجب عليه ادخال هذه المعارف والحقائق إلى قلبه، يجب أن يدرك قلب الإنسان عظمة الباري تبارك وتعالى ويصدّق بكبرياء الحقّ تبارك وتعالى، ويجب على الإنسان أن يحصر هذه العظمة


1. آداب الصّلاة، ص 125.

والكبرياء بالله‌ تعالى، وانحصار العظمة والكبرياء بالله‌ يعني أنّه لا كبير ولا عظيم سوى الله‌ تعالى ولا يوجد أي عظيم سواه، فلو أنّ الإنسان كان يعتقد بقلبه بوجود عظيم غير الله‌ «وطبعا لا تكون هذه العظمة مقتبسة من الله‌ تعالى، لأننا نعتقد أنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وبما أنّه نور من أنوار تبارك وتعالى كبير وعظيم أيضا، وهكذا أميرالمؤمنين عليه‌السلام والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام » ولو أنّ الإنسان اعتقد باستقلال والعظمة لشخص آخر، فهذا يعني أنّه عندما يقول الله‌ أكبر فإنّه يكذب في هذا القول، وأنّه لا يقبل كبرياء الله‌ تعالى، لأنّ كبرياء الله‌ وعظمته تعني أنّ الإنسان لا يعتقد بوجود موجود له العظمة والكبرياء سوى الله، فما أعمق وأعظم هذا المعنى وهذا المقام، فلو أنّ الإنسان آمن واقعا بأنّ العظمة والكبرياء تتعلّق بالباري تعالى فقط، وأنّ غير الله‌ لا يستحق أن يرتدي لباس الكبرياء والعظمة ولا يليق هذا الشأن وهذا المقام بما دون الله، فالوصول إلى هذا المقام من شأنه أن يثير في الإنسان حالة من البهجة والسرور ويوصله إلى مقامات عليا في خطّ السلوك الإلهي والكمال المعنوي.


87ـ التكرار يوجب التصديق القلبي


بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتمال الرابع، في مجال تكرار التكبير في أوّل الأذان، إنّ الإنسان ومن خلال التكرار يرسخ هذا المفهوم والمضمون في قلبه ويعمل على تثبيته في واقعه النفساني.

إنّ التكرار في التكبيرات يتسبّب في أنّ حقيقة هذا التكبير تتجلّى وتتحقّق في قلب الإنسان، فإذا آمن قلب الإنسان بحقيقة «الله‌ أكبر» واعتقد واقعا بأنّ الكبرياء والعظمة لله‌ تعالى فقط وأنّ كلّ ما سوى الله‌ من جميع الكائنات ليس لها نور إلاّ ما ينعكس عليها من نور الله‌ ولا يرى أي عظمة لغير الله‌ تعالى، ومن هذه الجهة فالإنسان المؤمن لا يشعر بأي خوف وخشية من حكّام الجور وقوى الظلم والضلالة، وهذا ما نراه في صفحات القلب من مواجهة علماء الدين العظام مع أشقى الملوك وسلاطين الجور في التاريخ ولم يكن هؤلاء العلماء المصلحون يشعرون بأي خوف من هؤلاء الظلمة، والسبب في ذلك أنّ هؤلاء العلماء لم يكونوا يرون في الحكّام الظالمين أي عظمة وجلالة قدر، بل كانوا يرون أنّ

الكبرياء والعظمة منحصرة بالله‌ تعالى فقط، والإنسان الذي يعيش مثل هذا الاعتقاد ويرى أنّ الكبرياء والعظمة منحصرة بالله‌ تعالى فإنّه سيتحرّك في حياته في طريق الإيمان والطاعة لله‌ وتحقيق رضا الله، ولو أنّ شخصا لا سمح الله، في أي أمر من أمور الحياة رجّح رضا المخلوق على رضا الخالق، فهذا يعني أنّه يرى أنّ ذلك المخلوق أكبر من الله‌ تعالى، وأساسا الأشخاص الذين لا تؤثر فيهم كلمة «الله‌ أكبر» ولا تؤثر في أفكارهم وسلوكياتهم هم الأشخاص الذين لم تترسخ كلمة «الله‌ أكبر» في قلوبهم، وأنّ قلوبهم لم تؤمن بعظمة الله‌ وكبريائه، فتكرار «الله‌ أكبر» في الأذان ينتج أننا نعتقد في قلوبنا بعظمة الباري تبارك وتعالى وكبريائه، وهذا الأمر ليس فقط يحتاج إلى تكرار بل يحتاج إلى رياضات كثرة لتعميق هذا الشعور في واقع الإنسان وقلبه، ولا يستطيع أي شخص أن يدعي بأنّه في يوم واحد أو يومين أو شهر واحد أو سنة واحدة أو عدّة سنوات أنّ قلبه آمن بعظمة الله‌ تماما وبشكل كامل.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «إِذَا كَبَّرْتَ فاَستَصغِرْ مَا بَينَ العُلَى والثَّرى دُونَ كِبرِيائِهِ»، وعندما تدرك كبرياء الله‌ وعظمته فيجب أن تستصغر ما دونه.

«فَإِنَّ الله‌ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى قَلْبِ العَبْدِ وَهُوَ يُكَبِّرُ وَفَي قَلبِهِ عَارِضٌ عَنْ حَقِيقَةِ تَكْبِيرِهِ قَالَ: يا كَاذِبُ»، وهذا التعبير مثير جدّا ويعني أنّ في قلب هذا الإنسان أمورا أخرى أكبر من الباري تعالى كالمال والمقام والشهرة والجاه والاقتراب من أصحاب المقام والمنصب، وهنا يأتي الخطاب الإلهي لهذا الشخص:

«َتَخْدَعَنِي وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَحرِمَنَّكَ حَلاوَةَ ذِكرِي وَلأَحجِبَنَّكَ عَنْ قُرْبِي وَالمُسَارَّةَ بِمُناجَاتِي»[1].


1. مستدرك الوسائل، كتاب الصّلاة أبواب أفعال الصّلاة، الباب 2، ح 9.

وثمّة بعض الأشخاص يسألون: لماذا لا نجد حلاوة في صلاتنا؟ لماذا لا نتذوق حلاوة ذكر الله؟ والجواب: أنّ السبب في ذلك أننا نعتقد بعظمة غير الله‌ ولا نحصر العظمة والكبرياء بالله‌ تعالى، ولكنّ الشخص الذي يعلم أنّ الكبرياء والعظمة منحصرة بالله‌ فقط ثمّ يرى أنّ الله‌ تعالى قد وفّقه لعبادته وفتح له باب المناجاة معه وأنّه يقف للعبادة في مقابله، فكيف لا تكون مثل هذه العبادة ومثل هذا الذكر حلوا وجليلاً وشيّقا عنده؟

يجب أن نرى الأسرار الكامنة في كلمة «الله‌ أكبر»، وعندما نقول في الأذان «الله‌ أكبر» فعلينا أن نرسخ مضمون هذه الكلمة في قلوبنا ولا نرى أي كبير وعظيم سوى الله‌ تعالى، وجميع قوى العالم وسلطة الحكّام والملوك تعتبر صفرا في مقابل قدرة الله‌ تعالى، يجب أن نعتبر جميع الوسائل والأدوات والقوى الموجودة في عالمنا صفرا في مقابل تدبير وقدرة الله‌ تعالى، والعظمة والكبرياء مختصّة بالباري تعالى ولابدّ من ترسيخ وتثبيت هذه الحقيقة الحاسمة في قلوبنا وأعماق نفوسنا.


88ـ أسرار الشهادة بالتوحيد
المرتبة الاُولى والثانية: الشهادة اللفظيّة والعمليّة


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن تبيّن المقصود من التكبير ووجه تكرار التكبيرات الأربع، يجب أن نفهم المقصود من الشهادة في التوحيد وماذا تعني كلمة لا إله إلاّ الله؟ بداية يجب أن نعلم أنّ الشهادة لها مراتب، وأحد هذه المراتب الشهادة اللسانيّة القوليّة، بأن يتشهد الإنسان بلسانه ويقول إنّه لا يوجد معبود آخر سوى الله‌ تعالى، وهذه هي المرتبة الضعيفة والدانية من مراتب الشهادة.

المرتبة الثانية، الشهادة العمليّة، والمقصود من الشهادة العلميّة أنّ الإنسان في مقام العمل ومن خلال عمله وسلوكه يثبت أنّه لا مؤثّر في الوجود غير الله‌ تبارك وتعالى.

إذا تحرّكنا في حياتنا من موقع مدح شخص معيّن والثناء عليه لا بوصفه يملك صفات إلهيّة وإنسانيّة، بل بسبب امتلاكه للسلطة أو الثروة أو المقام والمنصب، فإنّ هذا العمل يعني أننا نعتقد في مقام العمل بوجود معبود آخر غير الله‌ تعالى،

وكلمة «إله» في جملة «لا إله إلاّ الله» تتضمّن عدّة احتمالات، وأحد هذه الاحتمالات أنّ هذه الكلمة مقتبسة من «أله في الشيء» يعني «تحيّر في الشيء»، أو ربّما تكون مشتقّة من إله يلوه بمعنى احتجب، أي اختفى خلف الستار، والاحتمال الثالث في هذه الكلمة بمعنى عبد، ومألوه يعني معبود، وعلى أيّة حال فمقام الاُلوهية مختص بالله‌ تعالى ويجب على الإنسان أن يعتقد بهذه الالوهيّة في مقام الذات وكذلك في مقام الفعل، والالوهيّة في مقام الفعل والعمل تعني أنّ الإنسان بعمله يؤكّد هذه الحقيقة وهو أنّه لا مؤثّر في هذا العالم غير الله‌ تعالى، وكلّ شيء بيد الله‌ تبارك وتعالى، فشفاء المرضى بيده، والغنى والثروة بيده، والعزّ والكرامة بيده، وإذا أراد شخص من خلال الاعتماد على شخص آخر مثله ورام تحقيق العزّة لنفسه من خلال ذلك الشخص، فهذا يعني أنّه لا يرى الله‌ مؤثّرا فقط في أمور هذا العالم، بل يرى الآخرين أيضا مؤثّرين في عالم الوجود.

يجب على الإنسان أن يمدّ الحاجة فقط إلى الله‌ تبارك وتعالى، ويطلب منه كلّ شيء يحتاج إليه ولا يطمع بغيره ولا يرجو غيره ولا ينبغي أن يضع أمله في غير الله‌ تعالى، ويظهر فقره وعجزه واحتياجه في مقابل الله‌ تعالى فقط لا في مقابل الآخرين، وهذا العمل يعني أنّ هذا الشخص يشهد بعمله أن «لا إله إلاّ الله»، وهكذا ترون أنّ هذه الشهادة العمليّة أعمق وأوسع بكثير من تلك الشهادة اللفظيّة.

وعندما نقول بألستنا في الأذان: «أشهد لا إله إلاّ الله» يجب علينا أن نجسد هذه الشهادة في عملنا وسلوكنا على امتداد حياتنا وطيلة سنوات عمرنا، فالأذان ليس فقط مقدّمة للصّلاة، بل يجب أن نرى ما هو تأثير الأذان في حياتنا؟

وهكذا ترون أنّ هذه العبادة من شأنها أن تكون مرشدا لنا حتّى للحصول على السلطة والإمكانات الماديّة ونيل عظمة وعزّة الدنيا والآخرة، فالأذان يقول لنا إنّ

الطريق لكلّ ذلك هو الله‌ فقط، ولو أنّ أحدا رجى غير الله‌ في تحصيل هذه الأمور فإنّه سلك الطريق الخطأ وسوف لا يحصل على مبتغاه ولا يحقق أمله أبدا، يجب علينا مضافا إلى الشهادة باللسان أن نعتقد على مستوى العمل والطبيق أنّ المؤثّر فقط هو الله، وأنّ كلّ شيء في هذا العالم بيد القدرة الإلهيّة، ويجب أن نحقّق الشهادة العمليّة على أنّه «لا إله إلاّ الله»، نسأل الله‌ تعالى أن تكون خاتمة حياتنا وأمرنا جميعا تحقيق الشهادة اللفظيّة والعمليّة بـ «لا إله إلاّ الله» إن شاء الله.


89ـ أسرار الشهادة بالتوحيد
المرتبة الثالثة والرابعة: الشهادة القلبيّة والذاتيّة


بسم الله الرحمن الرحيم

المرتبة الثالثة من الشهادة، الشهادة القلبيّة، يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه[1]: إنّ الشهادة القلبيّة هي منبع الشهادة العلميّة والقوليّة، فالقلب يجب أن يحقّق في سرّه الباطني، التوحيد الفعلي وبذلك تحيط الشهادة بالتوحيد بقلب الإنسان ويتجلّى التوحيد الفعلي في القلب، وهذا التعبير ورد في الروايات الشريفة: «القَلْبُ حَرَمُ الله‌ فَلا تُسكِنْ حَرَمَ للهِ غَيْرَ الله»[2]، وهكذا يكون التوحيد الفعلي مركوز ومتحقّق في قلب الإنسان ومحيط به.

إذن ففي باب الشهادة لا ينبغي القناعة بالشهادة اللفظيّة والشهادة العمليّة، فإنّ أصل وجذر الشهادة القوليّة والعمليّة، هو أن يعتقد الإنسان بالتوحيد في أعماق قلبه وينقطع عن غيره من الموجودات، يقول الإمام الراحل رضوان الله‌ تعالى


1. آداب الصّلاة، ص 132.

2. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 67، ص 25.

عليه: إنّ عمّدة الأخبار الواصلة إلينا من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام والتي تقرر لزوم ترك الطمع ممّا في أيدي الناس واليأس من عباد الله‌ والثقة والاطمئنان والاعتماد على الله‌ تبارك وتعالى تتعلّق بهذه المرتبة من الشهادة القلبيّة، والآن إذا شعر الشخص بالحاجة إلى الآخرين، أو بسبب حالة الخجل وبعض الملاحظات أظهر اهتمامه بالآخرين ولكنّه لم يكن كذلك في قلبه فإنّه ليس مشمولاً لهذه الروايات، لأنّه يجب النظر إلى القلب والنفس والباطن أن لا تكون له أي ارتباط والتفات إلى الآخرين.

وينقل الشيخ الكليني رحمه‌الله في كتابه «أصول الكافي»[1]، «باب الإيمان والكفر» روايات عدّة تحت عنوان «الاستغناء عن الناس» ونوصي الجميع أن يقرأوا هذه الروايات ويعلموا معنى عدم الحاجة إلى الناس وأن يكون الإنسان محتاجا فقط وفقط إلى الله‌ تعالى.

يقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام: «رَأَيْتُ الخَيرَ كُلَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِي قَطعِ الطَّمَعِ عَمّا فِي أَيدِي النَّاسِ»، فما هي خلاصة جميع أشكال الخير، وما هو العامل والباعث على سوق الإنسان باتجاه هذه الخيرات؟ يجيب الإمام زين العابدين عليه‌السلام: إنّه قطع الطمع عمّا في أيدي الناس، وعندما يقطع الإنسان حالة الطمع ممّا في أيدي الآخرين فسوف يصل إلى جميع أنواع الخير والصّلاح، وهذا تعبير عجيب جدّا «رَأَيْتُ الخَيرَ كُلَّهُ...»، يعني أنّ الإنسان إذا أراد تحصيل الخير كلّه فالطريق لذلك يتمثّل في قطع الطمع بما في أيدي الناس، فلو أنّك رأيت الآخر يملك دارا واسعة ومقاما وثروة كبيرة، وشهرة وجاها عريضا، أو جمالاً أو أي شيء آخر، فلا ينبغي أن تهتمّ لذلك ويخطر في ذهنك التمني لنفسك مثلها وتقول: ليت لي أن أملك مثل هذا المقام أو الثروة أو حتى العلم والمعرفة، فلو أردت العلم فيجب أن تطلبه من الله‌ تعالى.


1. الكافي، ج 3، ص 218.

«وَمَنْ لَمْ يَرْجُ النَّاسَ فِي شيءٍ وَردَّ أَمْرَهُ إِلى الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَمُورِهِ»، ويقول دائما: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله‌ إِنَّ الله‌ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»[1]، فلو شعرت بأنّك مريض والآخر سالم، فلا تتحسّر على سلامة ذلك الشخص بل اطلب السلامة من الله‌ تعالى.

ويتابع الإمام زين العابدين عليه‌السلام كلامه ويستعرض الأثر العجيب لهذا الحالة ويقول: «استَجابَ الله‌ تَعالى لَهُ فِي كُلِّ شَيءٍ»، وهكذا يكون هذا الإنسان مستجاب الدعوة وكلّ ما يطلبه من الله‌ تعالى فإنّه يستجيب له، لماذا لا تستجاب لنا الكثير من الأدعية؟ لأنّ هذا الإنسان ينادي الله‌ تعالى ويقول إلهي إلهي... ولكنّ قلبه متعلّق بغير الله‌ ويرجو أن يتحرّك شخص آخر لمساعدته والأخذ بيده وانقاذه، أو يمنحه اعتبارا ومالاً، ما أشقى الإنسان الذي يريد الاستفادة من الاعتبارات الظاهريّة للآخرين من أجل تحصيل متاع دنيوي موقت ويجعل نفسه محتاجا للآخرين ويرى أنّ المقام والمنصب والثروة أمورا مهمّة في حركة الحياة وهي التي تحلّ مشاكله.

إذا أراد الإنسان العزّة المكانة والاعتبار في هذه الحياة يجب أن يطلبها من الله‌ تعالى فقط «فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعا»[2]، ومعنى هذه الآية ليس أنّ العزّة فقط لله‌ تعالى، بل كلّ الشيء من قبيل السلامة والصحّة والاعتبار والمقام والعلم والسلطة و... بيد الله، فنحن في الأذان يجب أن نشهد بقلبنا «أشهد أن لا إله إلاّ الله»، فلو كنّا نعيش في حياتنا مع هذه الشهادة في قلبنا كلّ يوم وتجذرت هذه الحقيقة في أعماق قلوبنا، فسوف يتحرّك لساننا عند الموت بكلّ سهولة في التلفظ بهذه الشهادة، أمّا ذلك الشخص الذي لم تنفذ شهادة لا إله إلاّ الله‌ في قلبه ولم تستقر في


1. سورة غافر، الآية 44.

2. سورة النساء، الآية 139.

أعماق روحه فإنّه لا يستطيع عند الاحتضار أن يشهد بلا إله إلاّ الله‌ حتّى لو كان يذكرها كثيرا بلسانه، يجب أن نحقّق هذه الشهادة في قلوبنا ونعيش مع مضمونها في نفوسنا.

المرتبة الرابعة، الشهادة الذاتيّة، بأن تشهد جميع موجودات العالم في ذواتهم بأن لا إله إلاّ الله‌ وطبقا للآية 18 من سورة آل عمران: (شَهِدَ الله‌ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ...»، هذه هي الشهادة الذاتيّة.

وعلى هذا الأساس فالمصّلي عندما يؤذّن للصّلاة وعندما يصل إلى شهادة لا إله إلاّ الله‌ فإنّه ينبغي أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ولا يتكلّم بها بلسانه فقط، بل يشهد بالتوحيد في مقام العمل والقلب أيضا.

نرجو من الله‌ أن نكون جميعا من الموحّدين الحقيقيين إن شاء.


90ـ سرّ الشهادة برسالة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في الأذان والإقامة


بسم الله الرحمن الرحيم

أشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ الله

بعد أن ذكرنا شيئا مختصرا عن خصوصيّات التكبيرات الأربعة والشهادة بالتوحيد في الأذان، يجب أن نرى ما هو السرّ أننا في الأذان والإقامة وبعد الشهادة للتوحيد مباشرة نشهد برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وأساسا ما هي العلاقة بين الشهادة بالرسالة وبين الصّلاة، يعني العلاقة بين نبوّة النّبي وبين عبادة الله‌ تبارك وتعالى؟

إنّ العلاقة بين التكبير والشهادة بالتوحيد وبين العبادة واضحة جدّا، لأنّ حقيقة التكبير هي العبادة، فمعنى التكبير هو التعظيم وتنزيه الله‌ تعالى وحمده وثنائه، وكذلك الشهادة بالتوحيد تقرر نفي الالوهيّة عمّا ما سوى الله‌ وإثبات الالوهيّة لله‌ تعالى، أما بالنسبة للشهادة برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهفما هي العلاقة بينها وبين الصّلاة والعبادة بحيث إنّ المصلّي يجب أن يقول في كلّ أذان وإقامة

هذه الشهادة مرّتين؟

وقد أشرنا سابقا إلى رواية المعراج الواردة في كتاب «علل الشرائع» وتذكر أسرار هذه الأذكار وأنّها تعكس حقيقة ما جرى في عالم المعراج من أذكار الملائكة وتفسيراتهم، فعندما عرج النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى السماء على مركب من نور أرسل الله‌ تعالى إليه مع جبرئيل ووصل إلى السماء الثالثة، دهش الملائكة من شدّة عظمة نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وشبه هذه النور بنور الحقّ تعالى «هذه النورانيّة التي تجلت للملائكة» فتحيّروا من عظمة هذا النور ووقعوا سجدّا.

وعندما شاهد جبرئيل هذا العمل من الملائكة وشدّة حيرتهم نادى مرّة أخرى بأعلى صوته «أشهد أنّ محمّدا رسول الله» وما أن سمع الملائكة صوت جبرئيل بهذا الشهادة عادوا واجتمعوا حول رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وسألوه: كيف حال أخيك علي بن أبي طالب؟

وأوّل نقطة يمكن ملاحظتها في هذا المقطع من هذه الرواية، أنّه بعد شهادة جبرئيل برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ورسالته، فإنّ الحجب زالت من أمام الملائكة الإلهيين، وهذا يعني أنّ ذكر هذه الشهادة في بداية الصّلاة يؤدّي إلى زوال حجب كثيرة عن المصلّي وفتح أبواب معنويّة كثيرة أمامه.

وعلى هذا الأساس فإنّ بيان وذكر هذه الشهادة في الأذان والإقامة يعكس ما في تلك الواقعة في معراج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله.

والنقطة الأخرى أننا نتذكّر في صلاتنا هذا المعراج والسفر الروحاني نريد أنّ نسبّح ذلك الموجود العظيم والخالق الكبير ونحن موجودات تافهة وحقيرة، ومن أجل تسبيح ذلك الموجود العظيم يجب أن نستخدم وسائط ووسائل في هذا المسار لنكون مقرّبين عند الله‌ تبارك وتعالى، وأساسا فبدون ارتباط ووساطة من هذا الوجود النوراني لا يمكن الاتصال بالحقّ تبارك وتعالى، وبدون الشهادة

بالرسالة والنبوّة لا تتحقّق الشهادة بالتوحيد، التوحيد الكامل هو ذلك التوحيد المقترن بالشهادة بالنبوّة والرسالة.

وقد طرح الفلاسفة في بحوثهم هذه المسألة، وهي: أساسا كيف يمكن تصوير ارتباط القديم بالحادث؟ وكيف أنّ الله‌ تبارك وتعالى يرتبط مع الموجودات الممكنة والحادثة في هذا العالم؟ وفي مقام الجواب عن هذه المسألة ينبغي القول بوجود وسائط في الفيض، ومن هذه الجهة ورد في بعض الروايات أنّ أوّل شيء خلقه الله‌ تبارك وتعالى هو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فالمصلّي إذا أقام الصّلاة بدون إيجاد ارتباط وبدون الشهادة على رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فلا يستطيع إيجاد الارتباط مع الله‌ تبارك وتعالى لا في مجال الاعتقاد، ولا في مجال العبادة، فالاعتقاد الكامل والعبادة الصحيحة تنحصر بهذا الطريق.


91ـ سرّ الشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

أشهَدُ أَنَّ عَلِيَّا وَلِّي الله

تحدّثنا في مقام الجواب عن هذا السؤال، ما هي العلاقة بين الشهادة بالرسالة والشهادة بالتوحيد؟ وكذلك بين أداء هذه الشهادة وبين الصّلاة، وقلنا إنّ طريق التوحيد الحقيقي وكيف يكون الإنسان موحّدا حقيقة هو أن تكون لديه الشهادة القلبيّة واللسانيّة بنبوّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فالمصلّي يجب أن يتحرّك في هذا المسار وتكون صلاته هذه سفرا معنويا ومعراجا روحانيا، ويعلم أنّه ضعيف وعاجز ولا يستطيع أن يسلك في هذا الطريق لوحده بل يجب أن يتمسك ويتوسّل بالأنوار التي تساعده في سلوك هذا الطريق إلى الله، فنحن ومن خلال الشهادة بنبوّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام نقوم بتقوية هذا الشعور في واقعنا الداخلي ونحصل على النورانيّة التي تساعدنا في إيجاد القابليّة واللياقة لنا للحضور في محضر الباري تبارك وتعالى.

وهذا الأمر المهمّ والذي تشهد له روايات كثيرة واردة في الكتب الروائيّة، وهو

أنّ العبادة بدون ولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام وأولاده الطاهرين لا فائدة لها، فهي ليست مجرّد اعتبار وقانون، فلا يتصوّر أحد أنّ هذه العلاقة بينه وبين الله‌ مجرّد علاقة اعتبارية وقانونيّة، وهذا يعني أنّ الشخص الذي لا يقبل بالولاية فإنّ صلاته لا تقبل منه، وهذا يبيّن لنا حقيقة تكوينيّة واقعيّة، وهي أنّ الإنسان بدون ولاية لا يستطيع أن يعبد الله‌ عزّ وجلّ.

فبدون الإمامة وولاية علي بن أبي طالب وأبنائه المعصومين عليهم‌السلام لا يملك الشخص اللياقة الكافية والصلاحية لعبادة الباري تبارك وتعالى، كما أنّه بدون الشهادة بالنبوّة ورسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لا يستطيع الإنسان التقرب إلى الله‌ تبارك وتعالى.

وجاء في الرواية المعروفة عن الإمام الباقر عليه‌السلام يخاطب محمّد بن مسلم: «يامُحَمَّدُ أَنَّ أَئِمَّةَ الجَورِ وَأَتبَاعَهُم لَمَعزُولُونَ عَنْ دِينِ الله‌ قَدْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَأَعمَالُهُم الَّتِي يَعَملُونها، كَرَمَادٍ اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَومٍ عَاصِفٍ لا يَقدِرُونَ ممَا كَسَبُوا عَلَى شيءٍ، ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ»[1].

ثمّ قال الإمام الباقر عليه‌السلام: لو أنّ الإنسان عبد الله‌ تعالى في جميع الليالي وصام أيّامه كلّها وأنفق أمواله كلّها في سبيل الله، وحجّ البيت الحرام كلّ عام، ولكنّه لا يعتقد بولاية ولّي الله، فإنّ هذه الأعمال لا قيمة لها، لماذا؟ لأنّ حقيقة العبادة لا تتحقّق بدون الولاية، فالإنسان موجود ضعيف وقلبه متلوّث بآلاف الشوائب والنقائص ويقترن وجوده بالكثير من نقاط الضعف والقصور، فكيف يستطيع التقرب إلى الله‌ تعالى بهذه الحال، وأساسا كيف تكون النسبة والعلاقة بين هذا الموجود الضعيف وبين الله؟ أين الثرى من الثريا، وأين هذا العبد الناقص وبين الله؟


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 1، ص 184.

يجب أن يتمسّك هذا الموجود الضعيف والذليل بتلك الأنوار حتّى يستطيع التواصل مع الله‌ تبارك وتعالى، فهذه الأنوار هي الوسائط إلى الله، ولكنّ الأشخاص الذين يعيشون العمى في قلوبهم لم يفهموا ولا ينبغي أن يفهموا حقيقة الولاية ولا يستطيعون تذوقها ولا إدراك هذه المعارف العظيمة، وبالتالي فهم يغادرون هذه الحياة الدنيا وهم منكرون للولاية ويواجهون العقوبة الإلهيّة والعذاب الأليم في الآخرة، وهذه المسألة، وهي أنّ العبادة بدون ولاية غير مقبولة، هي مسألة برهانيّة وقام عليها البرهان الفلسفي، ومصاديق هذه المسألة وجود الروايات والأدلة العقليّة عليها، ومن هنا يمكننا الخروج بهذه النتيجة الجليّة وهي أنّه كلّما ازداد اعتقاد الإنسان برسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله والولاية فإنّ عبادته ستكون مقبولة أكثر ويترتّب عليها ثواب أكثر ويحظى هذا الشخص بقرب أكثر عند الله‌ تبارك وتعالى، والشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام إحدى المستحبات في الأذان وينبغي الاتيان بها بعنوان الذكر المطلق، وقد ورد في الروايات أنّ الشخص إذا شهد بالتوحيد ونبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يجب عليه الشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام، جعلنا الله‌ وإيّاكم من أهل الولاية إن شاء الله.


92ـ دور الولاية في قبول الأعمال


بسم الله الرحمن الرحيم

إحدى الروايات التي تدلّ على أنّ التوحيد بدون التمسّك بالرسالة والولاية لا يعتبر توحيدا كاملاً ولا يتحقّق مضمونه في حياة الإنسان، وبدون صحبة أكمل موجود عالم الإمكان لا يستطيع الإنسان التقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى، وهذه الرواية هي ما نقله الشيخ الكليني رحمه‌الله عن الإمام الباقر عليه‌السلام، يقول محمّد بن مسلم: «سَمِعْتِ أَبا جَعفَر عليه‌السلام يَقُولُ كُلُّ مَنْ دَانَ الله‌ عَزَّ وَجلَّ بِعِبادَةِ يُجْهِدُ فِيها نَفسَهُ وَلا إِمَامٍ لَهُ مِنَ الله‌ فَسعَيُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَهُوَ ضَالٌّ مُتَحَيِّرٌ»[1].

إنّ مسألة الإمامة والولاية ليست فقط أمرا سياسيّا أو أمرا اجتماعيا يتعلّق بالحكومة والسياسة، بل إنّ دائرة ولاية الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام واسعة إلى درجة أنّها تستوعب عبادات الإنسان وأموره الشخصيّة، وبحسب هذه الرواية وروايات متعددة أخرى أنّ الشخص إذا لم يقبل بولاية أهل البيت عليهم‌السلام ولم يدخل نور الولاية إلى قلبه، فإنّه لا يملك القدرة على عبادة الله‌ تبارك وتعالى، بل لا


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 1، ص 183.

يملك قابلية التقرّب إلى الله‌ ولا يعتبر موحّدا حقيقيّا، ولإثبات هذه المسألة، مضافا إلى الروايات، ثمّة البرهان العقلي الذي يدلّ على ذلك، وقد ذكر علماؤنا الكبار هذا البرهان في محلّه، وعندما نقف للصّلاة بين يدي الله‌ يجب أن ننظر إلى أنفسنا لنرى ما مقدار اعتقادنا بالولاية، وما مقدار ما نملكه في قلوبنا من ولاية الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام، وما مقدار نور الولاية الذي أحاط بقلوبنا؟ ويمكن القول بوضوح أنّ كلّ إنسان يجد في نفسه نور الولاية بمقدار أشدّ فإنّ عباداته ستكون أقوى وأكثر تأثيرا.

وفي عصر الغيبة الكبرى فإنّ كلّ إنسان يعيش الولاية ويكون اعتقاده بوجود الإمام صاحب الزمان (عج) أكثر وأشدّ وارتباطه القلبي مع ذلك الإمام أقوى فسوف ينال العناية الإلهيّة أكثر، وليس فقط الارتباط اللفظي واللساني، وليس فقط الدعاء بتعجيل الفرج، بل إنّ الإنسان يعيش في أعماقه قلبه وروحه هذه الحقيقة ويعتقد بأنّ هذا الإمام هو واسطة الفيض الإلهي على الكائنات، فكلّما اشتدت هذه العلاقة كانت عبادتنا أعمق وأكثر تأثيرا وكان تقرّبنا إلى الله‌ تعالى أكثر.

ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام في هذه الرواية، فيما يتّصل بالأشخاص الذين لا يقبلون الإمام والولاية: «وَالله‌ شَانِى‌ءٌ لأَعمَالِهِ وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَاةٍ ضَلَّتْ عَنْ رَاعِيها وَقَطِيعِها»[1].

رزقنا الله‌ تعالى نور الولاية في قلوبنا إن شاء الله.


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ص 184.


93ـ الشهادة بالنبوّة والولاية، هي روح العبادة


بسم الله الرحمن الرحيم

بِعَليٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ[1]

بالنسبة للشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله‌ تعالى عليه، ينبغي القول: بالرغم من أنّ الشهادة بالنبوّة هي شهادة بالولاية أيضا، وكذلك الشهادة بالولاية هي شهادة بالنبوّة والرسالة أيضا، ولكن بما أنّ حقيقة النبوّة والرسالة تكتمل بالوصاية والولاية لأميرالمؤمنين صلوات الله‌ عليه، فيجب على المصلّي في هذا السفر المعنوي التوجّه الخاصّ لهذه الحقيقة.

نحن لا نريد الدخول في بحث فقهي فعلاً، وهل أنّ الشهادة بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام هي جزء من الأذان والإقامة، هذه المسألة وردت مورد البحث في الكتب الفقهيّة، ولكن من البديهي أنّ الشخص الذي لا يقرّ بلسانه ولا يعتقد بقلبه بأنّ ولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام تكميل للدين واتمام بالرسالة، فإنّ صلاته لا تكون صلاة حقيقية بأي وجه.


1. أسرار العبادة، وحقيقة الصّلاة، ص 23.

وجاء في الرواية في كتاب الاحتجاج[1] روى القاسم بن معاوية قال: قلت: لأبي عبدالله‌ عليه‌السلام: هؤلاء يرون حديثا في معراجهم أنّه لما اُسري برسول الله‌ رأى على العرش مكتوبا لا اإله إلاّ الله‌ ومحمّد رسول الله‌ أبوبكر الصديق، فقال: «سبحان الله‌ غيروا كلّ شيء حتّى هذا» فقلت: نعم، قال: «إنّ الله‌ عزّ وجلّ لمّا خلق العرش كتب عليه لا إِلهَ إِلاّ الله، مَحَمّد رسول الله، عَليٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ...»، يعني أنّ رجلاً قال للإمام الصادق عليه‌السلام: يابن رسول الله‌ إنّ بعض الناس نقلوا هذا الحديث في قصّة المعراج بأنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهرأى في معراجه مكتوب على العرش ثلاث كلمات: «لا إِلهَ إِلاّ الله، مَحَمّد رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله» ثمّ ذكر اسم الخليفة الأوّل الذي استولى على الخلافة بعد النبيّ بحسب الظاهر، هنا غضب الإمام الصادق عليه‌السلام وقال: سُبحَانَ الله، هؤلاء غَيّروا كُلّ شَيءٍ حَتّى هذه المسألة، ثمّ قال: إنّ الله‌ تبارك وتعالى عندما خلق العرش كتب عليه «لا إِلهَ إِلاّ الله، مَحَمّد رسول الله، عَليٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ»، ثمّ قال: لماذا أنّ بعض جهّال هذا الزمان غيّروا هذه الحقيقة؟ وللأسف فإنّ حكّام الجور والتحريف لم يقبلوا بأي شيء من حقائق الدين حتّى أنّهم غيرّوا وحرّفوا هذه الحقيقة في حديث المعارج، وبدلاً من عبارة «عَليٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ»، اختاروا اسم شخص آخر وكتبوه في مسطوراتهم، إنّ الإمام علي عليه‌السلام، الذي لم يشرك بالله‌ طرفة عين في جميع حياته كيف يحذف اسم أميرالمؤمنين ويكتب مكانه اسم شخص آخر الذي قضى مدّة طويلة من عمره في أجواء الشرك؟ ثمّ قال عليه‌السلام: ليس فقط هذه الكلمات الثلاثة «لا إِلهَ إِلاّ الله، مَحَمّد رسول الله، عَليٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ»، مكتوبة على عرش الله‌ تبارك وتعالى، بل إنّ الله‌ تعالى كتب هذه الكلمات الثلاث على الماء والكرسي واللوح وعلى جبين إسرافيل وجناحي جبرئيل وأكتاف السماوات والأرض وعلى قمم الجبال وعلى الشمس والقمر،


1. الاحتجاج، ج 1، ص 230.

وبكلمة: كتب هذه الكلمات على جميع أجزاء عالم الوجود تكوينا.

ثمّ قال الإمام الصادق عليه‌السلام: كلّ من قال لا إله إلاّ الله‌ ومحمّد رسول الله، فليذكر عليّا أميرالمؤمنين، ولا شكّ ولا ريب وبحسب الضوابط الفقهيّة أنّ كلمة «أشهَدُ أَنَّ عَلِيَّا وَلِّيّ الله»، لا تعتبر جزءا من الأذان ولكن يستحب أن يأتي بها المصلّي بعنوان الذكر المطلق، وعندما نلاحظ هذه الرواية ينبغي القول إنّ الإنسان المصلّي لا يتصوّر أنّ الشهادة بالاُلوهيّة والشهادة بالنبوّة وولاية أميرالمؤمنين ينطق بها في هذا الأذان بل هذه الكلمات مذكورة وموجودة في باطن عرش الله‌ وفي البحار والصحاري والجبال، والكرسي، وجبرئيل، والملائكة، والشمس والقمر، ونحن عندما نذكر هذه الكلمات في الأذان والإقامة فإنّما نتماهى في هذا الذكر مع موجودات العالم وما فيه من كائنات ومخلوقات.

وعلى هذا الأساس ينبغي حتما في الأذان والإقامة ذكر الشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام ويقول علماؤنا: إنّ هذه الشهادة حتّى لو لم تكن جزءا من الأذان ولكنّها تمثّل روح الأذان والدين والعبادة ولا يمكن أن تتحقّق العبادة الصحيحة بدون هذه الشهادة.


94ـ احضار قوى الملك والملكوت


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ الشهادة بالنبوّة والرسالة لا تتحقّق بدون الشهادة بالولاية.

هنا نقطة مهمّة ذكرها الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه «في آداب الصّلاة» يقول: إنّ الشهادة بالتوحيد والالوهيّة تتضمّن الشهادة بالنبوّة والولاية أيضا، يعني أنّ أنّ الشهادة بالتوحيد لا تتحقّق إلاّ من خلال الشهادة بالنبوّة والولاية، وكذلك قال: إنّ الشهادة بالنبوّة والرسالة تتضمّن أيضا تلك الشهادتين الاُخريين، والشهادة بالولاية تتضمّن الشهادة بالتوحيد وبالنبوّة»[1]، لأنّ نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ونور الإمام عليّ عليه‌السلام من نور الله‌ تبارك وتعالى: وهذان هما أكمل أفراد البشر وهما مظهر توحيد الحقّ تبارك وتعالى، وبدون التوسل بهما والشهادة بهذه الذوات المقدّسة لا يستطيع المرء أن يتقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى، وقد ورد في الحديث النبوي فيما يتّصل بالسفر، أنّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: «الرَّفِيقُ ثُمَّ الطَّرِيقُ»[2]، أي أنّ


1. آداب الصّلاة، ص 141.

2. المحاسن، ج 2، ص 357.

الإنسان يجب أن يختار في سفره الرفيق أوّلاً ثمّ يبدأ المسير والسفر، وبالإمكان الاستفادة من هذا الحديث في باب العبادة، العبادة هي الحركة نحو الحقّ تعالى، والرفيق في هذا الطريق يجب أن يكون على أعلى درجة من درجات التوحيد ولا يكون ملوّثا بلحظة واحدة بشوائب الشرك والذنب والخطأ.

ما أشدّ انسجام هذه الكلمات والعبارات الواردة في الأذان والإقامة، فالإنسان يجب في البداية أن يسبّح الله‌ ويقدّسه من خلال التكبيرات الأربع التي أشرنا إليها سابقا، ثمّ يشهد بشهادة التوحيد ووحدانيّة الباري تعالى، ثمّ يأتي بالشهادة على النبوّة والولاية.

وإلى هذا المقطع من الأذان، فإنّ المسألة تنتهي بالمسألة الإيمانيّة والاعتقاديّة، وأنّ المصلّي يحظى بصلاحية الدخول في الصّلاة بعد هذه الشهادات الثلاث، ولكن مع ذكر «حيّ على الصّلاة» يبدأ المقطع الثاني من الأذان والإقامة فيجب أن نرى المعاني الكامنة في هذه الأذكار، وما هو المقصود منها؟

في هذا المقطع من الأذان نقول: «حيّ على الصّلاة»، ثمّ نقول: «حيّ على الفلاح»، ثمّ نتابع القول: «حيّ على خير العمل»، فالمصّلي يجب أن يذكر هذه العبارات الثلاث كلّ واحدة منها مرّتين.

إنّ الإنسان عندما يؤذّن ويتحرّك في طريق لقاء الله‌ ويريد أن يخطو في هذا الطريق وفي هذا المعراج الروحاني، فلابدّ له بعد أن يقرّ المسائل الإيمانيّة والاعتقاديّة، يعني أوّلاً: يعلن عظمة الحقّ تعالى، وثانيا: يعلن الشهادة الالوهيّة والتوحيد، وثالثا: يختار الرفقة والصحبة النبيّ والولي، ثمّ تأتي كلمة «حيّ على الصّلاة»، وهي إعلان من المصلّي للقوى الملكيّة والملكوتيّة ليستعد للصّلاة ولقاء الله، والمعنى الظاهري لجملة «حيّ على الصّلاة»، هو أنّ هذا الإنسان

يخاطب الآخرين بأن أسرعوا وتوجّهوا نحو الصّلاة لأنّها سوف تبدأ، ولكن المعنى العميق لكلمة «حيّ على الصّلاة» إعلان لجميع القوى الملكيّة والملكوتيّة للمسارعة في هذا الأمر، فالمؤذّن هنا يعمل على تهيئة جميع قوى الملكيّة والملكوتيّة للحضور بين يدي الله‌ تعالى ولتستعد هذه القوى للوقوف بين يدي الحقّ تعالى.

وفي المقطع الأوّل من الأذان يتجلّى الجانب الاعتقادي، وأمّا في المقطع الثاني فيتجلّى الجانب العملي من الأذان، والالتفات إلى القوى والموجودات التي تريد أن تحضر في محضر الحقّ تبارك وتعالى، فما أعظم الشعور باللذة عندما يقول الإنسان «حيّ على الصّلاة»، ويلتفت إلى أنّه لا يدعو نفسه فقط إلى هذا الحضور المقدّس، بل يشجع ويحث أصدقاءه على الصّلاة أيضا، بل إنّه بهذا الكلام يدعو قلبه ويده وعينه ونفسه وقواه الملكيّة والملكوتيّة لأن تحضر جميعا في هذا المحضر المقدّس والملكوتي.


95ـ سرّ تكرار حيّ على الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ الإنسان بقوله «حيّ على الصّلاة»، يخاطب جميع وجوده وأعضائه وجوارحه لكي تستعد للصّلاة وتسارع في الحضور بين يدي الله‌ تعالى، وليس فقط وجوده الشخصي بل جميع قواه في عالم الملك والملكوت أيضا، يعني بعد أن ينتهى المصلّي من تعظيم الباري تعالى في تكبيراته، وبعد أن أقرّ بالوحدانيّة لله‌ تعالى واعترف بالنبوّة والولاية، هنا تأتي النوبة إلى مرحلة شكر الباري تعالى وعبادته مباشرة دون توقف، فلا يمكن أن يعتقد الإنسان بتلك الشهادة ثمّ لا يسارع في الصّلاة والعبادة، والأصل في هذا الأمر أنّ تلك الشهادات بدون أن يتابعها المرء بالصّلاة والعبادة تكون ناقصة، أي أنّ هذه الشهادات ليست واقعيّة ولا تنطلق من أعماق قلب المصلّي، ولكن إذا كانت تلك الشهادات، شهادات كاملة فكيف يمكن للإنسان أن يشهد بالتوحيد والنبوّة والولاية ولكنه في ذات الوقت يتخلّف عن قافلة العبادة؟ وهذا يعني لزوم الشروع بالعبادة مباشرة بعد الاقرار والاعتراف بتلك الشهادات.

وهنا ربّما يسأل البعض؛ لماذا نرى «حيّ على الصّلاة» وكذلك المقاطع الأخرى من الأذان تكررت مرّتين؟ والجواب الكلي عن سبب هذا التكرار هو أنّ الإنسان عادة في المرّة الاُولى لا يتوجّه إلى مضمون هذا الكلام بشكل جيد، ولا تستيقظ فطرة الإنسان في المرّة الاُولى، فالتكرار من أجل إيجاد حالة اليقظة الكاملة للفطرة، والإنسان عندما يقول هذه الكلمة مرّة واحدة ربّما لا يلتفت إلى عمقها ومغزاها، فالتوجّه العميق واليقظة الكاملة والتامة لفطرة الإنسان التي ينبغي أن تتوجّه للوقوف بين يدي الله‌ تعالى وعبادته، تستدعي مثل هذا التكرار، والوجه الثاني ورد في كلمات الإمام الراحل رضوان الله‌ تعالى عليه، حيث يقول: ربّما يسري هذا الخطاب في المرّة الأولى إلى القوى الداخليّة أو القوى الحاكمة في داخل مملكة الإنسان كالقلب، والاُذن، واليد، والعين و...، أمّا في المرّة الثانية فهو خطاب للقوى خارج مملكة الإنسان، فالإنسان في هذه العبادة لا يقف لوحده بل يشاركه جميع موجودات العالم، ويريد أن يشترك هذه الموجودات معه في حال التسبيح والعبادة، ثمّ يلتفت إلى الحكمة الكامنة في هذا النداء، وهذا هو الأثر المهم للصّلاة في مسيرة الإنسان في خط الصلاح والفلاح.

إنّ فطرة كلّ إنسان تدعوه في الحياة لتحقيق السعادة والفلاح، فلو سألنا أي شخص عن ذلك فيقول: اُريد أن أكون سعيدا في هذه الحياة، وطبعا في بعض الأوقات قد يشتبه الإنسان في تشخيص مصاديق السعادة، فأحدهم يرى أنّ مصداق السعادة يكمن في المال، والآخر يراه في المقام والثالث في الشهوة ورابع في الطعام وما إلى ذلك، ولكن الله‌ تعالى يقول إنّ المصداق المهم للسعادة والفلاح في حياة الإنسان يكمن في الصّلاة، وكلّ شخص يريد الحصول على السعادة في حياته يجب أن يتوجّه نحو الصّلاة، والشخص الذي يهتمّ بصلاته فإنّ أبواب السماوات ستفتح أمامه، وسوف يفتح الله‌ له أبواب رحمته وكرمه وحكمته.

وقبل البدأ بالصّلاة يقول المصلّي في الأذان والإقامة «حيّ على الفلاح» مرّتين، والتكرار هنا من أجل ايقاظ فطرة الإنسان أيضا وتجسيد وتثبيت هذه الحقيقة في أعماق نفس البشريّة، وأنّك أيّها الإنسان التفت جيدا واعلم أنّ الفلاح والنجاح يكمن في هذه الصّلاة فقط.

ثمّ يقول المصلّي «حيّ على خير العمل» فلو أردت القيام بأفضل الأعمال، ولو أردت القيام بأحسن عمل يصدر من الإنسان بحيث لا يتصوّر أحسن منه، هذا العمل هو الصّلاة، «حيّ على خير العمل» ويتابع المصلّي في أذانه وإقامته بذكر التكبير الله‌ أكبر، الله‌ أكبر، لا إله إلاّ الله، لا إله إلاّ الله، والنقطة المهمّة هنا أنّ المصلّي في الأذان وكذلك في الإقامة يبدأ وينتهي بكلمة الله، وهذه الكلمة على حدّ تعبير أهل الفن اسم وعنوان يستوعب جميع الشؤون الإلهيّة والصفات الربانيّة.

إلى هنا انتهينا من بيان أسرار الأذان والحِكم الخفية فيه ونتابع البحث في بيان الحِكم والأسرار الموجودة في الصّلاة إن شاء الله.


الفصل الرابع: سرّ القيام في الصّلاة



96ـ القيام مظهر التوحيد وقيّوميّة الحقّ


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد بيان نقاط مختصرة حول الأذان والإقامة، نبحث الآن عن خصوصيّات الصّلاة، وفي المجموع فالمصلّي من حيث الشكل والهيئة في هذه العبادة له ثلاث حالات؛ أحدها حالة القيام، فالشخص إذا لم يكن مريضا وكان قادرا على القيام يجب عليه أن يصلّي من قيام، فلو أنّه صلّى من جلوس وحتّى لو استغرقت صلاته مائة ساعة فلا قيمة لها، بل يجب عليه الصّلاة من قيام، والحالة الثانية الركوع، والحالة الثالثة السجود.

ولا نرى في أي عبادة أنّ هذه الحالات الثلاث تجتمع فيها، وقد استوحى أكابر أهل المعرفة من هذه الحالات الثلاث، ثلاث مراتب للتوحيد وقالوا: عندما يقف المصلّي للصّلاة ويبدأ بها فإنّ حالة قيامه إشارة للتوحيد الأفعالي، وحالة الركوع إشارة للتوحيد الصفاتي، وحالة السجود، وهي أهم وأعمق حالة في العبادة والصّلاة، إشارة إلى أهم مرتبة من التوحيد، وهو توحيد الذات، والآن يجب أن نرى ما هي النقاط والملاحظات في قيام الصّلاة، وما هي الآداب التي

يجب مراعاتها في حال القيام؟

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه بالنسبة للقيام: إنّ هذه الحالة من القيام في الصّلاة والألفاظ التي يقرأها المصلّي حال القيام، إشارة إلى مقام التوحيد الأفعالي، والمقصود من التوحيد الأفعالي أننا نعتقد بفاعليّة الله‌ تبارك وتعالى في جميع الأفعال، حتّى أصغر وأقل فعل يصدر من الإنسان مثل الجلوس والقيام، وجميع أفعاله الأخرى تتعلّق بإرادة الحقّ تبارك وتعالى ومشيئته، فما لم يرد الله‌ تعالى فلا تسقط ورقة من شجرة ولا تهب أيّة نسمة هواء ولا يصدر أي فعل في العالم، لا من الإنسان ولا من غير الإنسان، وطبعا بالنسبة لأفعال الإنسان سبق وقلنا من محلّه أنّ التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار الإنسان، ولكن هذا الإنسان المختار يجب أن يعلم بأنّ كلّ فعل يصدر منه بأنّه مسبوق بإرادة الحقّ تبارك وتعالى ولو أنّه يفعل هذا الفعل من موقع الاختيار والحرية.

إذن فالمقصود من التوحيد الأفعالي هو أنّ الإنسان لا يرى أي شيء غير الله‌ مؤثرا وفاعلاً في عالم الوجود، وهذه الحالة من القيام في الصّلاة إشارة إلى قيوميّة الحقّ تبارك وتعالى، وإذا نطق الإنسان أو فعل فعلاً معينا فإنّ ذلك يحدث تحت قيّوميّة الحقّ تبارك وتعالى.

ومن هنا يجب على الإنسان أن يذكّر نفسه ويلقن قلبه ويزيح عنه التعيّنات النفسانيّة ويعلم أنّه لا يملك استقلالاً في أفعاله، فلو أنّه وقف للصّلاة بين يدي الله، فإنّ الله‌ تعالى هو الذي أراد له هذا القيام، رغم أنّه مختار في هذا القيام، ولو لم تكن إرادة الله‌ ومشيئته فإنّ هذا الأمر لا يتحقّق، فيجب عليه أن يفهم قلبه وباطنه بهذه الحقيقة، فأدب القيام هو أن يعتقد المصلّي بأنّه وجميع العالم حاضرون في محضر الباري تعالى.

فعندما يريد الإنسان أن يقدّم فروض الاحترام لشخص آخر أو يواجه شخصاً

آخر فإنّ الأدب الظاهري والفطري يقتضي عليه أن يقف أمامه احتراما له، وهذا الوقوف يعني أنني بجميع وجودي حاضر أمامك، ومثل هذا الإنسان يجب أن يعتقد شاء أم أبى بعظمة الحقّ تبارك وتعالى، فالشخص الذي يصلّي من جلوس أو اضطجاع بدون أي عذر لا يمكن القول بأنّه يعتقد بعظمة معبوده، ولكن عندما يقف في حالة من الوقار والخشوع وبالخصوصيّات التي سوف نذكرها لاحقا، فإنّه يؤدّي أدب العبادة نحو الحق تعالى، وهذه الحالة هي التي يجب على الفرد العابد والسالك أن يتحلّى بها.


97ـ آداب الـقيـام


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الرضا عليه‌السلام: إِذا أرَدْتَ أَنْ تَقُومَ إِلى الصَّلاةِ فَلا تَقُومْ إِلَيها مُتَكَاسِلاً...؛

تقدّم أنّ أوّل حالة للمصلّي في صلاته هي حالة القيام، والحالة الثانية الركوع والحالة الثالثة السجود، وطبق بيان أهل المعرفة أنّ هذه الحالات الثلاث والهيئات الثلاث إشارة إلى ثلاث مراتب من مراتب التوحيد، ففي حالة القيام يشاهد الإنسان بجميع وجوده الطرف المقابل ومعبوده، وهي الحالة التي لا تحصل أبدا للإنسان في حال الجلوس أو الاضطجاع.

وجاء في رواية في كتاب «فقه الرضا»[1] أنّه: «إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَقُومَ إِلى الصَّلاةِ فَلا تَقُومْ إِلَيها مُتَكَاسِلاً وَلا مُتَناعِسا، وَلا مُستَعجِلاً، وَلا مُتلاهِيَا...»؛ أي تتلهى بالعبث باليد والرأس والاُذن و...، لأنّ ذلك مخالف لأدب القيام.

وعندما يريد الإنسان أن يقف بيد يدي الله‌ تعالى فإنّه يشعر في نفسه واقعا أنّه يرى الله، وأنّ جميع فكره ووجوده منجذب إلى الله‌ تعالى، فلا ينبغي أن يظهر حالة


1. فقه الرضا، ص 101.

الكسل، ولا ينبغي أن يستعجل بصلاته بحيث يقف وقبل أن يسكن بدنه بشكل كامل يقول: الله‌ أكبر، فهذا عمل غير صحيح.

ويقول الإمام عليه‌السلام: «وَلَكنْ تَأتِيها عَلَى السُّكُونِ وَالوِقارِ والتََؤدَةِ وَعَلَيكَ الخُشُوعُ وَالخُضُوعُ مُتَواضِعا للهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتخَاشِعَا، وعَلَيكَ خَشيَةٌ وَسِيماءُ الخَوفِ رَاجِيا خَائِفَا بِالطَّمَأنِيِّةِ عَلَى الوَجَلِ والحَذَرُ».

ونلاحظ أنّ الإمام عليه‌السلام في العبارة السابقة قال بوجوب الخضوع والخشوع والتواضع في الصّلاة وهنا يقول: يجب عليك أن تشعر بالخوف والخشية ظاهرة على ملامحك، فالمصلّي يجب أن يعيش الأمل والرجاء من جهة، ويعيش الخوف والخشية من جهة أخرى، فهو يشعر بالقلق هل أنّ الله‌ تعالى قبل عبادته أم لا؟ هل أنّ الله‌ تعالى ملتفت إليه ويهتمّ به أم لا؟

«فَقِفْ بَينَ يَدَيهِ كَالعَبْدِ الآبِقِ المُذنِبِ بَيْنَ يَدَي مَولاهُ»، وهكذا يعيش هذا الإنسان حالة الخوف والقلق أمام الخالق عزّ وجلّ.

يجب أن نفهم واقعا عندما نقف للصّلاة أننا كنّا لحدّ الآن بعيدون وآبقون عن المولى، والآن سمح لنا الباري تعالى بالعودة إليه ولذلك يجب أن نقف بين يديه بحالة الندم والخوف والخجل، وفي ذات الوقت يجب أن نشعر بالأمل والرجاء في رحمة الله‌ ومغفرته.

«فصفَّ قَدَمَيْكَ وَانْصبِ نَفْسِكَ وَلا تَلتَفِتْ يَمِينا وَشِمَالاً»، وعندما يقال لا ينبغي الالتفات إلى هذا الجانب وذاك فالسبب يعود إلى هذه النقطة، وهي أنّ الإنسان يقف في مقابل الباري تعالى ويجب أن يركز جميع حواسه وفكره بهذه العبادة.

«وَتَحْسَبُ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراكَ»[1]، وهكذا ينبغي رعاية آداب الوقوف في الصّلاة بحيث يشعر الإنسان أنّه يرى الله‌ فيها، فإن لم يكن يرى الله‌ فإنّ الله‌ يراه.


1. فقه الرضا، ص 101.


98ـ حقوق الصّلاة في كلام الإمام زين العابدين عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام: وَأَمَا حُقُوقُ الصَّلاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّها وِفَادَةٌ إِلى الله؛

إذا التفت المصلّي لأسرار القيام في الصّلاة والتزم بآدابه، فسوف يشعر بلذّة كبيرة في صلاته ويحسّ أنّه تطهر واقعا من شوائب الدنيا ولا يشعر بالتعب والملل من الصّلاة بل يريد أن يتابع صلاته ويستمر بها.

فقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الثامن الرضا عليه‌السلام أنّ هذا الإمام كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، ولعلّة في ذلك أنّه عليه‌السلام كان يلتذ من الوقوف للصّلاة بين يدي الباري تعالى، وعندما نرى أنّ الإمام عليه‌السلام في اللحظات الاُولى من الصباح الباكر وقبل طلوع الشمس أو قبل غروبها يعطل صلاة النافلة ويجلس في مصلاّه ويناجي ربّه، فذلك بسبب أنّه عليه‌السلام كان عارفا بأسرار الصّلاة وقيمتها وبركاتها، وقد ورد في الرواية أنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام ذكر بعض الموارد بوصفها حقوق الصّلاة، يعني أنّ المصلّي لو لم يراع هذه الموارد فإنّه يضيّع حقّ الصّلاة ولا يؤدّي حقّها.

يقول عليه‌السلام: «وَأَمَا حُقُوقُ الصَّلاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّها وِفَادَةٌ إِلى الله»[1]، وهنا يبيّن الإمام عليه‌السلام موردين من موارد حقّ الصّلاة، المورد الأوّل، هو أنّ نعلم أنّ الصّلاة عبارة عن ورود إلى محضر الله‌ تبارك وتعالى، فالشخص الذي يروم الصّلاة فليعلم أنّه يقدم على الورود بمحضر الباري تبارك وتعالى، وبعبارة أخرى، أنّ الصّلاة هي ورود، ولكنّها ورود إلى محضر الحقّ تبارك وتعالى والمصلّي يجب أن يعلم أنّه بواسطة الصّلاة أنّه سيرد على هذا الموجود العظيم، وغني عن البيان أنّ كلّ ورود يستلزم خروجا، يعني يجب عليه أن يخرج من الدنيا والميول النفسانيّة والنوازع الشهوانيّة ليدخل إلى ساحة النور الإلهي.

الحقّ الثاني، أننا نقف بين يدي الله‌ تعالى، وهذا الحقّ إنّما يمكن أداؤه فيما لو أدّى المصلّي الحقّ الأوّل للصّلاة وعمل بوظيفته وتكليفه.

«وَأَنَّكَ فِيها قَائِمٌ بَينَ يَدي الله، فَإِذا عَلِمْتَ ذَلِكَ كُنْتَ خَلِيقا أَنْ تَقُومَ فِيها مَقَامَ العَبْدِ الذَّلِيلِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ الخَائِفِ الرَّاجِي المُستَكِينِ المُتَضرِّعِ المُعَظِّمِ، مَقَامَ مَنْ يَقُومُ بَينَ يَدَيهِ بَالسُّكونِ وَالوِقارِ وَخُشُوعِ الأَطرافِ وَلِينِ الجَناحِ وَحُسْنِ المُناجَِاةِ لَهُ فِي نَفسِهِ وَالطَّلَبِ إِلَيهِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ الَّتِي أَحاطِتْ بِها خَطيِئَتُهُ وَاستَهلَكَتْها ذُنُوبُهُ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِالله‌»، وفي آخر الرواية يقول عليه‌السلام أنّه لا قوّة ولا قدرة لدى الإنسان وغيره من المخلوقات إلاّ بقدرة الله‌ تبارك وتعالى، فلو أنّ الإنسان أراد الخلاص من الذنوب والخطايا التي أحاطت به فيجب عليه أن يستمد العون والمد من الله‌ تبارك وتعالى والتطهير من الذنوب لا يكون إلاّ بإرادة الحقّ تعالى، وعلى هذا الأساس فمن أجل الخلاص من التلوّث يجب أن نقف في صلاتنا في مقام العبد الذليل ونعيش الخشوع والوقار وبالتالي نحظى بحسن المناجاة ولذة الحديث مع الله‌ تعالى.


1. آداب الصّلاة، الإمام الخميني، ص 150.


99 ، 100ـ حدود الصّلاة في حديث رزّام


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ مسألة القيام في صلاة الجماعة تعتبر مسألة مهمّة جدّا ولها تجليات كبيرة، فالمصلّون عندما يقفون في صفوف منتظمة أمام الباري تبارك وتعالى يجب أن يعلموا مدى عناية الله‌ بهم ورعايته لهم، والسرّ في أنّ صلاة الجماعة لها ثواب كثير جدّا يكمن في مراعاة هذه الآداب والتوجّه إلى هذه الأسرار الكامنة في صلاة الجماعة، وعلى هذا الأساس يجب الالتفات جيدا بكيفيّة قيامنا في الصّلاة ونعلم بآدابها ونلتزم بمراعاة هذه الآداب.

وينقل المرحوم السيّد بن طاووس في كتابه «فلاح السائل» رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام تتحدّث عن خصوصيّات الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر: «في صفة الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر»، والرواية تقول: إنّ أباجعفر المنصور كان يوم الجمعة وقد أخذ بيد الإمام الصادق عليه‌السلام فسأله رجل يدعى رزّام: مَن هذا الشخص الذي أخذت بيده؟ فقيل له: جعفر بن محمّد ابن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فقال ذلك الرجل: «إِنَّي وَللهِ لَوَدَدتُ مَا عَلِمْتُ أَنَّ خَدَّ أَبِي جَعفَرِ نَعْلٌ لِجَعفَر».

وبهذه المقدّمات يسأل رزّام من الإمام الصادق عليه‌السلام عن الصّلاة وحدودها:

«أَخبِرنِي عَنِ الصَّلاةِ وَحُدُودِها».

فقال له الإمام عليه‌السلام: «للصَّلاةِ أَربَعَةُ آلافِ حَدٍّ لَسْتَ تُؤاخَذُ بِها»، أي أنّك لا تستطيع العمل بهذه الحدود ولا يمكنك رعايتها، وهذه نقطة مهمّة جدّا أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يقول: إنّ للصّلاة أربعة آلاف حدّ، والمراد من الحدّ هنا هو ما يدخل في تحقّق حقيقة الصّلاة.

فقال رزّام: «أَخْبِرنِي بِمَا لا يَحِلُّ تَركُهُ وَلا تَتُمُّ الصَّلاةُ إِلاّ بِهِ»، أيّها الشباب الأعزاء، لتعلموا أنّ بعض الناس في زمان الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام عندما يحضرون في مجلس الإمام ما هي الأسئلة التي يطرحونها، واليوم للأسف الشديد نجد أنّ أيدينا قاصرة عن الوصول إلى ساحة الوجود المقدّس الإمام ولي العصر (عج)، فلا ينبغي أن نغفل عن الأكابر من علمائنا الذين سلكوا في وادي الفقاهة والمعرفة وفهموا كتاب الله‌ وتشخيص الحلال والحرام، ويجب علينا السعي للتواصل وطرح مثل هذه الأسئلة عليهم لكي نستطيع من تصحيح أعمالنا، لئلا تنقضي أيّامنا وعمرنا ثمّ نتأسف لماذا لم نلتفت إلى مسألة القيام في الصّلاة ولماذا لم نراعي آداب القيام؟ لماذا لم نحقّق القيام المطلوب في محضر الباري تبارك وتعالى في حال الصّلاة؟

ويسأل رزّام من الإمام الصادق عليه‌السلام عن تلك الأمور التي يجب مراعاتها في الصّلاة وبيان زاوية من هذه الحقيقة وحدود الصّلاة التي يجب على المؤمن الاتيان بها، وقال عليه‌السلام: «لا تَتُمُّ الصَّلاةُ إِلاّ لِذِي طُهرٍ سَابِغٍ»، أي أن يكون على طهارة كاملة، وتشمل جميع وجوده، وهذا يعني مجموع الطهارة الظاهريّة والطهارة الباطنيّة، وتستوعب الطهارة جميع وجوده من أعلى رأسه إلى أخمص قدمه، فالإنسان عندما يقف للصّلاة يجب أن يكون وجوده طاهرا، والمراد من هذه الطهارة ليس الوضوء فقط الذي هو شرط للصّلاة، ثمّ قال عليه‌السلام: يجب أن يكون المصلّي «تَمامِ البَالغِ»، يعني أنّها تامّة وجامعة، والبالغ له معانٍ متعددة أحده

بمعنى الوصول والنضج، فالطفل عندما يصل إلى حدّ البلوغ يقال له بالغ، أو الثمرة التي تصل إلى حالة النضج يقال ثمرة بالغة، وعلى هذا الأساس فإنّ معنى هذه العبارة أنّ المصلّي يجب أن يصل إلى مرتبة التمام والكامل، أمّا المعنى الثاني للبالغ هو النافذ، و«أمر بالغ» يعني نافذ، وهذا يعني أنّ المصلّي يجب أن يتمتع بالتمامية النافذة، وفي تقديري أنّ معنى «النافذ» أولى من «البالغ»، ولابدّ أن تكون العبارات المذكورة تنفذ إلى القلب ولا تقف عند حدود اللسان والكلام فقط.

ثمّ قال عليه‌السلام: الشرط الثالث لحقيقة الصّلاة هو: «غَيْرِ نَازِعِ» وفي بعض النسخ «غَيْرِ نَازِعِ»، وهو تعبير جميل جدّا، ويعني أنّه لا يصدر منه أدنى حركة، وكما ذكرنا مسبقا في بعض الروايات أنّ الإمام زين العابدين عليه‌السلام عندما يقف للصّلاة بين يدي الله‌ تعالى فكأنّه جذع شجرة فلا يرى منه أدنى حركة إلاّ ما تحركه الريح من ثوبه «غيرِ نازِع» يعني لا تصدر أدنى حركة منه.

الخصوصيّة الرابعة: «وَلا زَائِغ» بمعنى أنّه لا يصدر منه أدنى انحراف، «زائغ» من مادة «زيغ» وتعني الانحراف عن طريق الحقّ، وهذه الكلمة تأتي أيضا بمعنى الانحناء والاعوجاج، يعني أنّ المصلّي في حالة الصّلاة يجب أن يقف بشكل ثابت وعمودي وليس فيه أدني انحراف واعوجاج، وعلى هذا الأساس فالخصوصيّات التي ذكرها الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الحديث الشريف:

أ) إنّ المصلّي يجب أن يكون بطهارة كاملة، ويتحلّى بجميع أنواع الطهارة.

ب) يجب أن يتمتع بالتام والجامع والنافذ.

ج) لا ينبغي أن تصدر منه أدنى حركة خارج الصّلاة، فلا يعبث برأسه ووجهه وأعضاء بدنه.

د) يجب أن يكون ثابتا ومستقيما ولا يوجد في بدنه أي انحراف أو انحناء.


101ـ حدود وخصوصيّات الصّلاة في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

وفي سياق رواية رزّام يشير الإمام الصادق عليه‌السلام إلى بعض هذه الحدود الأربعة آلاف ويتحدّث عن تسع خصوصيّات أخر يقول:

1 و 2. «عَرَفَ فَوَقَفَ»، «وَأَخْبَتَ فَثَبَتَ»، فيجب عليه أن يعرف الله‌ ثمّ بعد المعرفة يقف للصّلاة بين يديه في حالة اخبات وخشوع، ومع وجود حالة الخشوع والتواضع فسوف يحصل على الثبات في هذا العمل.

3. «وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ اليَأسِ وَالطَّمَعِ وَالصَّبْرِ وَالجَزَعِ»، المصلّي عند يقف للصّلاة بين يدي الله‌ فإنّه يشعر من جهة بحالة من اليأس حاكمة عليه، لأنّه ينظر إلى ضعفه وتقصيره ويرى أنّ عمله في مقابل الله‌ تعالى ليس جديرا بتقديمه وقبوله، ويجب علينا أن نعيش مثل هذه الحالة في الصّلاة، فعندما تطول صلاتنا إلى عشر دقائق نتصوّر أننا قمنا بعمل عبادي جليل، يجب علينا أن نشعر بحالة اليأس من اللياقة ومقبوليّة أعمالنا وعباداتنا، ولكن من جهة أخرى يجب أن نستشعر بلطف الله

وفضله ورحمته ونعيش حالة الرجاء والأمل.

ومن جهة يجب علينا، في أعمالنا وامتثال تكاليفنا، أن نتحلّى بالصبر والمثابرة، ومن جهة أخرى نتضرّع إلى الباري تعالى ونستشعر الجزع لما قصّرنا فيه من أعمالنا وعباداتنا لئلا يبعدنا العجب عن محضر الباري تعالى وساحة لطفه وبذلك ترفض أعمالنا القليلة ولا تحظى بالقبول «كَأَنّ الوَعْدُ لَهُ صُنِعَ»، ما أجمل هذا التعبير وما أبلغه، فالشخص الذي يقف للصّلاة بين يدي الباري تبارك وتعالى عليه أن يعلم أنّ جميع وعود الله‌ تعالى قد تحقّقت بالنسبة إليه، ويجب أن يكون على يقين بأنّ الوعود الإلهيّة للمصلّين والمثوبات التي اُعدّتْ لهم قد تحقّقت جميعها، «وِالوَعِيدُ بِه وَقَعَ»، ومن جهة أخرى يرى نفسه مستحقا للعقوبات الإلهيّة التي قرّرها الباري تعالى للغافلين والمتساهلين والمتماهلين في صلواتهم، وهذه الحالة هي حالة عجيبة جدّا، بأن يرى الإنسان نفسه مستحقا للوعد والثواب الإلهي، وفي ذات الوقت يستحق الوعيد والعقوبات الإلهيّة.

4. «بَذَلَ عِرْضُهُ وَتمثِّل غَرَضَهُ»، «عروض» في اللغة تعني المال والمتاع والثروة والحياة أهم رأس مال وثروه يملكها الإنسان وكلما لديه من مال وثروة يعرضه أمام الله‌ تبارك وتعالى.

5. «وَتَمَثَّلَ غَرضُهُ»، أي أنّ غرضه ومقصوده يتمثّل في هذه المناجاة والدعاء والتوصل مع الله‌ تعالى.

6. «وَبَذَلَ فِي الله‌ المُهْجَةَ»، أي أنّه مستعد للتضحية في سبيل الله‌ بكلّ وجوده

7. «وَتَنَكَّبَ إِلَيهِ المَحَجَّةُ»، اختار الطريق الإلهي فقط ولم يسلك خطّ الضلالة والانحراف ويجتنب كلّ طريق لا يقوده إلى الله.

8. «غَيْرَ مُرْتَعِمِ بِارِتْغَامِ»، فعندما يضع أنفه في حالة السجود على التراب لا يجد في نفسه غضاضة ولا كراهة من ذلك، لا تقول إنّ هذا العمل صعب على

نفسي، فلماذا يجب عليَّ أن أضع جبهتي على التراب؟ يجب أن يشعر باللذة من هذه الحالة وهذا العمل العبادي.

9. «يَقطَعُ عَلائِقَ الإِهتَمامِ بِعْيَنِ مَنْ قَصَدَ وَإِلَيهِ وَفَدَ وَمِنْهُ استَرفَدَ»، فالمصلّي يقطع أي علاقة ورابطة في وجوده مع غير الله‌ ويحصر توجهه واتنباهه في مجال الارتباط مع الله‌ تعالى، وهذا الشخص الذي وقف للصّلاة عليه أن يعلم لمن قصد وعلى من يرد ويقف بين يديه وفي محضره؟ ومن أي أحد طلب الثواب، ومع أي أحد يتحدّث؟

«فَإِذا أَتَىْ بِذَلِكَ كَانَتْ هِي الصَّلاة الَّتِي بِها أَمَرَ وَعَنهَا أَخْبَرَ»، يقول تعالى: «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...»[1].

أيّها الأحبّة، لماذا لا تنهانا صلواتنا عن الفحشاء والمنكر؟ بسبب أنّ هذه الصّلاة لا تملك تلك الخصوصيّات الواردة في هذا الحديث الشريف، ولو أنّها كانت تتمتع بهذه الخصوصيّات فلا يمكن لمثل هذه الصّلاة أن لا تكون ناهية ومانعة من الفحشاء والمنكر، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: إنّ هذه الصّلاة هي التي تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، وفي ذيل هذه الرواية يقول أبوجعفر المنصور العباسي وهو يخاطب الإمام الصادق عليه‌السلام قائلاً: «يَاأَبَا عَبْدِالله‌ لا نَزَالُ مِنْ بَحرِكَ نَغْتَرِفُ وَإِلَيكَ نَزْدَلِفُ تُبَصَُّ مِنَ العَمى وَتَجْلُو بِنُورِكَِ الطَّخْياءُ، فَنَحنُ نُعُومٌ فِي سُبحَاتِ قُدْسِكَ»، وهكذا ترون أنّ هذا الخليفة العباسي، الذي قتل الإمام عليه‌السلام فيما بعد كيف يتحدّث مع الإمام عليه‌السلام والكلمات البليغة التي قالها في حقّ الإمام عليه‌السلام ؟


1. سورة العنكبوت، الآية 45.


102ـ علّة خوف وخشية الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في كتاب «عدّة الداعي» رواية: «رُويَّ أَنَّ إِبرَاهِيم عليه‌السلام كَانَ يُسمَعُ تَأَوُّهُهُ عَلَى حَدِّ مِيلٍ»[1]، إنّ ابراهيم عليه‌السلام كان في حال المناجاة والعبادة لله‌ يشتدّ به البكاء والتأوّه بحيث أنّه يسمع من مسافة بعيدة «حَتَّى مَدَحَهُ الله‌ تَعالَى بِقَولِهِ «إِنَّ إِبرَاهيمَ لَحلَيمٌ أَوَّاهُ مُنِيبٌ»[2]».

يجب أن نلتفت في حال القيام في الصّلاة أنّ هذه الصّلاة ليست فقط لقلقة لسان، بل يجب أن تقترن بحالة الإنابة والتوبة والبكاء، وقد جاء في سيرة الأكابر من العرفاء وحالاتهم أنّهم أحيانا يغمى عليهم من شدّة البكاء ولا يستطيعون اتمام الصّلاة.

وقد جاء في الرواية أنّ النبيّ إبراهيم عليه‌السلام كان يسمع له في الصّلاة صوت كصوت المرجل في حال الغليان: «وَكَانَ فِي صَلاةٍ يُسمَعُ لَهُ أَزِيز كَأَزيزِ المِرجلِ


1. كلّ ميل بمقدار أربعة آلاف ذراع وكلّ ذراع سبعين سانت متر، ولذا ميل واحد يساوي الألفين وثمنمائة متر.

2. سورة هود، الآية 75.

وَكَذَلِكَ كَانَ يَسمَعُ مِنْ صَدرِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله‌ عليه‌السلام مِثْلُ ذَلِكَ»، وطبعا ينبغي الالتفات إلى أنّ المقصود ليست تلك الحالة من البكاء التي تهدم الصّلاة، «وَكَانَتْ فَاطِمَةُ عليهاالسلام تَنْهَجُ فِي الصَّلاةِ مِنْ خِيفَةِ الله»[1].

وفي كتابه «آداب الصّلاة»[2] للإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه نرى عبارات مهمّة جدّا، وينبغي أن تقرأه بشكل متكرر، فهذه كلمات إنسان ربّاني قد أتعب نفسه في تهذيبها ووصل في سيره وسلوكه المعنوي والإلهي إلى مراتب عالية، يقول الإمام الخميني قدس‌سره: عليك أن تفكّر في حالات عليّ بن الحسين (زين العابدين عليه‌السلام ) ومناجاته لله‌ تعالى والأدعية اللطيفة التي علّم هذا الإمام عليه‌السلام كيفية آداب العبوديّة للناس، فأنا لا أقول إنّ مناجاة هذا الإمام الواردة في كتب الأدعية هي من أجل تعليم الناس، وأحد الآراء المذكورة أنّ هذه المناجاة والأدعية التي صدرت عن أئمّتنا عليهم‌السلام وما فيه من اظهار التقصير والذنوب أمام الله‌ تعالى هي من أجل تعليمهم عبادة الله‌ بأن يعبدوا الله‌ بهذه الصورة.

يقول الإمام الخميني قدس‌سره: إنّ هذا الكلام باطل ولا أساس له ونابع من جهل البعض بمقام الربّوبيّة ومعارف أهل البيت عليهم‌السلام، إنّ حالة الخوف والخشية لدى هؤلاء الأولياء أكثر وأشدّ من أي شخص آخر، وتلك الحالة من الخوف والخشية التي كان أميرالمؤمنين والإمام زين العابدين عليهماالسلاموسائر الأئمّة عليهم‌السلام يعيشونها لا تقبل المقارنة مع خشية الإنسان العادي أو مع علمائنا، فإنّ عظمة وجلالة الحقّ تعالى في قلوبهم أكثر وأشدّ تجليا من الآخرين، فالله‌ تعالى تجلى لهم بما لا نستطيع دركه ولكن يجب علينا أن نتعلم كيفيّة العبوديّة والسلوك إلى الله‌ منهم، وعندما يقف الإمام زين العابدين عليه‌السلام للصّلاة ويعيش هذه الحالة من الخشوع


1. مستدرك الوسائل، ج 4، ص 100، عدّة الداعي، ص 151.

2. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 152.

والخوف من الله‌ فنحن يجب علينا على الأقل أن نتشبه بهم، وعندما يكون حال إبراهيم عليه‌السلام كذلك يجب أن نكون مثله ولو بمقدار القليل.

نحن ندعي أننا من شيعة أميرالمؤمنين عليه‌السلام فما مقدار اقتراب صلاتنا من صلاة هذا الإمام عليه‌السلام ؟ يجب أن نسأل من أنفسنا ونجيبها وفي الغالب أننا سنشعر بالخجل والندم، فهيا بنا نتحرّك في بقية عمرنا والمهلة التي أمامنا أن نهتمّ باصلاح هذا الحال واصلاح صلاتنا.


103ـ الإمام زين العابدين عليه‌السلام قدوة العابدين


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، يقول: يجب علينا أن نقتدي في عبادتنا وعبوديّتنا، بعبادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام، فهذا الوجود وهذا الإمام المبارك يعدّ من أكبر النعم التي منّ الله‌ تعالى على عباده من أجل إفهامنا طريقة العبوديّة والسلوك إلى مقام القرب والقدس الإلهي، فعبادة الإمام زين العابدين عليه‌السلام وأدعيته وصلاته كلّها منّة من الله‌ تعالى على سائر الخلق حتّى يكون نموذجا وقدوة واُسوة في كيفية العبادة والتضرّع والوصول إلى الله، والمقصود من النعيم في الآية الشريفة: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ»[1]، هي نعمة الولاية التي يسأل عنها المرء يوم القيامة.

فإذا سئلنا في ذلك اليوم: لماذا لم تعرف هذه النعمة ولم تنتفع بتعليمات وتوصيات هذا الإمام؟ لماذا لم تكن أدعيتكم وصلواتكم مثل دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام وصلاته؟ فنحن لا نملك الجواب أمام الله‌ تعالى، ثمّ يقول الإمام


1. سورة التكوير، الآية 8.

الراحل قدس‌سره: «أيّها العزيز! الآن وأنت تملك المهلة والفرصة ورأس مال العمر والطريق مفتوح أمامك للسلوك إلى الله، فالآن وأنت تملك الوقت ورأس المال والطريق مفتوح وأبواب رحمة الله‌ مفتوحة أمامك وتملك السلامة وقوة الأعضاء والجوارح وتعيش في دار الزرع وعالم الملك، فعليك باستثمار هذه الفرصة»، ما أروع هذه الكلمات والتعبيرات البلاغية العميقة، فنحن الآن نعيش في عالم الزراعة وغدا يكون الحصاد، ولا يوجد في باب المعنويّات فصل خاصّ للزراعة.

إنّ عالم الدنيا هو دار الزرع دوما، ففي كلّ لحظة، سواءً في الليل أو في النهار، يجب على الإنسان أن يتحرّك للزراعة وتقديم أعماله الصالحة للعالم الآخر، يقول: «الآن وأنت تتوفرّ لديك جميع العوامل وتواجه القليل من الموانع في العبادة والطاعة والمشاكل الدنيويّة وبالتالي فإنّ التلوّث بالذنوب أقل والحجب على قلبك قليلة».

وبالنسبة للأشخاص الذين يملكون بحمد الله‌ إمكانية السير والسلوك المعنوي، فيجب عليهم أن يشحذوا الهمّة والعزم ويدركوا قدر هذه النعمة الإلهيّة وينتفعوا بها ويتحرّكوا في طريق تحصيل الكمالات الروحانيّة والسعادة الأبديّة.

وفي هذا المقطع يذكر الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، نقطة مهمّة جدّا ويقول: إنّ كلّ هذه المعارف الواردة في القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم‌السلام وما جاءوا به لهذه الطبيعة الظلمانيّة في الأرض وأناروا العالم بأنوارهم الملكوتيّة، فلماذا لا نستفيد نحن منها؟

ويقول قدس‌سره: يجب عليك استغلال الفرصة والسعى لتنوير أرض طبيعتك المظلمة بالنور الإلهي، وهكذا تنوّر نفوسنا وعيوننا وآذاننا ولساننا وقوانا الظاهريّة والباطنيّة بنور الله، هذه الأرض الظلمانيّة يجب أن تتبدل بأرض نورانيّة وسماويّة

وعقلانيّة، كما ورد في القرآن الكريم: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ...»[1]، و«وَأَشْرَقَتْ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا...»[2]، يقول قدس‌سره: طبقا للآية الاُولى فكلّ إنسان يجب عليه أن يستبدل وجوده وأرضه المظلمة بنور الله‌ ويجعلها أرضا نورانيّا، فإذا عمل الإنسان في الدنيا هذا العمل فإنّه سوف لا يواجه الظلمات والصعوبات والمصائب والعذاب والذلة يوم القيامة وسيكون يوم القيامة بالنسبة إليه يوم جليل وسعيد جدّا، وأمّا الأشخاص الذين عاشوا في عالم الدنيا حالة الظلمة وكانت أرضهم مظلمة فإنّهم سيزدادون يوما بعد آخر من الظلمة وستكون قيامتهم صعبة جدّا[3].


1. سورة إبراهيم، الآية 48.

2. سورة الزمر، الآية 69.

3. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 152.


104ـ الغرض الإلهي من فرض الصّلاة على العباد؟
العبادات، تجسيد التوحيد في ملك البدن


بسم الله الرحمن الرحيم

تبيّنت في بحث أسرار الصّلاة هذه النقطة، وهي أنّ العبادات الظاهريّة لها حقيقة خاصّة، والغرض من أداء هذه الظواهر العباديّة هو الوصول إلى تلك الأسرار والحقائق، وبدون رعاية هذه الظواهر لا يمكن التوصل إلى تلك الحقائق، والكثير من الأشخاص يسألون: ما هو غرض الله‌ تبارك وتعالى من الصّلاة؟ والسبب في هذا السؤال هو أننا قصرنا فكرنا ودركنا على هذه الظواهر وأنّ كلّ ما في الصّلاة والعبادة هو هذا الظاهر، أي هذا القيام والقعود والأذكار الظاهريّة، ومع هذا الحال قد يطرح هذا السؤال وهو: ما هو غرض الله‌ من هذه العبادة وماذا يستفيد الله‌ من هذا الظاهر، وكذلك ما فائدة هذه العبادة للإنسان؟

ولكن لو علمنا أنّ هذا الظاهر هو طريق لفتح أبواب الحقائق والمعارف أمامنا التي لا سبيل لنا لفهم تلك الحقائق بغير هذا الطريق، فالصّلاة لها حقائق ومعارف لا يمكن الوصول إليها إلاّ بهذا الظاهر والأعمال، وعلى رأس هذه المعارف مسألة

التوحيد، فمن أجل أن يتمكن الإنسان الاقتراب إلى حقيقة التوحيد بمقدار ممكن فالطريق الوحيد أمامه هو الصّلاة، وكلّ شخص يوفّق أكثر لأداء الصّلاة فإنّه سيتقرب أكثر من مقام التوحيد، وينقل الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه في كتابه «آداب الصّلاة» عن استاذه في العرفان المرحوم الشيخ الحاج محمّد علي شاه آبادي رضوان الله‌ تعالى عليه، إنّ العبادات في حقيقتها تجسيد وترسيخ للتوحيد في ملك البدن وفي باطن القلب، فالإنسان عند إتيانه بالعبادة يريد أن يحقّق التوحيد في جميع عالم ملكه ووجوده، وبدون هذه العبادة والصّلاة لا يتحقّق التوحيد في وجود الإنسان.

والنقطة التي يؤكد عليها الإمام الخميني قدّس سرّه في هذا المورد[1] هي: أنّ مقصد ومقصود الباري تعالى من أرسال الأنبياء والقرآن والأحكام والشرائع والكتب السماوية هو نشر التوحيد والمعارف الإلهيّة، فجميع هؤلاء جاءوا لإيصال الإنسان إلى مرتبة التوحيد وتخليصه من أجواء الكفر والشرك وتطهير باطنه من شوائب الانحراف والضلالة، ثمّ يقول: من الخطأ أن نقول إنّ جميع هذه البرامج السماويّة أعم من إرسال الأنبياء والكتب، وبيان الشرائع، والأحكام، والدساتير والمقررات، من أجل أنّ الإنسان يدخل الجنّة الماديّة ويتنعم بنعميها بعد هذا العالم ، بل إنّ هذه الاُمور مقدّمة لإيصال الإنسان إلى مقامات أعلى وأسمى ولفتح أبواب المعرفة الواسعة أمامه، فلو أنّ الإنسان وصل في عباداته إلى هذه المرتبة فإنّه لا يكتفي بالظاهر، وأساسا فإنّه يتجاوز هذه الظواهر ويعبرها ويوصل نفسه إلى الباطن والحقيقة، يجب علينا الالتفات إلى أنّ بسط هذه الأمور وإنزالها من بساط الرحمة الإلهيّة وانزال الكتب والملائكة وإرسال الأنبياء ليس هو من أجل تحقّق بعض الأمور الظاهريّة والتافهة كالأكل والشرب


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 153.

والمشي تحت ظلال الأشجار في الجنّة، إنّ غاية المعارف هي أنّ الإنسان مع إتيانه بهذه العبادة والامتناع عن الذنوب والمعاصي سيصل إن شاء الله‌ إلى مقامات عالية جدّا من العلم والمعرفة والنورانيّة في الآخرة، وهذه نقطة مهمّة جدّا يجب علينا الالتفات إليها.

ويقول الإمام الخميني رحمه‌الله: إنّ أمثالنا من الذين لم يتجاوزوا حدّ الحيوانيّة لا يفكرون سوى بالجنّة الجسمانيّة وإشباع البطن والفرج، ولكن ينبغي أن نتصوّر بأنّ السعادة منحصرة بهذه الأمور وأنّ جنّة الخلد محصورة بهذه الجنّة الحيوانيّة بل إنّ للحقّ تعالى عوالم لا تخطر على بال بشر ولا تراها عين ولم تسمعها اُذن، ولذلك فإنّ أهل المحبّة والمعرفة لا يهتمّون بمثل هذه الجنّة الماديّة والحيوانيّة، بل يهدفون إلى جنّة اللقاء وجنّة الحضور.

وهكذا ترون إلى أي درجة ومرتبة توصل الصّلاة الإنسان في سيره المعنوي؟ فهذه الصّلاة إذا اقترنت برعاية آدابها وخصوصيّاتها فإنّ غايتها التوحيد والوصول بالإنسان إلى مقامات أسمى وأعلى من هذه الجنّة الظاهريّة، ونسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا هذه النعمة إن شاء الله.


الفصل الخامس: أســرار الـنيـّة



105ـ النيّة هي العزم على أداء الفعل


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد بيان أسرار القيام، يأتي الدور إلى بيان موضوع النيّة في الصّلاة، فثمّة عدّة أمور يجب بيانها في مسألة النيّة، وأوّلها: ما هي حقيقة النيّة؟ إنّ حقيقة النيّة عبارة عن العزم على أداء فعل معيّن، فمجرّد أن يقصد الإنسان الإتيان بعمل معيّن تتحقّق النيّة، ولذلك فإنّ حقيقة النيّة لا تتوقف على التلفظ، بحيث إنّه لو لم يتلفظ بالنيّة بلسانه فإنّ النيّة لا تتحقّق، إنّ حقيقة النيّة هي ما تقدّم من وجود عزم في نفس الإنسان على القيام بفعل معيّن، مثلاً عندما يقرّر الإنسان أن يمشي خطوات، فإنّ نيّة المشي تتحقّق حنيئذٍ، ولو أنّه قرّر أن يجلس فإنّه نوى الجلوس.

وعلى هذا الأساس فلا يخلو أي فعل اختياري من النيّة، ولا يمكن أن يصدر أي فعل وعمل بدون النيّة، والنتيجة عندما يريد الإنسان القيام بالصّلاة فهذه هي النيّة للصّلاة بمجرّد أن يقرّر الإنسان القيام لعبادة الله‌ فإنّ هذه هي النيّة، فلا ينبغي أن نبتلي بالوسوسة في هذه المسألة، وللأسف فإنّ بعض الجهّال والأشخاص الذين يعيشون حالة التقدّس، فإنّهم يبتلون بهذه الحيلة الشيطانيّة وخاصّة في

العبادات وبالأخص في الصّلاة، فالشيطان ومن أجل التصدي لإيمان الإنسان يتبع حيل متعددة ومختلفة، فتارة يزرع اليأس في الإنسان ويجعله يترك أصل العمل العبادي، ولو أنّ هذه الحيلة لم تؤثر في البعض في المرحلة الاُولى، فإنّه في المرحلة الثانية يورطه بمسألة الرياء والعجب والغرور.

في المرحلة الثالثة، يتحرّك الشيطان لالقاء الشك والترديد والوسوسة، بأن يقول له هل أتيت بالنيّة أم لا؟ وهل أنّ نيّتك صحيحة أم لا؟ وهل قصدت القربة أم لا؟ وعلى هذا الأساس فإنّ مرادنا من النيّة هو قصد أداء الصّلاة والعزم على الاتيان بالصّلاة، فالشخص الذي يقوم ويريد أن يكبّر للصّلاة فإنّه قصد الاتيان بالصّلاة، ولا ينبغي أن يبتلي بالوسوسة «أنني نويت للصّلاة أم لا»، وللأسف نرى أحيانا أنّ البعض يقولون «الله‌ أكبر» ثمّ يقطعون الصّلاة بحجّة أنّه لم ينو نيّة صحيحة، فهذه الوساوس، كما ورد في الروايات الشريفة، هو عمل شيطاني.

في الرواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام: «لا تُعَودِّوا الخَبيثَ مِنْ أَنْفُسِكُم بِنَقضِ الصَّلاةِ فَتُطمِعُوه»، فكلّ مرّة تقطع الصّلاة فإنّ طمع الشيطان سيزداد «فَإِنَّ الشَّيطَانَ خَبِيثٌ يَعتَادُ لِما عُوِّدَ»، فعندما تتعوّد أن تقطع صلاتك بسبب مسألة النيّة، فإنّ الشيطان سيعود إليك مرّة ثانية لتقطع الصّلاة أيضا.

«إِنَّما يُريدُ الخَبِيثُ أَنْ يُطاعَ فإِذا عُصِي لَمْ يَعُد إِلى أَحَدِكُم»، ولذلك عندما لا تلتفت إليه ولا يطيعه في وساوسه سيشعر باليأس ويتركك، ولكن إذا شككتَ في الصّلاة هل نويت للصّلاة أم لا؟ فإذا لم تهتمّ لذلك وتستمر بصلاتك فإنّ الشيطان سوف يتركك وتخلص من التورط بالشك والوسوسة، وأمّا لو التفت إلى وسوسته وأطعته فيما يقول وقطعت صلاتك فإنّ الشيطان سيعود مرّة أخرى في صلاتك الثانية، أو يبقى معك في هذه الصّلاة ويعمل على بث الشك والتردد في نفسك، وأحيانا يستغرق المصلّي ساعة كاملة لينهي تكبيرة واحدة، ويقول دائما إنني لم

أنوي للصّلاة بشكل صحيح، لماذا نصرف عمرنا الغالي في تحصيل هذه الأمور الظاهريّة ونتلف عمرنا باطاعة الشيطان ونفسح له المجال للتصرف في نفوسنا وأفكارنا والحال أننا يجب أن نهتمّ للحصول على الحقائق والمعنويات؟

إذن لا ينبغي لنا في مسألة النيّة أن نطيع ونتبع هذه الوساوس، وكلّ عمل اختياري لابدّ وأن يكون مقترنا بالنيّة، ولا يجب أن تكون النيّة بالتلفظ، فبمجرّد أن تقوم للصّلاة فهذا يعني أنّك نويت للصّلاة والاتيان بها بهذا العمل، وهذا المقدار من النيّة يكفي للصّلاة، ونرى في كلمات الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه التأكيد على هذه النقطة، وهي أنّ الوسواس بالنيّة أعجب وأغرب من جميع الوساوس، فلو أنّ الإنسان لم يلتفت وأصغى إلى كلام الشيطان فسوف يجرّه إلى عواقب وخيمة، فأنتم ترون أنّ الشخص إذا أراد أن يقوم بعمل اختياري بدون نيّة فهذا غير ممكن عقلاً ولو جمع كلّ قواه في طيلة عمره أن يأتي بعمل بدون نيّة لا يستطيع لذلك سبيلاً، ولكن‌ترى شخصا مريضا وضعيف العقل ينتظر قبل كلّ صلاة مدّة مديدة لكي يأتي بالنيّة لصلاته، وهذا الشخص مثل ما لو فكّر الإنسان لمدّة في كيفيّة النيّة عندما يتناول طعام الغذاء أو عندما يتوجّه إلى السوق، وهذا المسكين الذي ينبغي أن تكون صلاته معراج القرب ومفتاح السعادة له ويهتمّ بالتأدّب بالآداب القلبيّة ويطلع على أسرار هذه اللطيفة الإلهيّة ويعمل على تكوين ذاته وتأمين حياته، فهو يغفل عن جميع هذه الأمور، بل ليس فقط الاهتمام بهذه الأمور، بل أنّه يراها باطلة جميعا، يعني أنّه لا يتوجّه أبدا لهذه الأسرار والحقائق ويصرف رأس ماله العظيم في خدمة الشيطان واطاعة الوسواس الخنّاس ويجعل من عقله، وهو النعمة الإلهيّة ونور الهداية، محكوما بحكم إبليس[1].


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 157 ـ 158.

وهكذا ترون كيف أنّ الوسواس مذموم وخاصّة الوساوس بالنيّة، لأنّه يحجب الإنسان من أصل العمل والعبادة ويبعده عن حقيقة هذه العبادة، فإذا شعر الإنسان بأدنى الوسواس في نفسه وذهنه، فيجب عليه أن يفكّر في التخلص منه حتما ومهما بذل من تعب ورياضة نفسيّة، ولا يتصوّر مثل هذا الاحتياط في العمل أنّه من التدين، فالشخص الذي يقطع صلاته مرّات عديدة بحجّة أنّه لم ينو للصّلاة، فإنّه مطيع للشيطان ولا يتصوّر أنّ ذلك من التدين والتقدس وأنّه سيحظى بثواب أكثر من الله.


106ـ الإخلاص وقصد القربة


بسم الله الرحمن الرحيم

إحدى النقاط التي تطرح في مورد النيّة، أنّ المصلّي يجب أن يأتي بصلاته وعمله العبادي بإخلاص وقربة إلى الله‌ تعالى، يعني أنّه يقصد عمله هذا التقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى.

وبعبارة أخرى أنّه يصلّي بإخلاص كامل لله‌ تعالى، وطبعا تعلمون قصد القربة تختلف عن مسألة النيّة في أصل الصّلاة، فلو أنّه كان ينوي مع نيّة الصّلاة غير قصد التقرّب إلى الله‌ فإنّ هذه الصّلاة باطلة، وبالنسبة للإخلاص فهنا مسائل بحاجة إلى التأمل فيها والدقّة، ماذا يعني الإخلاص؟ وماذا يعني التقرّب إلى الله؟ وما هي مراتب الإخلاص لله‌ تعالى؟ ذكر أولياء الله‌ والعرفاء الكبار وعلى رأسهم الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه ثمان مراتب للإخلاص، وبعد أن نعلم بمراتب الإخلاص تأتي النوبة إلى تحقّق هذه المراتب العالية في أعمالنا وعباداتنا وبخاصة مرتبة كمال الآخلاص.

إنّ حقيقة الإخلاص عبارة عن أداء العمل بعيدا عن أي شائبة وهدف باعث

غير امتثال أمر الله‌ تعالى وبأن يأتي الإنسان بهذا العمل لله‌ تعالى فقط لا بقصد الرياء والتظاهر أمام الآخرين، وأن يرونه يصلّي صلاته في أوّل الوقت ولكسب رضاهم والفات نظر المخلوقين، بل لا يكون قصده بدافع العجب والغرور، فلا ينبغي أن يصلّي المؤمن صلاته ويقول لنفسه أنني اُصلي أوّل الوقت أو اُصلي جماعة ويحدّث نفسه من موقع العجب والرضا عن نفسه، فهذه الأمور تتنافى مع الإخلاص، ومعنى الإخلاص هو أنّ المصلّي لا يفكّر بشيء غير الله‌ تعالى.

يقول القرآن الكريم: «أَلاَ لله‌ الدِّينُ الْخَالِصُ...»[1]، ونستوحي من هذه الآية الشريفة أنّ الدين الخالص هو ما يكون لله‌ تعالى، أي الدين الذي لا يكون فيه شائبة غير اللهي، الدين الذي تكون ماهيّته وخصوصيّاته من البداية إلى النهاية جميعا لله‌، الدين الذي لا يوجد فيه شائبة شيطانيّة وغير إلهيّة، ويستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ الله‌ تبارك وتعالى لا يقبل إلاّ ما كان خالصا له ويقصد به وجهه فقط، فالدين الخالص والقلب السليم، هو القلب الخالص: «يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله‌ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»[2]، وقد ورد في بعض الروايات أنّ القلب السليم يعني القلب الذي لا يوجد فيه شيء غير الله‌ تعالى، فإذا أردنا أن نصلّي وتكون صلاتنا مقبولة ونافعة لنا في عالم الدنيا والآخرة، فيجب أن تكون مقرونة بالإخلاص ولا توجد فيها أي شائبة غير الله‌ تعالى.

ويستفاد من الآية الشريفة: «أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...»، الدين الصحيح هو الدين الخالص، فلو لم يكن الدين خالصا وكانت فيه أذكار وأهداف غير إلهيّة فمثل هذا الدنيا لا يتعلّق بالله‌ تعالى ولا يكون مقبولاً عنده.


1. سورة الزمر، الآية 3.

2. سورة الشعراء، الآية 88 و 89.


107ـ الإخلاص، أن يكون العمل قابلاً للعرض على الله


بسم الله الرحمن الرحيم

يستفاد من آيات القرآن الكريم فيما يتّصل بحقيقة الإخلاص أنّ الله‌ تبارك وتعالى يقبل الدين الخالص، وأساسا إذا لم يكن العمل خالصا لله‌ فإنّه غير قابل للعرض بين يدي الله‌ تبارك وتعالى، لا نقول إنّ الله‌ لا يتقبّل هذا العمل، لأنّ مثل هذا العمل أساسا غير قابل للعرض بمحضر الباري تبارك وتعالى.

والإنسان المصلّي أو أي شخص أدّى عبادة معيّنة يجب أن يلتفت أنّه لو لم يكن عمله خالصا لله‌ فإن هذا العمل من شأنه أن يتبدل إلى ظلمة وبالتالي لا يمكن عرضه على الباري تبارك وتعالى الذي هو نور.

يقول القرآن الكريم: إنّ الدين الخالص لله‌، يعني إذا كان الدين يحتوي على أفكار نفسانيّة وشيطانيّة وغير إلهيّة فإنّه لا يحقق ارتباطا مع الله‌ تبارك وتعالى، والعمل الخالص يكون هذه الصورة، وبعبارة أخرى، إذا لم يتمتع الشخص بالإخلاص في صلاته فلا يستطيع القول بأنّني صلّيت، لأنّ عمله لا يتّصف بعنوان الصّلاة ليمكن عرضه على الله‌ تبارك وتعالى، يقول القرآن الكريم في الآية 5 من

سورة البيّنة: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله‌ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»، فقد أراد الله‌ تبارك وتعالى من اليهود والنصارى أن يتركوا الشرك ويعبدوا الله‌ فقط، فلا موجود آخر يستحق العبادة سوى الله‌ تعالى، ولذلك يجب أن تنطلق العبادة من موقع الإخلاص، وهذا الأمر لا يختصّ بأهل الكتاب، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى طلب من جميع البشر عبادته بإخلاص.

ونقرأ في سورة الشورى الآية 20 قوله تعالى: «... وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤِهِ مِنْهَاوَمَا لَهُ فِي الاْخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ...».

وجاء في الحديث الشريف عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «لِكُلِّ اُمرءٍ مَا نَوى»[1].

«وَمَنْ كَانَ هِجرَتُهُ إِلى الله‌ وَرَسُولِهِ فَهِجرَتُهُ إِلى الله‌ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَ هِجرَتُهُ إِلى الدُّنيا يُصِيبها أَو امْرَأَةٍ يُنكِحُها فَهِجرَتُهُ إِلى مَا هاجَرَ إِليهِ»، كالمجاهد الذي يبتغي من جهاده الدنيا والسلطة وتحقيق الميول النفسانيّة، فمثل هذا الشخص لا يكون عمله وجهاده مقبولاً عند الله.

وهذا الحديث الشريف يتضمّن معاني واضحة جدّا، فالصّلاة تعتبر أحد مصاديق الهجرة إلى الله‌ وإلى رسوله، فالصّلاة هي حركة نحو الله‌ وورودها إلى محضر القدس الإلهي، فهل نحن واقعا نفهم هذا المعنى حين صلاتنا أو قبل الصّلاة؟ وأننا نريد بهذا العمل الهجرة إلى الله‌ تعالى؟ هل نستطيع أن نقول لأنفسنا بعد الصّلاة نحن هاجرنا إلى لله‌؟ هل كنّا نعيش حالة الإخلاص في صلاتنا؟ ومعنى الإخلاص هو أنّ عملنا يمثّل هجرة وحركة نحو الله‌ تعالى، أمّا لو كان عملنا بدوافع غير إلهيّة فإنّه خارج عن دائرة الإخلاص، فلو أنّ الإنسان تأمّل في هذا الحديث الشريف فسوف يستوحي منه نقاط أخرى، والصّلاة هي أحد المصاديق العلميّة للهجرة الواقعيّة، تلك الهجرة التي يقبلها الله‌ تعالى ويباركها،


1. مستدر الوسائل، أبواب مقدّمة عبادات، الباب 5، ح 5.

وقد ورد في بعض الآيات القرآنيّة الإشارة إلى هذه المسألة مثل: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى الله‌ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله...»[1]، فالصّلاة عبارة عن هجرة وحركة نحو الله، ومن لم تكن حركته نحو الله‌ فلا تسمى هجرة، ولا توجد فيها حقيقة الهجرة، والإخلاص في الصّلاة هو أن نكون مهاجرين إلى الله‌ ونعيش أجواء الهجرة إلى الله‌ في صلاتنا إن شاء الله.


1. سورة النساء، الآية 100.


108ـ الإخلاص، مصداق الهجرة نحو الحقّ


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول تعالى في الآية الشريفة: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى الله‌ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله...»[1]، فلو أنّه مات في هذا الطريق فإنّه سيحصل على أجره وثوابه من الله‌ (كناية عن كثرة هذا الأجر والثواب) والمقصود هنا ليس الهجرة الظاهريّة فقط التي ينتقل بها الإنسان من مكان إلى آخر ببدنه، فلو أنّ شخصا ترك محلّ سكانه أو محلّ عمله بسبب وجود حالات الفسق والفجور، فتركه للسكنى في محلّ آخر يعيش فيه أهل الإيمان والعبادة، فهذه هجرة ظاهريّة، أمّا الهجرة بالمعنى الدقيق لها أوالهجرة الباطنيّة «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ...»، فالمقصود من هذا البيت ليس هو بيت سكناه ومحلّته المكانيّة الظاهريّة، بل المقصود من هذا البيت هو بيت النفس، فالشخص الذي يترك أهواءه النفسانيّة وتمنياته الشيطانيّة ونوازعه الذاتيّة ويهاجر إلى الله‌ ورسوله بأن يترك تلك الآمال والأهواء النفسانيّة يتحرّك في خطّ الطاعة وامتثال ما يريده الله‌ منه، فهنا تكون


1. سورة النساء، الآية 100.

حركته نحو الباري تعالى ويكون سفره هذا سفرا باطنيّا، فالهجرة بالمعنى الأوّل هي السفر الظاهري، ولكن طبقا لهذا المعنى الثاني فهي هجرة معنويّة ومبدأ هذا السفر والهجرة هو بيت القلب والنفس وترك الميول النفسانيّة والآمال والأهواء والأنانيّة وتكون غايته وهدفه الوصول إلى حضرة الحقّ تبارك وتعالى.

إذا هاجر الإنسان من بيت نفسه وترك نفسه جانبا، وعلى حدّ التعبير الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه وحشره مع أجداه الطاهرين في كتابه «آداب الصّلاة»[1]، إنّ الإنسان في هذه الهجرة الباطنيّة يترك «إِنيَّتَهُ ومنيّته» وأساسا لا يعرف شيئا يدعى بالأنا والنفس، حتّى فيما يتّصل بحركته المعنويّة إلى الله‌ تعالى، لا يقول إنني قريب الوصول إلى مقامات معنويّة، فهذه الأنانيّة لا ينبغي أن تكون في مسيرة الإنسان السالك في خطّ المعنويّة، والشخص الذي يريد أن يكون ذائبا في الله‌ تبارك وتعالى فلا ينبغي أن تكون فيه حالة الأنا ولا يعتبر لها قيمة، لأنّ هذه الأنا هي التي تجعل الإنسان في قفص الميول والأهواء النفسانيّة، وهذه الأنانيّة تتسبّب في أنّ هذا الشخص سوف يغادر نفسه في هذا السفر ليعود إلى نفسه مرّة أخرى لا إلى الله‌ تعالى، وكأنّه ينتقل في حركته من زاوية إلى زاوية أخرى في بيت نفسه ويسافر في باطن نفسه من جهة إلى أخرى، فهذا الشخص ليس مسافرا إلى الله، فمعنى المسافر إلى الله‌ والإخلاص في هذا السفر لله‌ تعالى هو أن يترك الإنسان جميع أموره الدنيويّة وهذه الجهات النفسانيّة.

وعلى هذا الأساس فالإخلاص إنّما يتحقّق فيما لو كانت الهجرة إلى الله‌ واقعا، وأن يقوم الشخص بعمل يقصد به وجه الله‌ بعيدا عن أي شائبة من شوائب الأنانيّة والدوافع غير الإلهيّة.


1. اُنظر، آداب الصّلاة، ص 162،


109ـ الإخلاص، مانع من تسلط الشيطان


بسم الله الرحمن الرحيم

«قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»[1]

يجب على المصلّي الإخلاص في نيّته وأن يصلّي لله‌ فقط، وهذا الإخلاص من شأنه أن يقطع يد الشيطان عنه ولا يطمع فيه وفي عبادته، ولو أحاطت بالمصلّي الوساوس الشيطانيّة والأفكار غير الإلهيّة، والتصوّرات الماديّة والدنيويّة في صلاته، فهذا يعني أنّه يفتقد إلى الإخلاص في نيّته، ومن أجل تحصيل حالة الإخلاص واقعا وبالتالي نقطع طمع الشيطان فينا، لأنّه أقسم أن يغوي جميع الناس: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»، والعزّة مظهر قدرة الله‌ تعالى، وهذا القسم لغرض إظهار قدرة الشيطان نفسه بحيث يحلف بعزّة الله‌ تعالى، ممّا يوحي للناس بأنّني أستطيع أن أغوي جميع عبادك إلاّ المخلصين منهم.

وقد وردت عدّة تأكيدات في هذه الآية الشريفة لغرض إيقاظ الإنسان إلى هذه الحقيقة، فالقسم، والفعل المضارع المقترن باللام، ونون التأكيد، وكلمة


1. سورة ص، الآية 82 و 83.

أجمعين، كلها تدلّ على التأكيد، يعني أنّ الشيطان لا يتركنا لحظة واحدة في سبيل العمل على إضلالنا ويسعى دوما في الوسوسة للإنسان ليل نهار، وفي أيّام الشباب والشيخوخة وفي جميع الحالات، فالإضلال هو عمل الشيطان، ولكن نفس هذا الشيطان ذكر استثناء لقسمه وعمله «إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»، أي أنني أستطيع إغواء جميع الناس إلاّ فئة واحدة منهم فإنّني لا أستطيع إغوائهم ولا أتمكن من اصطيادهم في شباكي وهم عبادك المخلصون، فلو أنّ الإنسان في هذه الصلوات اليوميّة حقق حالة الإخلاص واقعا في نفسه وصار من عباد الله‌ المخلِصين والمخلَصين فإنّ الشيطان سيبتعد عنه وييأس من إغوائه ولا يستطيع إضلاله.

إنّ الإخلاص في الصّلاة إلى هذه الدرجة من الأهميّة والتأثير ويجب علينا أن نستمد العون من الله‌ تعالى ليهبنا الإخلاص في النيّة لتكون أعمال وعبادتنا بقصد القربّة الكاملة.


110ـ آثار الإخلاص


بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «مَا أَخْلَصَ عَبْدُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَربَعِينَ صَباحا إِلاّ جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ»[1]

النقطة المهمّة، والتي وردت التأكيد عليها كثيرا في الروايات، أنّ الصّلاة وجميع العبادات يجب أن تقترن بالإخلاص، وأوّل أثر لهذا الإخلاص إيجاد القابليّة في العمل ليكون جديرا بالعرض على الباري تعالى، والعمل بدون إخلاص لا يساوي شيئا ولا قيمة له وكالعدم، وبالتالي ليست له القابليّة والجدارة على تقديمه في محضر الله‌ تعالى.

والأثر الثاني للإخلاص، أنّ الشيطان سوف ييأس من إغواء هذا الإنسان ويتركه ويبتعد عنه.

والأثر الثالث، إذا التفت إليه المصلّي واقعا وطبقه في كلّ عبادة، أنّ الإخلاص ليس فقط يؤثر في ذلك العمل نفسه، فليس الإخلاص أن يجعل من هذا العمل


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 67، ص 242.

قابلاً للعرض على الله‌ تبارك وتعالى وينتهي كلّ شيء، كلاّ... إنّ هذا الإخلاص يؤدّي إلى أن تظهر آثار هذا العمل على نفس المصلّي وسلوكياته وأعماله الأخرى، فمضافا إلى آثار الإخلاص على هذه الصّلاة، فإنّه يؤدّي إلى تأثيرات إيجابيّة أخرى في حياة المؤمن، فمن هذه الجهة من الضروري أن يعلم المصلّي ماذا يترتّب على قصد القربة والإخلاص من آثار وبركات.

وأحد هذه الآثار والبركات ما ورد في الرواية المعروفة: «مَنْ أَخلصَ للهِ أَربَعِينَ صَباحا جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ»[1]، فلو أنّ الإنسان سلك في أعماله وحركاته وسكناته من موقع الإخلاص لله‌ لمدّة أربعين يوما، يعني أن يكون طيلة هذه المدّة مخلصا لله‌ تعالى في نومه ويقظته وفي سماعه وفي كلامه وفي عمله وكتابته، وفي عباداته وفي نظراته وكلّ عمل يصدر منه يكون لله‌ تعالى حتّى الإشارة التي تصدر منه أو المعاملة التي يعقدها مع الآخرين، وكذلك عندما يتكلّم مع أبنائه وعندما يتناول طعامه، كلّ ذلك يكون لله‌ تعالى، فحسب هذه الرواية الشريفة فإنّ ينابع الحكمة ستنفجر من قلبه وتجري الحكمة على لسانه.

وهذه الرواية تتضمّن مسائل مهمّة جدّا ونقاط عميقة جدّا، وتلاحظون ما هي ينابع الحكمة وكيف تنطلق من قلب الإنسان وتجري على لسانه؟ وهذه المسألة تستدعي بحثا مستقلاً ومنفصلاً عن بحث أسرار الصّلاة.

ولكن النقطة التي نستوحيها من هذا الحديث الشريف أنّ المصلّي يجب أن يعلم أنّه لو حقّق الإخلاص في صلاته فسوف تترتّب عليه آثار وثمرات كثيرة في حياته، فليس فقط أنّ الإخلاص يتسبّب في قبول صلاته من قِبل الباري تبارك وتعالى ثمّ لا أثر آخر له، فبعد أن يتحقّق الإخلاص في عمل المؤمن تبدأ البركات والثمرات في الظهور، وأحد هذه البركات والثمرات إيجاد النورانيّة في


1. مصباح الشريعة، ص 355.

وجود الإنسان، وعادة يشعر المصلّي بعد الانتهاء من صلاته بحالة نورانيّة في نفسه ويجب عليه حفظ هذه الحالة وعدم التفريط بها.

إلى هنا تحدّثنا بشكل مختصر عن المسائل التي تتعلّق بحقيقة الإخلاص وآثاره، وأمّا ما يتعلّق بمراتب الإخلاص، فالإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه يذكر في كتابه الشريف «آداب الصّلاة» سبع مراتب للإخلاص في الصّلاة ويجب علينا الإشارة إلى جميع هذه المراتب، بداية يجب أن نعلم ما هي مراتب الإخلاص؟ وبعد ذلك نتحرّك على صعيد العمل والتطبيق، فالالتفات إلى هذه المراتب في الصّلاة يجلب اللذة والبهجة للمصلّي ويساعده في الوصول إلى مراتب أعلى وبالتالي الحصول على عنايات وبركات إلهيّة أكثر.


111ـ مراتب الإخلاص

1. تصفية العمل من رضا المخلوقين

2. عدم جعل العمل وسيلة للأغراض الدنيويّة


بسم الله الرحمن الرحيم

أوّل مرتبة للإخلاص: عندما نريد الاتيان بعمل في سبيل الله‌ يجب أن نعلم أنّ المهمّ بالنسبة لنا في هذا العمل هو طلب رضا الله‌ تبارك وتعالى، ولا ينبغي أن يصدر منّا هذا العمل من أجل فرح الآخرين وكسب رضا المخلوقين، والفات نظرهم إلى عملنا، وهذا الشيء وللأسف نتورط فيه أحيانا، ففي بعض الأوقات عندما يصلّي الإنسان بحضور الآخرين فإنّه يصلّي بشكل آخر، وتكون قراءته في الصّلاة بنحو آخر، فلو رأينا أنّ صلاتنا عندما نكون لوحدنا في المنزل تختلف عن صلاتنا عندما نكون في مجلس ومع الآخرين، فهذا يعني أننا لا نملك الإخلاص في صلاتنا، وهذا معنى الرياء المبطل للصّلاة وللعمل العبادي، فلو أنّ الإنسان قام بعمل عبادي لكسب نظر الآخرين، مثلاً يصلّي ليقال عنه أنّه مسلم أو متدين أو يصلّي لكي يقوي علاقته وإرتباطه معهم ويحقّق لنفسه الاحترام منهم،

فهذا لا ينسجم مع الإخلاص.

فأوّل مرتبة الإخلاص، أن يحرز الإنسان من تلويث عمله بالرغبة في كسب رضا الآخرين، وعليه أن يطهّر عمله من ذلك ولا يهتمّ بهم وبوجودهم، فسواءً رضي الآخرون من عمله أو لم يرضوا، وسواءً استاءوا منه أو مدحوه، وسواءً التفتوا إليه أم لم يتلفتوا، فالمؤمن يجب عليه أن يأتي بصلاته على كافة الحالات، وأحيانا يكون الإنسان في مجلس وقد دخل وقت الصّلاة ومضى عليه مدّة ولم يصلّ، فيقول في نفسه، إذا قمت من مكاني وصلّيت أمام هؤلاء الأشخاص فسوف أخسر سمعتي ويقلّ شأني، فنفس هذا التصوّر والتصوير يعدّ مشكلة لدى المؤمن، فعندما يكون المعيار للإنسان هو كسب رضا الله‌ تعالى فلا ينبغي أن يلتفت ويهتمّ لهذه الأمور، ولا يبالي ماذا يقول عنه هؤلاء الناس، بل يجب أن يتوجّه بقلبه وفكره إلى الله‌ تعالى، وهذه أوّل مرتبة من مراتب الإخلاص.

المرتبة الثانية للإخلاص، إنّ الإنسان في صلاته أو سائر أموره العباديّة لا يجعلها وسيلة لتحصيل رغباته وحاجاته الدنيويّة، مثلاً إذا صلّى الشخص بهدف أن يرزقه الله‌ تعالى أو يقول إنني اُصلّي صلاة أوّل الشهر ليبقى بدني سالما طيلة هذا الشهر فهذا العمل وهذه النيّة لا تتناسب مع الإخلاص، صحيح أنّ العبادات لها لكلّ واحدة منها آثار خاصّة، فصلاة الليل تؤثر في زيادة الرزق وفي العزّة والنورانيّة في الظاهر والباطن، ولكن إذا صلّى المرء صلاة الليل من أجل أن يكون وجهه نورانيّا أو يزيده الله‌ من الرزق، فإنّ مثل هذه الصّلاة لا تكون مقترنة بالإخلاص، وبعض الفقهاء ذهبوا إلى أنّ مثل هذه النيّة مخلة في صحّة العمل، فلو قال شخص إنني اُصلّي لغرض أن يزيد الله‌ في رزقي أو أصوم ليكون بدني سالما فهذا مخلّ بصحة العمل، ومثل هذا العمل لدى أهل المعرفة هو عبارة عن معاملة وتجارة، لأنّ هذا المصلّي لم يقصد القربة إلى الله‌ في صلاته بل قصد سعة الرزق،

أو صام لحفظ سلامته البدنيّة، فهذا النوع من التجارة وليس العمل بدافع القربة إلى الله، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الإخلاص، إذن المرتبة الاُولى لابدّ للإنسان من تصفية وتنقية عمله من كسب رضا المخلوقين، وفي المرتبة الثانية، أن لا يجعل عمله طريقا ووسيلة للحصول على غايات دنيويّة ومقاصد غير إلهيّة، فكلّ ذلك مخلّ بالإخلاص.


112ـ مراتب الإخلاص
المرتبة الثالثة: أن لا يقصد الأجر والثواب


بسم الله الرحمن الرحيم

المرتبة الثالثة للإخلاص: أن لا يقصد من عبادته وصلاته الحصول على الجنّة وما جعل الله‌ للمؤمنين فيها من الحور والقصور والبساتين والأنهار والأشجار، ولا يهدف من صلاته أن يرزقه الله‌ لكلّ صلاة قصرا في الجنّة أو يحصل على بساتين تجري من تحتها الأنهار، وبعبارة أخرى أن لا تكون صلاته للوصل إلى المنافع الظاهريّة ولو في عالم القيامه، ولا فرق بين أن يقصد الإنسان بصلاته أغراضا وغايات ماديّة في هذه الدنيا أو في تلك الحياة الآخرة، ومن هذه الجهة فإنّ كلا القصدين والغايتين عبارة عن كسب وتجارة، وهذه هي عبادة التجّارة.

وجاء في رواية عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام قال: «فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى ابتِدائِكَ بِالنِّعَمِ الجِسامِ، وَإِلهَامِكَ الشُّكْرَ عَلَى الإِحسَانِ والإِنعَامِ»[1]، في هذه المرتبة من الإخلاص لا ينظر المصلّي إلى الأجر والثواب المادّي والظاهري كالحور


1. الصحيفة السجاديّة، ص 152 الدعاء 32.

والقصور والثمار والأشجار وأنهار الجنّة وما إلى ذلك، فمثل هذا التوجّه إلى النعم الماديّة ناشى‌ء من قلّة معرفة المصلّي بالله‌ تبارك وتعالى.

يجب على الإنسان في حال الصّلاة التوجّه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ صلاته وحضوره بين يدي الله‌ هو توفيق إلهي وعناية ربّانيّة من الله‌ تعالى له، وبهذا المعنى لا يعتقد هذا المصلّي أنّه يستحق الأجر والثواب على هذه الصّلاة، والويل للشخص الذي يتصوّر بعد صلاته أنّه يستحق الأجر والثواب عليها ويطلب من الله‌ أجره وثوابه.

ونقرأ في الباب 76 من كتاب «مصباح الشريعة» في بحث الإخلاص أنّ الإمام عليه‌السلام يقول: «أَدْنَى حَدِّ الإِخلاَصِ بَذْلُ العَبْدِ طَاقَتَهُ، ثُمّ لا يَجعَلُ لِعَمَلِهِ عِنْدَ الله‌ قَدْرا فَيُوجِبَ بِهِ عَلَى رَبِّهِ مُكَافَأَة بِعَمَلِهِ»[1]، فلو تصوّر أحدهم أنّه يستحق الأجر والثواب على صلاته فيجب على الله‌ أن يعطيه الأجر والثواب، فهذا يعني أن يرى لعمله قيمة واعتبارا، في حين أنّ الإنسان المخلص يقول: إنني لم أفعل شيئا يستحق الأجر والثواب وكلّما لدي فهو توفيق من الله‌ ورعايته ولطفه وإحسانه.

ولو أنّك سعيت لخدمة شخص تحبّه ليل نهار فإنّك مع ذلك تقول لم أفعل شيئا لك، فكيف بالنسبة إلى الله‌ تعالى الذي وهب الإنسان بكلّ هذه النعم رعاه، فلو صلّى المرء ركعتين فكيف يتوقّع مع ذلك أنّه يستحق الأجر والثواب على هذا العمل البسيط، وأساسا لا ينبغي أن يرى لنفسه ولعمله قدرا وقيمه أمام الله‌ تعالى: «لا يَجعَلُ لِعَمَلِهِ عِنْدَ الله‌ قَدْرا...».

إذا أراد المصلّون الأعزاء والمتهجدون والعابدون معرفة ميزان ومقدار عباداتهم عند الله‌ فعليهم أن يعتقدوا أنّهم لم يقدّموا شيئا يستحق الثواب عند الله‌ في جميع أعمالهم وعباداتهم.


1. مصباح الشريعة، ص 337.

وعلى هذا الأساس المرتبة الثالثة للإخلاص، أن لا يسعى الإنسان وراء نيل الأجر والثواب والجنّة الجسمانيّة والفواكه والبساتين والقصور في الجنّة، فيأيّها المصلّي أليس من الحيف أن تطلب بصلاتك الوصول إلى الثمار الماديّة والظاهريّة في الآخرة؟ إنّ قيمة صلاتك أعلى وأسمى كثيرا من ذلك، والإخلاص من شأنه أن يقود الإنسان في طريق الكمال المعنوي والإلهي إلى مقامات ودرجات عالية في الجنّة.


113ـ المراتب العالية للإخلاص


بسم الله الرحمن الرحيم

أشرنا لحدّ الآن إلى ثلاث مراتب من مراتب الإخلاص، وبعض هذه المراتب لو لم تتحقّق في واقع الإنسان المصلّي فصلاته باطلة، أمّا بالنسبة للبعض الآخر من المراتب، فإنّها لو لم تتحقّق فإنّ درجة وقيمة الصّلاة تتنزل وتقلّ قيمتها، وعلى سبيل المثال إذا كان قصد المصلّي من صلاته الرياء والتظاهر فإنّ صلاته باطلة، ولو أنّه قصد التوصّل إلى الحاجات الدنيويّة فبعض الفقهاء ذهبوا إلى أنّ هذه الصّلاة باطلة، والمرتبة الثالثة، أنّ لا يقصد المصلّي من صلاته طلب الأجر والثواب من الله‌ تبارك وتعالى، وطبعا فالشخص الذي يقصد الحصول على الأجر والثواب فلا تبطل صلاته، ولكن بما أنّها تفتقد هذه المرتبة من الإخلاص فإنّ قيمتها ستكون هابطة.

المرتبة الرابعة، تصفية العمل من الطمع بالجنّة والخوف من النار، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بتصفية عمله من الخوف من النار والطمع بالجنّة، فبعض الناس يصلّون خوفا من النار ولئلا يكون مصيره إلى جهنّم، وطبعا فإنّ هذا الخوف لا

يضرّ بصحّة الصّلاة ولكنه مخلّ بالإخلاص، فالمصلّي لا ينبغي أن يصلّي ويعبد الله‌ بهذا الدافع النفساني وبسبب الخوف من عذاب النار، وأحيانا يقوم بعض الأباء والاُمّهات ولغرض تشويق أبنائهم للصّلاة القول لهم: إذا لم تصلّ فسوف يكون مصيرك النار يوم القيامة، وقد ورد في القرآن الكريم فيما يخاطب به أهل النار يوم القيامة: «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ»[1]، ورغم أنّ كلّ شخص ترك الصّلاة فهو من أهل النار قطعا، ولكن لا ينبغي أن نعلّم الشخص الذي يريد أن يصلّي لتوه أن يصلّي فرارا من العقاب والخلاص من نار جهنّم، الصّلاة التي تقوم على أساس الخوف ليست بصلاة تقود الإنسان في معراج الكمال المعنوي الإلهي، والصّلاة التي يصلّيها الإنسان طيلة عمره على أساس الخوف من جهنّم ربّما تؤثر هذا الأثر وهو أن تنقذ هذا الشخص من الجهنّم الظاهريّة ولكنها لا تصعد بروحه إلى عالم الملكوت والمراتب العليا من الكمال المعنوي.

المرتبة الخامسة، تصفية العمل من التوصّل إلى السعادة العقليّة واللذات الروحانيّة الدائميّة والأزليّة، وهذا هو ما أشار إليه الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كلماته، ويستفاد جيدا من الآيات والروايات أنّ في الآخرة مرتبة أعلى من مرتبة الجنّة الظاهريّة الماديّة، وهي جنّة الملذات العقلانيّة والروحانيّة، وهذه اللذة أعلى من اللذات الظاهريّة والماديّة، يقول الإمام الخميني قدس‌سره: بالرغم أنّ هذا المقام هو مقام سامي جدّا والوصول إليه يجعل الإنسان في زمرة الكروبين، ولكنّ الإنسان المخلص لا يؤدّي صلاته وأعماله العباديّة حتى يجعل في زمرة هذه الفئة من أهل السعادة، لأنّ العارف والسالكين إلى الله‌ يرون أنّ مثل هذا القصد وهذه النيّة تعدّ نقصا في العبادة وبمثابة المعاملة والتجارة، لأنّه يصلّي


1. سورة المدّثر، الآية 42 و 43.

لغرض الوصول إلى تلك المقامات العالية ويكون من زمرة الكروبين.

المرتبة السادسة، تصفيّة العمل من خوف عدم الوصول إلى اللذات العقليّة، وهذه المرتبة لها علاقة وثيقة بالمرتبة الخامسة، فهو يصلّي لأنّه إذا لم يصلّ فإنّه يخشى أنّ الله‌ تعالى لا يمنحه تلك اللذات العقليّة في القيامة، وهذا هو نوع من العذاب.

المرتبة لسابعة، تصفيّة العمل من الوصول إلى لذات الجمال الإلهي، وهنا أيضا نرى أنّ الإمام الراحل رضوان الله‌ تعالى عليه بيّن هذه المرتبة بعبارات شيّقة وجذّابة، فبالنسبة لتصفية العمل من الوصول إلى لذات الجمال الإلهي والوصول إلى بهجة أنوار السبوحات غير المتناهية، يقول: هذه هي جنّة للقاء كما يستفاد من الآيات والروايات الشريفة وتعتبر غاية آمال العارفين وأرباب القلوب وأنّ يد البشر نوعا لا تنال هذا المقام إلاّ عدد قليل جدّا من أهل المعرفة يمكنهم الوصول إليه، وهذا هو ما نقرأه في دعاء شهر شعبان: «إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الإِنْقِطَاعِ إِلَيكَ»، فهذا الانقطاع الكامل ليس انقطاع عن الحور والقصور والأشجار والأنهار والثمار في الجنّة، فلا يمكن تفسير كمال الانقطاع بهذه الأمور الظاهريّة، وطبعا أنّ فهم هذه المرتبة مشكل جدّا جدّا لأمثالنا، ولكن يمكننا أن نفهم إجمالاً أنّه لا ينبغي أن يكون هدفنا من الصّلاة هو الوصول والحصول على الأمور الماديّة، بل يجب الابتعاد عن ماديّات الدنيا والآخرة ونرتفع بنفوسنا إلى مستويات أعلى من طلب الماديّات والملذات البدنيّة، ولو بمقدار قيمتنا الوجوديّة وقيمة عباداتنا أكثر ولا نفقد رأسمال عمرنا في العبادة لهذه الأغراض النازلة بدون فهم ودرك صحيح لأنّ ذلك يستتبع خسارة كبيرة للإنسان، لأنّ المؤمن ومن خلال هذه العبادات يستطيع الوصول إلى كثير من المقامات العالية.


114ـ طريق الخلاص من العجب والغرور
أن يعتقد الإنسان بأنّه مقصّر دائما في مقابل الله


بسم الله الرحمن الرحيم

إحدى النقاط التي ينبغي أن يلتفت إليها المصلّي في مسألة الإخلاص، هي: أن لا يشعر بالسرور والبهجة في داخله ونفسه لأعماله الصالحة وعباداته الكثيرة، وطبعا فالإنسان أحيانا يشكر الله‌ تعالى على أنّه مضى من عمره خمسين سنة ولم تفته صلاة واحدة أو أنّه صلّى صلاة الليل مدّة خمسين سنة فلا مانع من الإحساس بالنعمة والشكر، ولكن إذا شعر في نفسه بالسرور والفرح من عباداته وقال إنني أنا الذي صلّيت كلّ هذه الصّلاة والعبادة فأين الآخرون من أعمالي وعباداتي، وهذا التصوّر من شأنه أن يوجّه ضربة قاصمة للإخلاص، فماذا ينبغي أن يصنع المرء في مثل هذه الحالة حتّى لا يشعر بهذا الشعور؟ يقول الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام في توصيته بهذا الشأن وكذلك ورد في كلمات الأئمّة الآخرين عليهم‌السلام، وذلك أنّ هذا الشخص يجب أن يرى نفسه مقصّرا دائما في مقابل الباري تعالى، فلو أنّ المرء اعتقد بالتقصير وقال إنّ أعمالي وعباداتي لا تعتبر شيئا وأنني إنسان مقصّر مهما أتيت من عبادة وعمل صالح ولا يختلف حاله بين عمل يوم واحد

وعمل مائة يوم ومائة سنة من العبادة، وأمّا الشخص الذي لا يرى نفسه مقصّرا ويقول إنني صلّيت وعبده‌تالله‌ كثيرا وهو يرى أنّه يمتاز على الآخرين، فهذه الحالة هي التي تخدش حالة الإخلاص وتنقضه.

وجاء في كتاب «الأصول لكافي» في باب الاعتراف والتقصير رواية عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام يقول لأحد أبنائه: «يـا بُنَيَّ عَلَيكَ بِالجِدِّ وَلا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مَنَ التَّقصِبرِ فِي عِبَادَةِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ فإِنَّ الله‌ لا يُعْبَدُ حَقَّ عِبادَتِهِ»، فلو أنّ هذه الحالة من رؤية النفس والعمل الكثير تضرّ بالعبادة والإخلاص ويجب على المؤمن تطهير نفسه وروحه منها، فهذا العمر قد يمتد إلى خمسين أو ستين سنة، فهذا المقدار لا يعتبر شيئا أمام الزمان الأزلي مثل عمر الملائكة الذين يعبدون الله‌ من الأزل إلى أبد الآبدين ولا يقولون إننا عبدنا الله‌ حقّ عبادته.

لو جمعت عبادات جميع الأنبياء فمع ذلك لا يمكن أن تؤدّي لله‌ حقّه في الطاعة والعبوديّة، فيجب على المصلّي أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، وأنّ جميع الملائكة منذ الأزل وإلى الأبد يعبدون الله‌ تعالى ومع ذلك لا يمكنهم الادعاء أنّهم أدّوا حقّ عبادة الله، فما قدر عباداتنا في مقابل عبادة الملائكة وعندما ندرك هذه الحقيقة وننتهي من صلاتنا فنشعر واقعا بالخجل والحياء من الله‌ ونقول إلهنا! نحن لا نستطيع وليس لنا القدرة على عبادتك بصورة صحيحة، فلو أننا عبدناك ليل نهار فمع ذلك نعترف ونقرّ بقصورنا وتقصيرنا وأننا لا نستطيع أن نعبدك حقّ عبادتك، ولو أنّ الإنسان شعر بهذه الحالة من التقصير والقصور في العبادة فسوف لا يحسب مدّة عبادته وكميّتها وعدد السنوات والليالي التي عبد الله‌ فيها والنوافل اليوميّة التي أداها، وأساسا لا يسمح لنفسه أن يفكّر ويحسب عباداته، وهذه إحدى المراتب المهمّة للإخلاص، بحيث إنّ الإنسان في هذه المرتبة لا يفرح من كثرة عمله رغم أنّه يجب عليه شكر الله‌ تعالى على ما أنعم عليه بهذه النعم والمواهب الجزيلة.


الفصل السادس: أسرار القراءة وآدابه



115ـ فضيلة قراءة القرآن في الصّلاة وغير الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «مَنْ قَرَأَ خَمْسِينَ آيَةً فِي يَومِهِ وَلَيلتهِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافَلِينَ».

من جملة البحوث المهمّة في موضوع أسرار الصّلاة، مسألة القراءة، وهو أن يقرأ المصلّي في الركعة الاُولى والثانيّة من صلاته سورة فاتحة الكتاب وبعدها يقرأ إحدى سور القرآن، فما هي الأسرار الكامنة في قراءة القرآن هذه؟ وكما سائر الأجزاء والأذكار وأفعال الصّلاة تتضمّن أسرارا وحقائق فإنّ هذه القراءة للقرآن في الصّلاة لها أسرار أيضا، والنقطة التي ينبغى الفات النظر إليها وجود فضل كبير على نفس قراءة القرآن كما ورد في النصوص الدينيّة والروايات الشريفة.

إنّ مسألة قراءة القرآن مسألة مهمّة جدّا، وليست أهميّتها الثواب المترتب على قراءة القرآن فقط، بل للآثار والبركات المهمّة جدّا في الدنيا والآخرة المرتبة على قراءة القرآن الكريم، ومن هذه الجهة ينبغي الإشارة إلى آداب قراءة القرآن، ففي رواية عن أنس بن مالك عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهقال: «سَمِعْتُ رَسُولَ

الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهيَقُولُ: مَنْ قَرَأَ خَمْسِينَ آيَةً فِي يَومِهِ وَلَيلهِ لَمْ يُكْتَبُ مِنَ الغافَلِينَ»[1]، وبعبارة أخرى، إنّ قرائة القرآن الكريم تجعل الإنسان من الذاكرين، ومعلوم أنّ الغفلة منشأ الكثير من الذنوب والتلوّث بالخطايا والخوض في الظلمات، ومع قراءة القرآن يخرج الإنسان من زمرة الغافلين.

ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام يقول: «مَنْ قَرَأ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلاتِهِ قَائِمَا يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مائةَ حَسنَةً»[2].

وجاء في رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام ما يقرب من هذا المضمون يقول: «مَنْ قَرأَ القُرآنَ قَائِما كَتَبَ الله‌ لَهُ بِكلِّ حرفٍ مائةَ حَسنة، وَمَنْ قَرَأَهُ فِي صَلاتِهِ جَالِسا كَتَبَ الله‌ لَهُ بِكُلِّ حرفٍ خَمسِينَ حَسنةً وَمَنْ قَرَأَه فِي غَيرِ صَلاتِهِ كَتَبَ الله‌ لَهُ بِكُلِّ حرفٍ عشرِ حَسناتٍ»ٍ[3].

وفي سياق الرواية المذكورة عن الإمام الحسين عليه‌السلام يقول فيها: «وإِنْ استَمَع القُرآنَ كُتِبَ لَهُ بكلّ حَرف حَسنة، وإِنْ خَتَمَ القُرآنَ لَيلاً صَلَّتْ عَلَيهِ المَلائِكَةُ حَتّى يُصبِحَ، وَإِنْ خَتَمَهُ نَهارا صَلَّتْ عَلَيهِ الحَفَظَةُ حَتّى يُمسِي وَكَانَتْ لَهُ دَعوَةٌ مُجَابَة...»[4].

إلى هنا تبيّن إجمالاً ما هي فضيلة وبركة قراءة القرآن وتبيّن الفرق بين الشخص الذي يقرأ القرآن في صلاته وبين الشخص الذي يقرأ القرآن في غير الصّلاة، ومن هذه الجهة ينبغي على المصلّين الاستفادة من هذه الرواية ولا يغفلوا عن قراءة القرآن في صلاتهم.


1. مستدرك الوسائل، ج 4، ص 263.

2. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 611.

3. الكافي، ج 2، ص 611.

4. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 611.


116ـ قيمة قراءة القرآن وأهميّته


بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِنَّ المُؤمِنَ إِذا قَرأَ القُرآنَ نَظَرَ الله‌ إِلَيهِ بِالرَّحمَةِ»[1].

إنّ إحدى التوصيات الأكيدة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وأميرالمؤمنين عليه‌السلام تتركز على قراءة القرآن، وقد ورد في الحديث الشريف أنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال لأميرالمؤمنين عليه‌السلام: «أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظها...، وَعَلَيكَ بِتِلاوَةِ القُرْانِ عَلَى كُلِّ حَال»[2].

وهذه التوصية وردت أيضا عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام وكذلك عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وكانت مورد اهتمامهم، وعندما نقرأ ونتمعّن في سيرة الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام فسوف نجد أنّ قسما مهمّا جدّا من حياتهم يخصّ مسألة قراءة القرآن.

والجدير بالذكر أنّ الإنسان لا ينبغي أن يغفل عن قراءة القرآن في كلّ يوم،


1. جامع الأخبار، ص 39.

2. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 8، ص 79.

وقد ورد في تفسير أبوالفتوح حديثا عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «مَنْ قَرأ ثُلْثِ القُرْآنِ فَكَأَنَّما أُوتِي ثُلثِ النُّبوَّةَ، وَمَنْ قَرأ ثُلْثَي القُرْآنِ فَكَأَنَّما أُوتِي ثُلثَي النُّبوَّةَ، وَمَنْ قَرأ القُرْآنَِ كُلَّهُ فَكَأَنَّما أُوتِي تَمام النُّبوَّةَ».

وجاء في الروايات أنّ عدد درجات الجنّة بعدد آيات القرآن الكريم، ففي يوم القيامة يقال للإنسان «إقرأ وارق»، فكلّ مقدار من آيات القرآن كان مع هذا الشخص وجاء به يوم القيامة وقرأ هذه الآيات كأنّه يرقى في كلّ آية يقرأها درجة في الجنّة.

«ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأَ وَارْقَ بِكُلِّ آيِةٍ دَرَجَةً فَيَرقى فِي الجَنَّةِ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً حَتّى يَبلُغَ مَا مَعَهُ مِنْ القُرآنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقبِض، ثُمّ يُقَالُ لَهُ مَرَّةَ ثَانِية اقَبضْ فَيَقبِض، ثُمَّ يُقالُ لَهُ هَلْ عَلِمْتَ مَا فِي يَدِكَ، فَيَقُولُ لا، وَإِذا فِي يَدِهِ اليُمنَى الخُلدُ وَفِي الأُخرى النَّعِيم»[1].

إذن فالجنّة أساسا متدرجة بعدد آيات القرآن ودرجاتها ومراتبها منظمة حسب قراءة القاري للقرآن، والخلود بالجنّة متعلّق بقراءة القرآن، والنعيم الأبدي في الجنّة ليس فقط النعم الظاهريّة والماديّة، بل جميع النعم والمواهب في الجنّة حتّى رضوان الله‌ تعالى في الجنّة كما تقول الآية: «وَرِضْوَانٌ مِنْ الله‌ أَكْبَرُ...»[2]، كلّها متوقّفة ومتقوّمة باُنس الإنسان في الدنيا بتلاوة القرآن الكريم، ولذا يجب علينا أن نعرف قيمة قراءة القرآن لكي نوفّق لفهم أسرار قراءة القرآن في الصّلاة ونزين صلاتنا بالقرآن.


1. مستدر الوسائل، ج 4، ص 262.

2. سورة التوبة، الآية 72.


117ـ فضيلة قراءة سورة التوحيد


بسم الله الرحمن الرحيم

يجب أن تكون تلاوة القرآن في حياة المسلم وخاصّة الشيعي المؤمن جزءا من برنامجه ومنهجه الأصلي في الحياة، كما أنّ الصّلاة جزء من المنهج الأصلي للمؤمن في حياته كما ورد في كتاب «الكافي» رواية عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام، حيث قال الإمام عليه‌السلام لأحد أصحاب: «أَتُحِبُّ البَقاءَ فِي الدُّنيا؟ قَالَ: نَعم، فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِقْراءَةِ قُلْ هُوَ الله‌ أَحدٌ»، فإنني اُحبّ البقاء في الدنيا ولو اُعطيت مهلة بدقيقة واحدة في الدنيا فإنّني أقرأُ سورة التوحيد «فَسَكَتَ عَنْهُ»، أي أنّ الإمام عندما سمع هذا الجواب سكت، وقبل أن نذكر بقية هذه الرواية، نرى في رواية أخرى أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام: إذا قرأ الإنسان في يومه سورة التوحيد مرّة واحدة فإنّه الله‌ تعالى سيباركه، وإذا قرأها مرّتين فسبارك الله‌ عليه وعلى اُسرته ويرحمهم، إذا قرأها ثلاث مرّات فإنّ الله‌ تعالى سينزل رحمته وبركاته عليه وعلى جيرانه، وإذا قرأها اثني عشر مرّة في يومه بنى الله‌ له اثني عشر قصرا في الجنّة، وإذا قرأها مائة مرّة في يومه غفر الله‌ له 25 سنة، إلاّ أن يكون عصى الله‌ في مورد

الدماء والأموال، يعني لا سمح الله‌ قتل شخصا بدون ذنب وبدون حقّ، أو سفك دم شخص وجرحه، فيجب عليه القصاص أو الدية، فهذه الذنوب التي تتعلّق بالدماء والأموال لا يغفرها الله‌ للشخص، أمّا سائر الذنوب التي هي حقّ محض لله‌ فإنّ تعالى يغفرها ببركة سورة التوحيد.

ويتابع الإمام عليه‌السلام: «وَمَنْ قَرَأَها أَربَعمَائَةَ مَرّة كَانَ لَهُ أَجرَ أَربَعمَائَةَ شَهِيد كُلُّهُم قَدْ عَقَرَ جَوادَهُ وَاُرِيقَ دَمُهُ وَمَنْ قَرَأَها أَلفَ مَرَّةٍ فِي لَيلَةٍ لَمْ يَمُت حَتّى يَرى مَقعَدَهُ فِي الجَنَّةِ أو يرى لَهُ».

ونقرأ الكثير من الروايات التي تؤكد كثيرا على قراءة سورة التوحيد، ففي الرواية الاُولى، كأنّ ذلك الشخص سمع من الأئمّة من آباء الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلامثواب قراءة سورة التوحيد، ولذلك عندما سأله الإمام عن رغبته في البقاء في الدنيا ولماذا؟ فقال: لكي أقرأ سورة التوحيد، لمّا سمع الإمام بهذا الكلام سكتَ، ثمّ بعد مدّة قال لهذا الراوي وهو حفص:

«يا حَفْضُ! مَنْ مَاتَ مِنْ أَولِيائِنا وَشِيعَتِنا وَلَمْ يُحْسِن القُرآنَ عُلِّمَ فِي قَبرِهِ لِيَرفَعَ الله‌ بِهِ مِنْ دَرَجَتِهُ»، لأنّ درجات الجنّة، كما تقدّم، بمقدار آيات القرآن، فيقال له: اقرأ وارقَ.

وبحسب ما ورد في الروايات أنّ هذا الامتياز يعدّ من مختصات شيعة أهل البيت عليهم‌السلام والإماميّة الاثني عشريّة ولا يشمل سائر المسلمين.

يقول حفص: «وَمَا رَأَيْتُ أَحَدَا أَشَدُّ خَوْفَا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُوسى بنِ جَعفَرٍ عليه‌السلام ولا أَرجى النَّاسِ مِنْهُ، وَكَانَتْ قَرَاءَتُهُ حُزنا، فَإِذا قَرَأَ فَكَأَنّهُ يُخاطِبُ إِنسَانا»[1].

وهكذا كان الإمام عليه‌السلام يتلو القرآن الكريم، ويجب علينا أن نتعلّم هذا الأدب في الالتزام بتلاوة القرآن من الإمام عليه‌السلام .


1. الكافي، المطبعه الإسلاميّة، ج 4، ص 611.


118ـ آداب قراءة القرآن؛ الالتفات إلى عظمة هذا الكتاب الإلهي والالتفات إلى أم الكتاب


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد ورد في الروايات الشريفة أنّ لقراءة القرآن الكريم آثارا وبركات كثيرة جدّا، يقول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لسلمان رحمه‌الله: «عَلَيكَ بِقِرَاءَةِ القُرانِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ وَسُتْرَةٌ مِنَ النَّارِ وَأَمَانٌ مِنَ العَذَابِ»[1].

إنّ إحدى النقاط المهمّة في موضوع قراءة القرآن مسألة آداب القراءة، وقد أورد الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «آداب الصّلاة»[2] أدقّ وأشمل بحث فيما يتّصل بقراءة القرآن وذكر في هذا الكتاب بعض آداب القراءة كما سنشير إليها باختصار، فأوّل أدب منها أن يلتفت قارى‌ء القرآن إليه حين القراءة هو «التعظيم» يعني الالتفات إلى عظمة هذا الكتاب الإلهي وأن يعلم أنّ الكتاب الذي يقرأه ليس كتابا عاديا، بل هو أعظم كتاب سماوي، فالالتفات


1. جامع الأخبار، ص 39.

2. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 180.

والاهتمام بتعظيم وإكرام القرآن يتسبّب في نورانيّة القلب والحياة الباطنيّة، والتعظيم يتوقف على أنّ الإنسان يفهم أنّ القرآن كتاب عظيم وأنّ هذا الكتاب الإلهي لا ينحصر بهذه الألفاظ والكلمات الظاهريّة بل هناك حقيقة أخرى وراء هذه الألفاظ والكلمات تقصر عنها يد البشر، ويد العلماء، وحتّى يد أهل الباطن وأهل الشهود والمكاشفة، فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ حقيقة القرآن هي الألفاظ فقط التي أمام ناظرنا وفي مقابلنا.

يقول الله‌ تبارك وتعالى: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»[1]، ويقول: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»[2]، فأصل وحقيقة القرآن موجود في اُمّ الكتاب عندنا، ولكنّ البشر يستطيع التوصّل إلى هذا الكتاب الظاهر وتلاوته، ولكن فيما يتّصل باُمّ الكتاب وهو لدينا، فلا أحد يستطيع الوصول إليه، ويتبيّن من هذه الآية الشريفة أنّ القرآن قبل أن ينزل على قلب النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وقبل أن يتحوّل إلى العربيّة كان موجودا في اُمّ الكتاب، وظاهر الآية الشريفة هو أنّ القرآن بهذه الصورة كانت حقيقته موجودة عند الله‌ وفي اُمّ الكتاب وربّما بشكل أوسع وأعظم بكثير، ولكنّه تنزّل من تلك العوالم إلى هذا العالم وهو عالم الملك وعالم المادّة وتجلّى على شكل ألفاظ وكلمات عربيّه، فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ القرآن مجموعة كلمات وألفاظ كما نرى في سائر الكتب الأخرى مثل هذه العبارات والألفاظ، والأشخاص الذين يعتقدون أنّ القرآن كلام بشري، لماذا لا يلتفتون إلى هذه الآية الشريفة، فلو قلنا بأنّ هذا القرآن منحصر بهذه الألفاظ الظاهريّة فسوف يكون مسوغا لايجاد هذه التوهّمات الباطلة، وأمّا إذا قلنا إنّ حقيقة القرآن هي وراء هذا العالم المادي وفي اُمّ الكتاب وعند الله‌ تبارك وتعالى، فلا أحد من البشر


1. سورة الزخرف، الآية 3.

2. سورة الزخرف، الآية 4.

مع كلّ هذه العلوم الرسميّة والظاهريّة يستطيع التوصّل إلى حقيقة تلك المعارف القلبيّة والمكاشفات الغيبيّة، وهنا يوجد استثناء واحد وهو الوجود المقدّس لخاتم الأنبياء النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهعندما وصل في معراجه قاب قوسين أو أدنى استطاع أن يصل إلى اُمّ الكتاب، ولكن البشر العادي لا يستطيع لذلك سبيلا.

إذن عندما نجلس في محضر القرآن يجب علينا الانتباه إلى أنّ هذا القرآن هو مرتبة نازلة عن اُمّ الكتاب، أي أنّ هذا القرآن متنزل عن تلك الحقيقة العظيمة التي يعجز البشر عن دركها، ولو أننا لم نتمكن من الالتفات والانتباه إلى عظمة القرآن الكريم، فهذا يعني أننا لا نستطيع أداء حقّ وتعظيم القرآن كما هو حقّه وشأنه.

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه في بحث تعظيم القرآن وبعنوان أحد آداب القراءة: إنّ منشأ العظمة ثمانية أمور فعظمة كتاب معين تارة تنشأ من عظمة المتكلّم

وصاحب الكتاب، وأحيانا أخرى مرتبطة بعظمة المسائل والمقاصد المذكور فيه، والثالثة، بعظمة النتائج والآثار المترتبة على هذا الكتاب، الرابعة، بعظمة الرسول وحامل الكتاب، أي جبرئيل الأمين والروج الأعظم الذي نزل بهذا الكتاب (إذا كان الروح الأعظم هو جبرائيل)، الخامسة، عظمة النبيّ نفسه والذي نزل هذا القرآن على قلبه المبارك، السادسة، عظمة الأشخاص الذين حفظوا هذا القرآن، السابعة، عظمة الأشخاص الذين شرحوا هذا الكتاب، والثامنة، عظمة الزمان الذي نزل فيه هذا الكتاب[1].


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 182.


119ـ وجوه عظمة القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم

قبل بيان الموارد الثمانية في وجوه عظمة القرآن الكريم، أرى من المناسب استعراض هذه الرواية الشريفة: «إِنَّ أَكرَمَ العِبادِ إِلى الله‌ بَعْدَ الأَنبِياءِ العُلمَاءُ ثُمَّ حَمَلَةَ القُرآنِ»[1]، يعني القراء للقرآن والعاملين بمضامينه والناشرين له.

«يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنيا كَما يَخْرُجُ الأَنبِياء»، أي كما أنّ الملائكة تقبض روح الأنبياء بكلّ احترام وتقدير ومؤانسة وكذلك يتمّ قبض هؤلاء القراء للقرآن.

«وَيُحشَرُونَ مِنْ قُبُورِهِم مَعَ ا لأَنبِياءِ، ويَمُرُّونَ عَلَى الصِّراطِ مَعَ الأَنبِياء، وَيَأَخُذُونَِ ثَوابَ الأَنبِياء».

والقارى‌ء للقرآن كما ورد في النصوص والروايات الشريفة، في منزلة الأنبياء في الدنيا والآخرة كما وقد تقدّم في رواية سابقة، أنّ «مَنْ قَرأ ثُلْثِ القُرْآنِ فَكَأَنَّما أُوتِي ثُلثِ النُّبوَّةَ»، وهكذا الشخص الذي يقرأ ثلثي القرآن فكأنما اُوتي ثلثي النبوّة، أمّا من قرأ تمام القرآن فكأنّما اُوتي النبوّة أجمع، وفي هذه الرواية مورد


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 89، ص 19.

البحث يقول الإمام عليه‌السلام، إنّ الله‌ تبارك وتعالى يرفع من درجة قارى‌ء القرآن وحامله في الدنيا والآخرة أنّه سيكون بمنزلة الأنبياء وفي مرتبتهم.

وإذا التفتنا إلى هذه الحقيقة حين قراءة القرآن فإنّ عظمة القرآن ستحيط بقلبنا ولا يتبادر إلى ذهننا أبدا أنّ الغرض من قراءة القرآن هو لنيل الثواب فقط.

إمّا بيان المنشأ والمراتب الثمان في وجوه تعظيم القرآن:

أوّل سبب ومنشأ لعظيمة القرآن، عظمة المرسل له وصاحبه، فالقرآن العظيم بما أنّه من شخص عظيم وأنّ من صفات الباري تبارك وتعالى هو العظيم «يـا عَلِيُّ يـا عَظِيم»، فالقرآن يكتسب العظمة من عظمة الله‌ تعالى.

يذكر الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه عبارة في هذا المورد جديرة بالتأمّل والتمعّن، والواقع أننا نرى أحيانا في بعض عبارات الإمام الراحل قدس‌سره في كتابه من العمق والدقّة بحيث يلزمنا التدبّر والتأمّل فيها لعدّة ساعات، يقول[1]: إنّ تجلّي الحقّ تعالى في جلوة العظمة لا يتيسر هذا التجلّي لأي مخلوق، بل إنّه تعالى يتجلّى لمخلوقاته من وراء آلاف الحجب، يعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى إذا أراد أن يتجلّى بصفة العظيم، ويتجلّى بمبدأ العظمة والكبرياء لا يوجد أي مخلوق بإمكانه تحمّل مثل هذا التجلّي، وبالتالي فإنّ تجلّي عظمة الله‌ يجب أن يكون من خلال الحجب والستائر، ونفس القرآن يعتبر تجليا للذات المقدّسة، وقد تنزّل كثيرا إلى درجة أنّه صار على شكل ألفاظ عربيّة ووصل إلى يد البشر.

ونقرأ في رواية نقلها العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار، وهذه الرواية مذكورة أيضا في كتب العامّة، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: «إِنّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعالى سَبِعِينَ أَلفَ حِجابٍ مِنْ نُور وَظلمَة لَو كُشِفَتْ لأَحرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا دُونَهُ»[2].


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 182.

2. بحار الأنوار، ج 55، ص 45.

وأحد امتيازات القرآن الكريم على سائر الكتب السماويّة الأخرى أنّ القرآن صدر من الله‌ تبارك وتعالى بجميع شؤون الذاتيّة والفعليّة والصفاتيّة ومع جميع تجلّياته الكماليّة والجلاليّة، يعني أنّ التجلّي في القرآن هو التجلّي الأعظم، وهكذا جميع الصفات والأسماء الإلهيّة فالله‌ تعالى تجلّى بجميع ذاته أفعاله وصفاته وبجميع صفاته الثبوتيّة والسلبيّة، والجماليّة والجلاليّة في القرآن الكريم وليس الحال كذلك في سائر الكتب السماويّة الأخرى، وهذا يبيّن عظمة هذا الكتاب أكثر.

وعلى هذا الأساس، فأوّل، منشأ والسبب لعظمة القرآن ولزوم تعظيمه أن نعلم أنّ هذا الكتاب الإلهي صادر من موجود عظيم.

الثاني: أنّ هذا القرآن الكريم جاء به جبرئيل الأمين، ومعلوم أنّ جبرئيل الأمين ملك من أشرف الملائكة وهو الموكّل بايصال الفيض الإلهي من العلم والحكمة وسائر الأرزاق المعنويّة إلى الأنبياء والبشريّة.

الثالث: من جهة الشخص الذي نزل عليه القرآن، وقد نزل القرآن الكريم على أشرف الناس جميعا على الكرة الأرضيّة وهو نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌و‌آله.

الرابع: أنّ الله‌ تبارك وتعالى يقول في هذا الكتاب: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[1]، والكتاب الذي يتولّى الباري تعالى بحفظه وحمايته، فلا يوجد أي شخص أو فئة لها القدرة لاتلاف هذا الكتاب أو التلاعب بكلماته أو تحريفه وسيظلّ هذا الكتاب باقيا وسليما إلى يوم القيامة.

الخامس: من جهة الأشخاص الذين يتولّون شرح وبيان هذا الكتاب، وهم

الأئمّة المعصومين صلوات الله‌ عليهم أجمعين، فهم شرّاح ومفسّرو هذا الكتاب الإلهي.


1. سورة الحجر، الآية 9.

السادس: من جهة الوقت الذي نزل فيه القرآن، وذلك في ليلة القدر وهي أفضل الليالي والأوقات عند الله‌ تبارك وتعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»[1]، فلو أنّ الإنسان التفت حين قراءته للقرآن إلى هذه الجهات في عظمة هذا الكتاب فسوف يدرك بمقدار ظرفيّته الوجوديّة عظمة القرآن الكريم وبالتالي يقوده هذا الفهم إلى الاقتراب أكثر من باطن القرآن ولكشف عن أسراره وحقائقه إن شاء الله.


1. سورة القدر، الآية 1.


120ـ عظمة مضامين ومحتويات القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم

بحسب ما أورده الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «آداب الصّلاة» من الوجوه الثمانية لعظمة القرآن الكريم، وأحد هذه الوجوه في عظمة هذا الكتاب الإلهي، المضامين ومحتويات القرآن الكريم.

الإنسان عندما يقرأ كتابا معيّنا ولا يلتفت إلى عظمة مضامين هذا الكتاب ومقاصده فلا يستطيع أن يدرك عظمته وقيمته، والقرآن الكريم من حيث المضامين في دائرة المفاهيم يعدّ أعظم كتاب، فلا يوجد لدينا كتاب مثل القرآن الكريم من حيث مضامينه وتعاليمه ومحتوياته، والقرآن الكريم هو كتاب هداية بالمرتبة الاُولى: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»[1]، فإذا أراد شخص سلوك طريق الحقّ والإيمان فلا يستطيع ذلك بدون الارتباط بالقرآن الكريم، وإذا أراد شخص الوصول إلى مراتب عالية في سلّم الهداية والسير إلى الله‌ تعالى فيجب أن يستمد نور الهداية من القرآن الكريم، وإذا أراد شخص أن يتحرّك في سيره وسلوكه في خطّ الله


1. سورة البقرة، الآية 2.

تعالى، فيجب أن يستمد القوّة والمدد من القرآن الكريم، والأشخاص الذين يعيشون في هذه الحياه الدنيا بسلاسل الشهوات وقيود الباطل والنوازع الدنيويّة فإنّهم يستطيعون بواسطة القرآن انقاذ أنفسهم والنجاة والخلاص من هذه القيود والسلاسل، والإنسان يستطيع بتلاوة القرآن الكريم أن يرتفع بنفسه من هذه المرتبة النازلة الماديّة ومن حضيض الحيوانيّة إلى مراتب أعلى في سلّم المعنويّة والإنسانيّة والكمال الإلهي، ويتخلّص بتلاوة القرآن من مجاورة ومجالسة الشيطان، واستبدالها بمجالسة ومصاحبة الملائكة الإلهيين، وهذه هي إحدى الخصوصيّات المهمّة جدّا في القرآن الكريم.

الأمر الثاني: أنّ هذا الكتاب يستطيع أي شخص أن يستفيد منه وينتفع به بمقدار قابليته واستعداده، فكما أنّ العالم الذي ينال مراتب عالية في علم المعرفة ينتفع بكّل آية من القرآن وتمثّل له كنوزا وخزائن من العلم والمعرفة فكذلك الشخص الذي يعيش بعيدا عن أجواء العلم والمعرفة بإمكانه الاستفادة من ظواهر القرآن أيضا، وقد ورد في الروايات أنّ بعض سور القرآن مثل سورة التوحيد وبعض آيات القرآن كالآيات الاُولى من سورة الحديد، نزلت خاصّة للمتعمقين والعارفين في آخر الزمان.

وهذا لا يعني أنّ سورة التوحيد نزلت فقط لهؤلاء المتعمقين، بل إنّ هؤلاء يملكون القدرة على فهم الكثير من الحقائق والمعارف في هذه السورة والغوص في بحارها واستحصال الدرر والجواهر من هذه السورة المباركة بحيث إنّ الأديان السابقة لم تكن لهم القدرة على هذه الاستفادة، وطبعا فالقدماء استفادوا أيضا من هذه السورة بمقدار ظرفيّتهم الوجوديّة وقابليّتهم أيضا، فأي كتاب لدى البشريّة إلى درجة من العمق وكثرة المعارف أنّ عبارة واحدة وسطرا واحدا من هذا الكتاب يكون نافعا للأشخاص الذين نالوا أرقى وأعلى مراتب العلم

والمعرفة وفي ذات الوقت يفيد الأشخاص الذين لا يملكون حظا من العلم والمعرفة! وهذه خصوصيّة متوفّرة في القرآن الكريم وتعدّ هذه الخصوصيّة أحد وجوه إعجاز القرآن.

إذن الأمر الثاني هو أنّ القرآن الكريم يملك هذه الخصوصيّة بأنّ كلّ شخص ينتفع به بمقدار ما يملك من استعداد وقابليّة، ولا ينبغي أن يقول شخص إنّ القرآن يتعلّق بطبقة وفئة خاصّة، فهذا الكتاب الإلهي هو كتاب لجميع أفراد البشر ويستطيع كلّ فرد الاستفادة منه بمقدار قابليته واستعداده، وبالنتيجة أنّ كلّ شخص سيفهم من القرآن بمقدار ظرفيّته ومعلوماته، عظمة هذا الكتاب الإلهي.


121ـ رعاية حقّ تلاوة القرآن

الترتيل، التدبّر، العمل بالآيات، العبرة من القصص

توجه القارى‌ء لتعاليم القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله‌ تبارك وتعالى في الآية الشريفة: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ...»[1]، فماذا يعني حقّ تلاوة القرآن؟ يستفاد من هذه الآية الشريفة أنّه ربّما يتلو شخص القرآن ولكنّه لا يراعي حقّ تلاوة القرآن، فالتلاوة مسألة وحقّ التلاوة مسألة أخرى، كما أنّ مسألة العبادة أمر، وحقّ العباده أمر آخر، ومعرفة الله‌ أمر، وحقّ معرفته أمر آخر، ومن أجل معرفة حقّ التلاوة بإمكاننا التعبير عنها بآداب القراءة والتلاوة، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في ذيل هذه الآية الشريفة:

«يُرَتِلُونَ آيَاتِهِ وَيَتَفَقّهُونَ فِيهِ»، وهذا يعني أنّ ترتيل الآيات القرآنيّة يعدّ أحد آداب قراءة القرآن والتفقّه في هذه الآيات أدب آخر للقراءة والتلاوة «وَيَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهِ»، فالأدب الثالث من شؤون حقّ التلاوة العمل بالقرآن وبما يحمله من


1. سورة البقرة، الآية 121.

تعاليم وأحكام، أي أنّ الإنسان عندما يقرأ الآية ويتدبّر في مضامينها يتحرّك بعدها في مقام العمل لتطبيقها.

والقارى‌ء للقرآن الكريم عندما يتلو آياته ويقرأ أنّ الله‌ تبارك وتعالى عليم وسميع وبصير، فلو أراد العمل بهذه الآية في حياته فيجب أن يلتفت أنّ الله‌ تعالى عالم بجميع أبعاده وبسرّه وعلانيّته.

«وَيَرْجُونَ وَعْدَهُ وَيَخافُونَ وَعِيدَهُ وَيَعْتَبِرُونَ بِقِصَصَهِ»، فعندما يصل القارى‌ء للقرآن إلى آيات البشارة بالجنّة والوعد الإلهي بالنعيم الخالد في الآخرة للمؤمنين فإنّه يرجو من الله‌ تعالى أن ينال هذه الجنّة والنعيم الأبدي، وعندما يصل إلى آيات العذاب والنار فإنّه يشعر في نفسه بالخوف من عذاب الله‌ وتجري دموعه على خدّيه، وعندما يقرأ قصص القرآن فإنّه يستفيد منها الدروس والعبر في واقع الحياة، فحكاية هذه القصص في القرآن لا تعني أنّ الله‌ تبارك وتعالى يريد فقط أن يحكي لنا قصص الأقوام السابقة بوصفها تاريخا لتلك الاُمم وأنبيائهم، بل يريد منّا الاعتبار بما جرى لهذه الاُمم في التاريخ وكسب الدروس النافعة من هذه القصص، وحتّى تلك القضايا التي وقعت متكررة في القرآن الكريم فإنّها في الحقيقة ليست تكرارا، بل يتضمّن كلّ مورد منها نقاطا دقيقة عرفانيّة وأخلاقيّة وتربويّة أو علميّة لا توجد في الموارد الأخرى المشابهة لها.

«وَيَأتَمِرُونَ بِأَوامِرِهِ وَيَتَنَاهَونَ عَنْ نَواهِيهِ»، ثمّ يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «مَا هُوَ والله‌ حِفظُ آيَاتِهِ وَدَرْسِ حُرُوفِهِ وَتِلاوَةِ سُورِهِ وَدَرسِ أَعْشَارِهِ وَأَخمَاسِهِ»، وكأنّ بعض المسلمين في عصر هذا الإمام عليه‌السلام كانوا مثل بعض الناس في هذا العصر يحفظون آيات القرآن عن ظهر قلب ويتصوّرون أنّ هذا هو المقصود من الحفظ بمعناه الحقيقي.

«حَفِظُوا حُرُوفَهُ وَأَضَاعُوا حُدُودَهُ»، فبعض المسلمين يهتمّون بحسب الظاهر

وحفظه وتلاوته ولكنّهم أضاعوا حقائقه وحدوده.

«وَإِنَّما تَدَبُّرُ آيَاتِهِ وَالعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ»، ثمّ يقول الإمام عليه‌السلام: إنّ حقّ التلاوة عبارة عن التدبّر في آيات القرآن والعمل بأحكامه وتعاليمه وتطبيقها على أرض الواقع العملي، فيجب علينا الانتباه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ قارى‌ء القرآن يجب عليه رعاية حقّ تلاوة القرآن، وإحدى جهات هذه الرعاية لحقّ التلاوة إننا نهتمّ بمضامين آيات القرآن ونسعى لتطبيقها.


122ـ التأثير المضاعف لقراءة القرآن في الصّلاة


بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «قِرَاءَةُ القُرآنِ فِي الصَّلاةِ أَفضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ القُرآنِ فِي غَيرِ الصَّلاةِ»[1].

يجب على المصلّي، بغض نظر عن مسألة الصّلاة، أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ قراءة القرآن مسألة مهمّة جدّا، وقد ورد التأكيد عليها في الآيات والروايات الشريفة ولها آثار وبركات كثيرة، وعندما تكون هذه القراءة للقرآن في الصّلاة فسوف تكون لها آثار وبركات مضاعفة بل لعدّه أضعاف، وقد ورد في الروايات أنّ الجنّة تشتاق لهؤلاء قراء للقرآن.

والآن إذا قرأ المصلّين آيات القرآن في صلاته فإنّ اشتياق الجنّة سيتضاعف إليه بل ورد في الروايات أيضا أنّ الشخص الذي يقرأ القرآن فإنّ الملائكة تستغفر له، وهذا الشخص عندما يقرأ القرآن في صلاته فإنّ استغفار الملائكة له سيتضاعف مرّات عديدة.

وعندما نرى في الروايات أنّ الشخص الذي قرأ القرآن فإنّ الله‌ تعالى ينظر إليه


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 89، ص 19.

بنظر رحمته، «إِنَّ المُؤمِن إِذَا قَرَأ القُرآنَ نَظَرَ الله‌ إِليَهِ بِالرَّحمَةِ»، أي أنّ هذا الشخص سيدخل دائرة الأمن ويدخل دائرة الرحمة الإلهيّة، في حين أنّه لو كانت قراءة القرآن في الصّلاة، فإنّ مثل هذه الصّلاة ستجلب له نظر الرحمة الإلهيّة، ولكن ما هيالآثار المترتبة على تلاوة القرآن في الصّلاة؟ لقد ورد في الروايات الشريفة أنّ الإنسان إذا قرأ آية واحدة من القرآن فإنّ الله‌ تعالى سيعطه أجر مائة شهيد، ولو أنّه قراء سورة واحدة من القرآن فسيعطيه الله‌ تعالى أجر نبي مرسل ويكون له في مقابل كلّ حرف من آيات القرآن نور على الصراط، والآن لو قرأ المصلّي القرآن في صلاته فما هي الآثار المترتبة على ذلك؟ ولذلك يجب على المصلّي أن يطّلع على هذه الآثار والبركات مسبقا.

وسبق أنّ بيّنا أنّ أحد الأمور في عظمة القرآن، توجّه الإنسان وتعمّقه في تعاليم القرآن الكريم ومفاهيمه، فالقرآن يتضمّن مسائل ومفاهيم متنوعة ومختلفة، فهو أولاً كتاب هداية، وثانيا: يستوعب جميع طبقات البشر وفئاتهم من العامي والعارف والعالم وغيرهم، وكلّ فئة من فئات المجتمع تنتفع من حقائق القرآن معارفه وتعاليمه بمقدار استعدادهم وقابلياتهم، وثالثا: إنّ هذا الكتاب «هُدىً للمُتَّقِينَ»، ويتسبّب في انقاذ الإنسان من الرذائل وتطهير نفسه وتنقية قلبه من النوازع النفسانيّة الذميمة، والأهواء والوساوس الشيطانيّة، والقرآن كفّارة للذنوب أيضا، يعني عندما يقرأ القارى‌ء آية من الآيات القرآن الكريم ويتدبّر فيها فإنّ ذلك من شأنه تطهير باطنه من شوائب الرذيلة وتنقيه ذهنه من الأفكار المنحرفة.

المسألة الرابعة في القرآن الكريم، بيان سيرة الأنبياء وقصصهم وما جرى على الأقوام السالفة من حوادث ووقائع، ولكن البعض يتصوّر أنّ ذكر هذه القصص يهدف إلى أنّ الله‌ تبارك وتعالى أراد نقل تاريخ هذه الأقوام إلى الأجيال اللاحقة،

في حين أنّ الله‌ تبارك وتعالى يقول لنبيّه الكريم: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا»[1]، ويحكي له ما جرى على الأنبياء السابقين فإنّ ذلك لغرض تذكير النبيّ أولاً، ثمّ اُمّته ثانيا، بهذه القصص لاقتباس الدروس والعبر منها وللاستفادة من هذه القصص في مجال التربية والتعليم.

لماذا توجد في هذه القصص معارف كثيرة؟ يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: إنّ حقّ التلاوة هو عندما تصل إلى قصّة من قصص القرآن فعليك بكسب العبرة منها، ولا تقتصر العبرة على النصائح الأخلاقيّة والتربويّة، والإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه يقول[2]: إنّ في قصص القرآن معارف وتعاليم تربويّة وربوبيّة إلى درجة أنّها تحيّر العقول، وهذه المظاهر المتكررة في القصص القرآنيّة أولاً: فتح باب التزكية والتعاليم والتربية للناس، وثانيا: إذا دققنا جيدا في هذه القصص المتكررة فسوف لا نجد تكرارا لها بل كلّ مورد منها يتضمّن مسائل عميقة ونكات عرفانيّة وأخلاقيّة جديدة.

وعلى هذا الأساس يجب الالتفات والاهتمام بقصص القرآن والاستفادة منها في واقع الحياة، لأنّ الاهتمام بقصص الأنبياء يعدّ وسيلة مهمّة في مجال السير والسلوك المعنوي إلى الله‌ تعالى، مثلاً في قصّة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام يقول: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبا...»[3]، فالإنسان السالك يفهم من هذه الآية الشريفة أنّ الإنسان ومن أجل إدامة سيره وسلوكه إلى الله‌ تعالى يجب أن يبتدى‌ء هذا السير من منتهى ظلمة الطبيعة إلى أن يصل إلى نور الله‌ تبارك وتعالى.


1. اُنظر سورة ص.

2. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 186.

3. سورة الأنعام، الآية 76.


123ـ تعظيم القرآن، هو التوجّه إلى مضامينه


بسم الله الرحمن الرحيم

أحد المسائل والأمور التي يتحدّث عنها القرآن الكريم، بيان أحوال الكفّار والمنكرين والأشخاص الذين يكذّبون بآيات الله‌ والرسالة السماويّة، وفي مقابل ذلك يبيّن القرآن أيضا أحوال المتقين والأبرار الصالحين والمحسنين والأشخاص الذين آمنوا وصدقوا بآيات الله‌ تعالى وبأنبيائه وكتبه، ويبيّن الله‌ تعالى بجلاء ووضوح عاقبة كلّ فئة من هاتين الفئتين، فالفراعنة، والنمارة، وقارون وشداد وأصحاب الفيل وأمثالهم كانت عاقبتهم وخيمة في الدنيا وينتظرهم العذاب في الآخرة، وفي مقابل هؤلاء يتحدّث القرآن عن العاقبة الحسنة التي تنتظر أهل الولاية والصلاح والإيمان، وإحدى المسائل التي تحدّث عنها القرآن الكريم ذكر أحوال المعاد والبراهين الدالة على تحقّقه وكيفيّة العذاب الاُخروي، وأحوال الجنّة والنار، وأحوال أهل السعادة ودرجاتهم في الجنّة، وسبق أن ذكرنا في تفسير الآية الشريفة: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ...»[1]، أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يقول في تفسير هذه الآية


1. سورة البقرة، الآية 121.

الشريفة أنّ حقّ التلاوة:

«هُوَ الوُقُوفُ عِنْدَ ذِكرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ»، أي لا ينبغي على قارى‌ء القرآن عندما يصل إلى ذكر الجنّة والنار وحالات أهل الجنّة والنار أن يمرّ عليها مرور الكرام، بل يتمعّن ويتدبّر في هذه الآيات الشريفة ويطلب من الله‌ تعالى أن يجعله من أهل الجنّة وعندما يمرّ بآيات العذاب وأهل النار وما في جهنّم من عقوبات أليمة لا تتصوّرها عقولنا ومخيلتنا، فهنا نستجير بالله‌ تبارك وتعالى من عذابه ونقمته وسخطه.

وقد ذكر القرآن الكريم بشكل تفصيلي براهين إثبات وجود الله‌ والتوحيد وصفات الله‌ وأسمائه الحسنى، ومن هذا المنطلق فمعنى التعظيم للقرآن، وهو أوّل أدب لقراءة القرآن، هو أنّ القارى‌ء للقرآن يتمعّن في مضامين هذا الكتاب الإلهي، فلا يوجد كتاب في العالم يملك مضامين راقية ومفاهيم سامية كمفاهيم القرآن وتعاليمه، وهو الكتاب الذي تضمّن حقائق عالم الوجود من الأزل إلى الأبد وذكرها وفصّلها للبشر في جميع الأبعاد، وهو كتاب السعادة والهداية ولم يجد ولن يجد أفراد البشر أي كتاب أكمل وأشمل أدقّ من القرآن الكريم، ليس فقط القرآن، بل سورة واحدة من سوره وحتّى آية من آياته الكريمة، يقول أميرالمؤمنين صلوات الله‌ عليه: «البَيْتُ الَّذي يُقرَأُ فِيهِ القُرآنُ وَيُدكَرُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ تَكْثُرُ بَرَكَتُهُ وَتَحْضُرُهُ المَلائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّياطِينَ»، أي تبتعد عن هذا البيت الكثير من المشكلات والأزمات ويعيش أصحاب هذا البيت حالات الطمأنينة والبهجة من الناحية المعنويّة.

«ويُضِيءُ لأَهلِ السَّماءِ كَمَا تُضِيءُ الكَواكِبُ لأَهلِ الأَرِضِ، وَإِنَ البَيتِ الَّذي لا يُقرأُ فِيهِ القُرآنُ وَلا يُذكَرُ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وَتَهجُرُهُ المَلائِكَةُ وَتَحضُرُوهُ الشَّياطِينَ»[1]، ويترتّب على ذلك أنّ أصحاب هذا البيت يعيشون التوتر


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 2، ص 610.

والمشكلات الماديّة والنفسيّة، بخلاف البيت الذي يقرأ فيه القرآن فإنّ الهدوء والاستقرار يهيمن على أجوائه والنورانيّة والأمل والصفاء تمل‌ء قلوب أصحابه وأهله، وعلى هذا الأساس فالمؤمنون يجب أن يهتمّوا بقراءة القرآن ولا يغفلوا عن هذه النعمة العظيمة.


124ـ القرآن كتاب تعليم وتربية


بسم الله الرحمن الرحيم

وأحد آداب قراءة القرآن الأخرى أنّ الشخص عندما يقرأ القرآن فينبغي أن يقرأه بهدف التعلّم وطلب المعرفة، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى جعل القرآن كتاب تعليم وتربية وأختار لهذه المهمّة وتبليغ هذه الرسالة أفضل عباده لغرض تعليم الناس وتربيتهم، وهذه الجهة مهمّة جدّا، فلو أننا أردنا قراءة القرآن من أجل الثواب والأجر فقط، أو بهدف الاطلاع على بعض فنونه الأدبيّة والفصاحة والبلاغة، فإنّما نبتعد بذلك عن الهدف الأصلي من قراءة القرآن وهو التعليم، وكسب المعرفة، وفي القرآن الكريم آيات متعددة تصرّح بهذا الأمر وأنّ القرآن هو كتاب علم ومعرفة، فنقرأ في آية 151 من سورة البقرة أنّه تعالى يقول: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...»، فإحدى وظائف الرسول الكريم، تعليم الناس بهذا الكتاب، بمعنى أن تكون قراءة القرآن مقدّمة لحصول الإنسان على المقاصد الحقيقة للقرآن الكريم وما يريده الله‌ تعالى من عباده، ونقرأ في الآية 164 من سورة آل عمران: «لَقَدْ مَنَّ الله‌ عَلَى

الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...».

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ هذه الجهة التعليميّة تتعلّق بجميع الكتب السماويّة، ونقرأ في بعض الآيات القرآنيّة الأخرى أنّها أشارت إلى هذا المعنى أيضا، كما ورد في الآية 48 من سورة آل عمران: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالاْءِنجِيلَ»، وهكذا نرى أنّ مسألة التعليم والتربية تستوعب جميع الكتب السماوية من القرآن والتوراة والانجيل الحقيقي.

وكيف كان، فالقارى‌ء للقرآن يجب أن يلتفت أنّ القرآن كتاب تعليم ومعرفة، ويجب على الإنسان من خلال القرآن أن يغترف من بحر العلم فيصل إلى حقائق الوجود، والنقطة الدقيقة جدّا التي ذكرها الإمام الخميني رضوان الله‌ عليه[1] أنّ مسألة التعاليم لا تنحصر ببيان الجهات الأدبيّة للقرآن أو بيان شأن نزول الآيات أو اختلاف القراءات، إنّ بحث تعاليم القرآن يرتبط بأنّ الله‌ تبارك وتعالى أراد للإنسان بواسطة هذه الآيات الشريفة أن يصل إلى مقصوده النهائي، وهو هداية الإنسان في طريق الكمال المعنوي والوصول إلى مراتب عالية من القرب الإلهي، ثمّ إنّ الإمام كشف عن حقيقة بلغة العتب وقال: يجب علينا الاعتراف بأنّ المفسّرين الكبار للقرآن لم يفتحوا باب التعاليم أمام الناس، بل أعلى من ذلك قال: أنا لا أستطيع القبول بوجود تفسير للقرآن لحدّ الآن.

وهكذا نرى الإمام الخميني رحمه‌الله في ذات الوقت الذي يقدّر ويحترم تفاسير علماء الإسلام ويدعو لهم ويقدّر جهودهم، ولكنّه يقول: في نظري أنّ هذه التفاسير ليست تفسيرا حقيقيا، لأنّها مجرّد شرح مقاصد الكتاب ويجب على المفسّر أن يبيّن المقصود من نزول هذه الآيات لا بيان سبب نزول الآيات، ولذلك


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 192.

يؤكّد أننا يجب أن نرى في كلّ آية الجهة التعليميّة الأصليّة يعني ما كان مقصود المعلّم الأوّل والآخر للبشر وهو الله‌ تبارك وتعالى وما هو غرضه ومقصوده من هذه الآيات؟

وفي نظر الإمام الراحل رحمه‌الله فإنّ البعد الأصلي لتعاليم جميع آيات القرآن الكريم يدور حول محور الهداية وفتح الطريق للبشر في حركتهم وسيرهم المعنوي وسلوكهم إلى الله‌ تعالى، ومن هذا المنطلق يجب على المفسّر مهما أمكن أن يستخرج جميع الجهات العرفانيّة والتربويّة من قلب الآيات الشريفة، كما هو الحال في قصّة النبيّ آدم وحواء وقصّة الشيطان واخراجهم من الجنّة وهبوطهم إلى الأرض، فهذه القصّة تتضمّن معارف ومواعظ كثيرة بحيث إنّ الإنسان إذا أراد أن يعرف نفسه ويكتشف عيوبه ويتعرّف على خطط وخطوات إبليس وفخاخه ومصائده بشكل صحيح فيمكنه الاستفادة من هذه الآيات الكريمة.

إنّ المفسّر الذي يغفل عن الجوانب وأبعاد العرفانيّة والتربويّه والأخلاقيّة في الآيات الكريمة فإنّه يغفل عن المقصود الأصلي للقرآن، ومن هنا يجب على قارى‌ء القرآن الاهتمام بهذا أدب القرآني من آداب التلاوة وهو ما يخصّ الجانب التعليمي للقرآن، وعندما يقرأ القرآن يكون همّه الانتهاء من السورة أو من القراءة بل يتدبّر أكثر في الآيات الكريمة ويتفقّه ويهتمّ بالنقاط الأخلاقيّة والعرفانيّة والتربويّة التي يستوحيها من هذا الكتاب السماوي.


125ـ آداب التلاوة(1)


بسم الله الرحمن الرحيم

رفع الموانع والحُجب (العُجب ـ الأفكار الباطلة)

أحد آداب تلاوة القرآن، رفع موانع الاستفادة من القرآن الكريم وإزاحة الحجب والستائر التي تمنع من وصول الإنسان إلى حقائق القرآن، وهذا البحث تحدّث عنه الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، في كتابه «آداب الصّلاة»[1] بعبارات دقيقة وعميقة جدّا، وأحد هذه الموانع حجاب الأنانيّة والعجب، والذي يتسبّب في توقف الفرد عن الحركة في خطّ البحث عن الحقيقة والتوصل إليها، فلو أنّ الشخص حصر نفسه في دائرة علم من العلوم ونظر إلى القرآن الكريم وقرأ آياته من هذه الزاوية فقط، فهذا نوع من أنواع العجب والانحصار في الفهم وضيق الرؤية وبالتالي يتسبّب في وضع حجاب بينه وبين القرآن.

ولو أنّ الأديب تصوّر أنّ القرآن منحصر فقط في جهاته الأدبيّة والبلاغيّة، ولو أنّ الفقيه تصوّر أنّ القرآن منحصر فقط في جهاته الفقهيّة والشرعيّة، ولو أنّ


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 195.

الفيلسوف تصوّر أن القرآن منحصر في بيان الحقائق الفلسفيّة، فإنّهم لم يصلوا أبدا إلى حقيقة آية واحدة من آياته الكريمة فضلاً الوصول إلى حقيقة القرآن، فلا ينبغي لأي عالم أن يحصر نفسه في فرع خاصّ من الفروع العلميّة، وإحدى تعاليم القرآن المهمّة أنّ أي عالم وفي أية مرتبة علميّة كان، حتّى الأنبياء في مرتبة النبوّة، لا ينبغي لهم الغفلة عن طلب الزيادة في العلم والمعرفة.

ونرى أنّ الباري تعالى يأمر نبيّه الكريم في القرآن ويقول: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما»[1]، فرغم أنّ النبيّ الكريم وصل إلى أعلى مراتب العلم والمعرفة بين سائر موجودات العالم ولكن باب العلم وحقيقة المعرفة عند الله‌ تبارك وتعالى لا تتحدّد بحدّ معين وأوسع من أن يحيط بها إنسان حتّى نبيّ الكريم بحيث كان يسأل الله‌ تعالى الزيادة في العلم والمعرفة.

والنتيجة أنّ المؤمن عندما يقرأ القرآن يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار هذا الدعاء ليستزيد من العلم، فإنّ الله‌ تعالى يثير العلم والمعرفة لكلّ إنسان بحقّ ومقدار وظرفيتّه وقابليّته.

ونقرأ في قصّة النبيّ موسى والخضر عليهماالسلام، أنّ موسى عليه‌السلام مع أنّه كان يملك مقام النبوّة ولكنّه لم يقنع بذلك الحدّ والمرتبة من مقام العلم والمعرفة، ولذلك عندما التقى بالخضر عليه‌السلام ورأى فيه إنسانا كاملاً وعالما وعارفا فإنّه طلب منه بكلّ تواضع أن يستفيد من علمه: «قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا»[2]، إذن فأول حجاب يجب على الإنسان إزاحته، إزاحة الأنانيّة والعُجب عن ذاته، وعندما يجلس في محضر القرآن الكريم سيواجه بحارا من العلوم والمعارف الكثيرة ولا ينبغي أن يتصوّر أنّ هذا الكتاب العظيم محصور ومنحصر في فرع خاصّ من العلوم.


1. سورة طه، الآية 114.

2. سورة الكهف، الآية 66.

ونقرأ في بعض الروايات: «مَنْ أَرَادَ العِلمَ فَلَيُثَوِّرُ القُرانَ»[1]، يعني ليحرث القرآن ويبحث في مطاويه ومضامين آياته الكريمة ويهدف في بحثه هذا أن يفتح من كلّ آية قرآنيّة باب من العلم والمعرفة، وكلمة علم في «مَنْ أَرَادَ العِلمَ...» لا تعني فقط علوم الآخرة بل تشمل كلّ ما ينتفع به من حقيقة العلم، إذن فالشخص الذي يقرأ القرآن يجب أن يتأدب بهذا الأدب وأن يزيح عن نفسه وعقله حجاب الأنانيّة والعُجب والغرور ورؤية الذات ويتحرّك فقط لطلب الحقائق الكامنة في آيات القرآن الكريم وينتفع به أكثر.

ومن الحُجب الأخرى التي تقع بين الإنسان وآيات القرآن حجاب الأفكار الباطلة والأفكار الفاسدة التي وصلت إلى الإنسان من القدماء واكتسبها بشكل إرث تقليدي، ومعلوم أنّ وجود الآراء الفاسدة والأفكار والمسالك الباطلة يمنع الإنسان من الاستفادة الصحيحة من القرآن الكريم، وثمّة نماذج كثيرة على هذا الموضوع وقد استعرض الإمام الخميني رحمه‌الله أمثلة على ذلك في كتابه «آداب الصّلاة»[2] وقال: نحن نرى في القرآن الكريم آيات عديدة تتعلّق بلقاء الله‌ ومعرفته مثل: «إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...»[3]، أو «مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله‌ فَإِنَّ أَجَلَ الله‌ لاَتٍ...»[4]، وهكذا ما ورد في الأحاديث الشريفة والأدعية ومناجاة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وما فيها من مسائل وتعاليم كثيرة وعميقة من قبيل عبارات المناجاة الشعبانيّة.

والآن إذا أراد شخص أن يقرأ هذا الكتاب الإلهي برؤية سطحيّة وظاهريّة واعتقد أنّ باب معرفة الله‌ ومشاهدة الجمال الإلهي مسدود وموصد تماما وتصوّر


1. مجمع البحرين، ج 3، ص 238.

2. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 197.

3. سورة يونس، الآية 7.

4. سورة العنكبوت، الآية 5.

خطأ أنّ هذا الباب من المعرفة لا يمكن دركه كما في باب معرفة الذات الإلهيّة، فإنّه قد حرم نفسه من الكثير من المعارف الإلهيّة والقرآنيّة، ورغم أنّه ورد في بعض الروايات النهي عن التفكّر في ذات الله، ولكن هذه المعارف تختلف عن معرفة الذات، فبحث لقاء الله‌ ومشاهدة الجمال الإلهي مطلوب وغاية بأولياء الله‌ ونقرأ في المناجاة الشعبانيّة: «اِلهى هَبْ لى كَمالَ الاْءِنْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِيآءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ...»، وطبقا لهذه المضامين الشريفة فالإنسان يستطيع إزاحة الحجب والحصول على كمال الانقطاع إلى الله‌ تعالى وبالتالي مشاهدة الجمال الإلهي.

إنّ إنكار هذه البحوث والمسائل يحرم الإنسان من الكثير من الحقائق الواردة في القرآن الكريم، والنقطة العجيبة والمثيرة جدّا في كلام الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه هي قوله: إنّ مثل هذه الأفكار هي السبب في كون القرآن مهجورا كما تقول الآية على لسان النبيّ: «يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا»[1]، فمهجورية القرآن ليس بسبب أنّ الناس لا تقرأ القرآن أو لا أحد يتلو آياته الكريمة أو لا يعمل به، فإنّ المهجوريّة لها مراتب متعددة بحيث إننا جميعا متورطون في هذا الشأن، وأحد هذه المراتب الحرمان من هذه الحقائق الموجودة في آيات القرآن والتي تتعلّق بلقاء الله‌ ومعرفته ومشاهدة سبحات جماله، ولو أنّ للإنسان هذه الأفكار الباطلة وأراد تكذيب هذه الآيات أو يفسّرها بتفاسير سطحيّة ساذجة، فهذا يؤدّي أيضا إلى مهجوريّة القرآن.

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد الحجب التي يجب على قارى القرآن إزاحتها، العقائد الفاسدة والمسالك الباطلة ويسعى للتخلّص منها ليتمكن من الاقتراب من حقائق القرآن.


1. سورة الفرقان، الآية 30.


126ـ آداب التلاوة(2)


بسم الله الرحمن الرحيم

رفع الموانع، عدم حصر التفسير بفهم القدماء

الحجاب الثالث الذي أشار إليه الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه[1]، أنّ مفسّر القرآن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ كلّ ما في آيات القرآن من معارف وتعاليم ومفاهيم قد ذكر في تفاسير المفسّرين، وإذا أراد إضافة مسألة أخرى ومفهوم آخر على هذه التفاسير فسيكون هذا من مصاديق التفسير بالرأي، وليس له حقّ بيانه، مثلاً في قصّة النبيّ موسى والخضر عليهماالسلام وكيفيّة طلب النبيّ موسى عليه‌السلام العلم من هذا العالم وجواب الخضر عليه‌السلام وكيفيّة السؤال والجواب والحوار بين هذين النبيين يستفاد منه أهميّة العلم والتعلّم، فنحن نستطيع أن نستوحي عشرين أدبا من آداب المعلّم والمتعلِّم لم ترد الإشارة إليها في كلمات المفسّرين السابقين من هذه القصّة، فلا يتصوّر أحد أنّ هذا من باب التفسير بالرأي، أو مثلاً الآية الشريفة: «الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»[2]، فقد يستوحي منها أحدهم أنّ جميع أشكال الحمد


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 197.

2. سورة الحمد، الآية 1.

والثناء وفي أي مكان ومن أي شخص صدر ولأي شخص كان المقصود بالثناء والحمد، فإنّ جميع هذه الأنواع والحالات من الحمد والثناء تعود في حقيقتها إلى الله‌ تعالى، ومثل هذا المعنى المستفاد من هذه الآية لا يعتبر من التفسير أساسا حتّى يقال إنّه من مصاديق التفسير بالرأي، فلو طالعتم تفاسير القرآن فسوف ترون أنّ مفسّرا أحيانا يخطيء مفسّرا آخرا بحجّة أنّ كلامه من قبيل التفسير بالرأي، ولكن لو أنّ المفسّر استوحى من الآية الشريفة نقطة عرفانيّة دقيقة فسوف يتهمه مفسّر آخر بأنّه من قبيل التفسير بالرأي.

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه: هذا الكلام والاتهام بنفسه نوع من الحجاب، فعندما يصل المفسّر بعد تدبّره بآيات القرآن إلى حقيقة معيّنة بحيث إنّ الآخرين لم يتوصلوا إليها كأن يفهم نقطة أخلاقية أو إشارة عرفانيّة باب السير والسلوك المعنوي أو معلومة إرشاديّة من آيات القرآن فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ هذا من قبيل التفسير بالرأي.

ولكن العلماء الآخرين أجروا مسألة التفسير بالرأي إلى جميع آيات القرآن، وهنا نرى أنّ أحد آراء الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه أنّه قال: لا أستبعد، بل احتمل قويا أنّ مسألة التفسير بالرأي التي وقعت مورد الذم، تتعلّق بآيات الأحكام ولا تتعلّق بجميع آيات القرآن الكريم، ومعلوم أنّ العقل البشري قاصر عن فهم آيات الأحكام وتشخيصها وتشخيص مقادرها ومقادير الحدود الإلهيّة، ولذلك لا يحقّ للعقل البشري أن يتصرّف بآيات الأحكام، خلافا لسائر الآيات الكريمة التي يستحسن التفكّر بها والتدبّر فيها بواسطة العقل البشري، فهناك آيات لا مجال لفهم مضامينها إلاّ من خلال العقل وبواسطة التعّقل، فالعقل فقط هو الذي يجب أن يحضر إلى هذا الميدان، وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يزيح هذا الحجاب عن فكره وقلبه ولا يتصوّر أنّه إذا استوحى نقطة معرفيّة أو مسألة علميّة من هذه الآية فإنّه من قبيل التفسير بالرأي.


127ـ آداب التلاوة(3)


بسم الله الرحمن الرحيم

المانع الثاني والثالث لفهم القرآن: حجاب المعاصي وحبّ الدني

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِنّ للقُلُوبَ صَدَأ كَصَدَأ النُّحاسِ فَاجْلُوها بِالإِستِغْفَارِ وَتِلاوَةِ القُرآنِ»[1]

يجب على المصلّي، بغض النظر عن الصّلاة، الالتفات إلى أهميّة قراءة القرآن، فالشخص الذي يعتقد بأهميّه قراءة القرآن وتلاوته، فإنّ صلاته ستكون صلاة أخرى، وتترتّب على قراءة القرآن آثار وبركات كثيرة جدّا، يقول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِنّ للقُلُوبَ صَدَأ كَصَدَأ النُّحاسِ...»، أي كما أنّ النحاس والفلزات الأخرى تصدأ، فكذلك قلب يصدأ بما يتراكم عليه من الشوائب والنوازع النفسانيّة والأعمال السيئة فربّما لا يكتشف هذا القلب الطريق إلى الحقّ والهداية.

«فَاجْلُوها بِالإِستِغْفَارِ وَتِلاوَةِ القُرآنِ»، فيوصي النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لتطهير القلب من هذا الصدأ والرين، بأمرين: أحدهما، الاستغفار، والثاني، تلاوة القرآن.

وسبق أن قلنا إنّ تلاوة القرآن لها آداب، وأحدها أن يزيح قاريء القرآن


1. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 74، ص 172.

الحجب الموجودة بينه وبين آيات القرآن، ومنها حجاب الأنانيّة والعُجب، وحجاب العقائد الفاسدة والأفكار الباطلة، ومنها حجاب أن يتوقّف القارى‌ء للقرآن عن التفكير والتدبّر في آيات القرآن ويجمد عقله وحصره بالتفاسير السابقة.

ومن الحجب الأخرى، حجاب المعاصي، فالشخص القارى‌ء القرآن يجب أن يبتعد عن معاصي الله‌ ويجتنب الذنوب، لأنّ أعمال الإنسان وسلوكياته، سواءً الجيدة أو السيّئة تترك أثرا في نفس الإنسان وباطنه، فقد ورد في الروايات أنّ الإنسان عندما يذنب فسوف يترك هذا الذنب نقطة سوداء في قلبه وإذا استمر في ارتكاب المعاصي والذنوب ولم يتب إلى الله، فإنّ تلوّث القلب يزداد حتّى يطغى التلوّث والرين على جميع القلب، والقرآن يصرّح بأنّ القلب الملوّث لا يدرك الحقيقة وليس قلبا سليما، بالتالي فإنّ هذا القلب لا يتأثر بالموعظة ولا يسلك طريق الحقّ والحقيقة.

وقد يسأل بعض المتدينين: لماذا لا تؤثر الموعظة في بعض الأشخاص؟ أحيانا يدخل الإنسان إلى مقبرة ويرى قبور الموتى ويعلم أنّ عاقبته ونهاية حياته ستكون إلى هذا المكان ولكن هذا المشهد لا يؤثر فيه لماذا؟ ولماذا عندما يقرأ آيات القرآن التي تتحدّث عن الجنّة والنار لا تؤثر فيه شيئا؟ السبب في ذلك يعود إلى صدأ القلب والرين المتراكم على قلب هذا الإنسان بسبب الذنوب والخطأ.

يجب على قارى‌ء القرآن أن يطهّر قلبه كلّ يوم ويجلوه بالاستغفار وتلاوة القرآن لكي يعود هذا القلب إلى صفائه ونقائه، ويتحرّك لفهم حقائق الآيات القرآنيّة بهذا القلب النقي، «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ...»[1]، فالشخص الذي ران على قلبه


1. سورة الأعراف، الآية 179.

وتراكمت عليه الموانع والحجب وغطت على عينه غشاوة الأهواء والميول النفسانيّة فسوف لا ينتبه إلى الحقائق النورانيّة، يقول القرآن: إنّ حال هؤلاء حال الأنعام بل هم أشدّ وأضلّ، لأنّ الأنعام لا تملك هذه القوى التي يملكها الإنسان للفهم والتعّقل والإدراك ولكن هؤلاء يملكون هذه النعم والمواهب التي وهبها لله‌ تعالى للإنسان ولكنّهم ضيّعوها وأهملوا الاستفادة منها بشكل صحيح، إذن يجب على قارى‌ء القرآن أن يزيل عن قلبه حجاب المعصية ويزيحه عن بصيرته.

وآخر حجاب، حجاب حبّ الدنيا، يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه، إنّ حبّ الدنيا من الحجب الغليظة والستائر الضخيمة ومن الحجب التي لا يستطيع الإنسان بسهولة إزاحتها وإبعادها عنه، فالإنسان إذا أراد أن يفهم مضامين القرآن ويتدبّر في آياته يجب عليه إزاحة حبّ الدنيا عن قلبه: «أَفَلا يَتَدَّبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»[1]، وأحد هذه الأقفال المهمّة حبّ الدنيا.

وجاء في روايات كثيرة أنّ قارى‌ء القرآن إذا قرأ القرآن للحاكم الجائر فسوف يكون من أهل النار، والأشخاص الذين يقرأون القرآن لكسب قلب الناس والفات نظرهم فهم من أهل النار، والأشخاص الذين يقرأون القرآن لتحصيل المال والثروة فهم من أهل النار، ولذلك يجب على الإنسان تطهير نفسه وقلبه من حبّ الدنيا وإزاحة هذا الحجاب عن بصيرته ولا يجعل القرآن سبيلاً وطريقا لتحصيل الدنيا، فلو أننا التفتنا إلى هذه الحجب وتحرّكنا لإزاحتها من واقعنا وقلوبنا فنرجو أن يفتح الله‌ تعالى بصيرتنا على حقائق القرآن إن شاء الله.


1. سورة محمّد، الآية 24.


128ـ آداب التلاوة(4)


بسم الله الرحمن الرحيم

التفكّر والتدبرّ في القرآن وتطبيقه على النفس

تحدّثنا في بحث أسرار الصّلاة عن آداب قراءة القرآن، وذكرنا أنّ الإنسان المصلّي إذا اهتمّ بقراءة القرآن في غير الصّلاة كثيرا، واهتمّ بتلاوة القرآن في صلاته بتلك المرتبة، فسوف تترتّب على صلاته آثار عجيبة وبركات كثيرة، واستعرضنا بعض الروايات التي تؤكد أنّ تلاوة آية واحدة في غير الصّلاة لها من الأجر عشر حسنات،فلو قرأ الإنسان نفس هذه الآية في الصّلاة فإنّه سيحصل على مائة حسنة، وهذه الحسنات ليست فقط ثوابا في الآخرة بل لها آثار وضعية ومعنوية في هذا العالم الدنيوي أيضا.

وأحد الآداب التي يجب على قارى‌ء القرآن الالتفات إليها، التفكّر والتدبّر في آيات القرآن، يقول تبارك وتعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ...»[1]، أو قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»[2]، فالتفكّر ل


1. سورة محمّد، الآية 24.

2. سورة النحل، الآية 44.

يختصّ بفعل دون آخر، ولا يختصّ بالعلماء دون عامة الناس، فكلّ شخص بإمكانه أن يتفكّر ويتدبّر في آيات القرآن ولا سيما في الآيات التي تتحدّث عن قصص الأقوام السالفة مع أنبيائهم، فالتفكّر في هذه الآيات واستخلاص نقاط علميّة وتربويّة وأخلاقيّة وعرفانيّة ميسور للجميع، ولذلك يقول تعالى: «فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»[1]، وقد ورد في ذيل الآية الشريفة: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاُِولِي الْأَلْبَابِ»[2]، رواية في هذا الشأن يقول عليه‌السلام: «وَيلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ يَتَفَكَّر فِيها»[3]، أي يجب عليه أن يفكّر فيما تشير إليه هذه الآية الشريفة من علائم الخلقة وفي الطبيعة وفي السماوات والأرض، فعندما يتفكّر الإنسان بهذه الآيات والعلامات في عالم الطبيعة فسوف يصل إلى حقائق جليّة ومعارف بهيّة، ويوجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو أرباب العقول وأصحاب الفكر إلى التفكّر في عالم الخلقة ليلتفت الإنسان من خلال هذا الطريق إلى عظمة الباري تعالى وقدرته المطلقة وبذلك يتعمّق إيمانه ويترسخ في قلبه.

ومن هذا المنطلق فإنّ أحد آداب قراءة القرآن، التفكّر في كلّ آية، وذلك ميسور للجميع: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»[4].

وآخر أدب من آداب تلاوة القرآن، مسألة التطبيق والعمل بالتعاليم، يعني أنّ الإنسان عندما يقرأ كلّ آية فعليه أن يلاحظ نفسه هل أنّ هذه الآية تنطبيق عليه أم لا؟ وهكذا يقيس نفسه ويعرف موقعه من هذه الآية الشريفة، فعندما يمرّ بالآيات التي تتحدّث عن الجنّة أو النار، والآيات التي تتحدّث عن الإيمان وخصوصيّات المؤمنين، فيرى هل أنّ هذه الآيات تنطبق عليه، وهل أنّه من زمرة


1. سورة الأعراف، الآية 176.

2. سورة آل عمران، الآية 190.

3. تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 350.

4. سورة القمر، الآية 17.

أهل الجنّة ومن المؤمنين أم لا؟ فإذا قرأ الآيات التي تتعلّق بالكفر والنفاق والشرك والضلالة، فيرى نفسه هل أنّ هذه الآيات، لا سمح الله، تنطبق عليه، وهل أنّه من زمرة الكفّار والمنافقين أم لا؟ إنّ مسألة التطبيق تعدّ إحدى المسائل المهمّة جدّا، والتي يجب على قارى‌ء القرآن الالتفات إليها والاهتمام بها.

وجاء في ذيل الآية الشريفة: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ...»[1]، رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «حَقَّ تِلاوَتِهِ هُوَ الوُقُوفُ عِنْدَ ذِكرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَسأَلُ فِي الاُولى ويَستَعِيذُ مِنْ الأُخرى»[2].

وكذلك ورد في الحديث الشريف عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال يوما لأبن مسعود، اقرأ عليَّ بعض آيات القرآن، قال ابن مسعود: «فَفَتَحْتُ سُورَةُ النِّساءِ»، وشرعت بتلاوتها: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدا»[3]، قال ابن مسعود: «رَأَيْتُ عَينَاهُ تَذرِفَانِ مِنَ الدَّمعِ، فَقاَلَ: حَسبُكَ الآن»[4]، وكأنّ رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله يرى نفسه حاضرا يوم المحشر، ويرى هذه المشاهد فعندها سالت الدموع من عينه الكريمتين، ونرى أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله الذي جاء للبشريّة بهذا الكتاب السماوي ومع أنّ الله‌ تعالى قد وعده في هذا القرآن وعودا كثيرة في الآخرة، ولكن النبيّ بكى عندما سمع بهذه الآية وقال لابن مسعود: «حَسبُكَ الآن»، أي كفى، وعلى هذا الأساس فإنّ تطبيق آيات القرآن على النفس من جملة آداب التلاوة المهمّة ويجب الالتفات إليها.


1. سورة البقرة، الآية 121.

2. وسائل الشيعة، ج 6، ص 217.

3. سورة النساء، الآية 41.

4. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 16، ص 294.


129ـ آداب التلاوة(5)


بسم الله الرحمن الرحيم

القلب الخاشع، البدن الفارغ، المكان الخالي

جاء في كتاب «مصباح الشريعة» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَلَمْ يَخْضَعْ للهِ وَلَمْ يَرَقَّ قَلْبُهُ وَلا يَكْتَسي حُزنا وَوَجَلاً فِي سِرِّهِ فَقَدْ استَهَانَ بِعَظِيمِ شَأَنِ الله‌ تَعالى وَخَسِرَ خُسرَانا مُبِينا»، فلو أنّ قارى‌ء القرآن لم يجد أثرا وتفاوتا في نفسه بهذه القراءة ولم يستشعر الحزن والفرح في قلبه فإنّ هذا الشخص قد استهان بالله‌ تعالى وخسر خسارة عظيمة ولم يحصل على ثمرات وبركات هذه القراءة.

«فَقَارِى‌ء القُرْآنِ يَحتَاجُ إِلى ثَلاثَةِ أَشيَاءَ قَلْبٌ خَاشِعٌ وبَدنٌ فارِغٌ وَمَوضِعٌ خَالٍ فَإِذا خَشَعَ للهِ قَلْبُهِ فَرَّ مِنْهُ الشَّيطَانُ الرَّجِيمُ»[1]، هذه الاستعاذة بالله‌ تعالى من شرّ وساوس الشيطان من أجل أنّ الله‌ تعالى يُبعد الشيطان من قلب الإنسان المؤمن الخاشع لله‌، فالقلب الذي يستشعر الخضوع والخشوع في مقابل الباري تعالى


1. مصباح الشريعة، ص 28 عن بحار الأنوار، ج 82، ص 43.

يكون مستعدا لنيل الأنوار الإلهيّة، بمعنى أنّ الشيطان هو المانع الأكبر لتجلّي نور الحقّ على قلب هذا الإنسان، فإذا خشع هذا القلب لله‌ خرج منه الشيطان هاربا.

وجاء في الحديث الشريف عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «لَولا أَنَّ الشَّياطِينَ يحُومُونَ عَلى قَلُوبِ بَنِي آدمَ لَنَظَرُوا إِلى المَلَكُوتِ»[1]، فالمانع من نظر الإنسان إلى عالم الملكوت هو ابتلاء القلب بوساوس الشياطين وتورطه في شداتها، فالشياطين تجول وتطوف دائما حول قلب الإنسان وتمنع الأنوار الإلهيّة الاشراق على هذا القلب، فلو خضع هذا القلب وخشع لله‌ فإنّ الشيطان سيتركه ويبتعد عنه.

الثاني: البدن الفارغ، فيجب يكون البدن فارغا من المشاغل الدنيويّة التي تلهي الإنسان عن الاهتمام بالأمور الروحانيّة.

الثالث: وموضع خالٍ، الإنسان يحتاج إلى مكان خلوة يبتعد فيه عن الضوضاء وعالم الكثرة والمجالس الصاخبة وأصحاب الدنيا المشغولين باللعب واللهو، فينبغي أن يبتعد عن هذه الأمور حتّى تأنس روحه بالله‌ تبارك وتعالى، فقارى‌ء القرآن يحتاج بشدّة إلى الاُنس والخلوة لله‌ تعالى عند تلاوته للقرآن حتّى يذوق حلاوة الخطاب الإلهي ويرى رعاية الله‌ ويستشعر بها في قلبه ويدرك عناية الحقّ بها في أعماق وجوده، وعلى حدّ تعبير بعض الأكابر، إذا وجد قارى‌ء القرآن مثل هذه الحالة في نفسه وقلبه فإنّه لا يكون مستعدا أبدا أن يترك هذه الحالة والانشغال بعمل آخر، وعندما نشعر بالتعب والملل من قراءة القرآن فهذا يعني أننا لم نوفّر الشروط المقررة لتلاوة القرآن، وتكون تلاوتنا مجرّد تلاوة باللسان فقط دون أن يشترك قلبنا في فهم معاني القرآن ودون أن يستشعر القلب حالة الحضور والخشوع، وإلاّ فإنّ القلب الخاشع لا يملّ أبدا من تلاوة القرآن.


1. محجّة البيضاء، ج 2، ص 241.


130ـ تفاوت القرآن مع سائر الكتب


بسم الله الرحمن الرحيم

يتابع الإمام الصادق عليه‌السلام قوله في الرواية السابقة: «فَانظُرْ كَيفَ تَقرَأ كِتَابَ رَبِّكَ وَمَنشُورَ وَلايَتِك»، لا ينبغي أن تكون تلاوة القرآن مثل قراءة سائر الكتب الأخرى، ففي سائر الكتب لا يدرك الشخص عظمة وقدرة المؤلف وصاحب الكتاب، خلافا للقرآن الكريم الذي نعلم أنّه كلام الله‌ تعالى وقد أرسله الباري تعالى إلى الناس لإرشادهم وهدايتهم إلى طريق الحقّ والصواب، فالقرآن هو منشور ولاية الحّق تبارك وتعالى، والإنسان المؤمن لا يجد لتحقيق لسعادته أي كتاب ومنشور آخر غير كتاب الله‌ تبارك وتعالى، وهو المنشور والكتاب الذي يحقّق السعادة الواقعيّة والحقيقيّة للإنسان، فنحن بتلاوة القرآن نطالع ونقرأ المنشور الواقعي للسعادة والهداية ونتدبّر في آياته.

«وَكَيْفَ تُجِيبُ أَوَامِرَهُ وتَجتَنِبُ نَواهِيهِ»، فيجب على قارى‌ء القرآن أن يقف أمام الآيات التي تتضمّن الأوامر والنواهي الإلهيّة ويتدبّر فيها وما عمل على تطبيقه في حياته من هذه الأوامر والأحكام، وما مقدار ما امتثله من هذه النواهي.

«وَكَيفَ تَتَمَثَّلُ حُدُودَهُ»، أي كيف تعمل على رعاية الحدود الإلهيّة.

««فَإِنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَمِيدٍ فَرَتَّلَهُ تَرتِيلاً»[1] وَقِفْ عِنْدَ وَعدِهِ وَوَعِيدِهِ».

إنّ وعود القرآن لا تختصّ بالجنّة وعالم الآخرة، بل ثمّة وعود مهمّة في هذا العالم أيضا: «وَعَدَ الله‌ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ...»[2]، وعندما نقرأ هذه الآية يجب أن نرى هل أننا نملك اللياقة لنكون من زمرة مصاديق هذا الوعد الإلهي أم لا؟ وهكذا بالنسبة للآيات التي تتحدّث عن العذاب الإلهي فلابدّ أن نفكّر في أنفسنا لئلا يكون هذا الخطاب متوجّها لنا ونحن نستحق العذاب والعقاب الإلهي يوم القيامة.

«وَفَكِّرْ فِي أَمثَالِهِ وَمَواعِظِهِ وَاحذَرْ أَنْ تَقَعَ مِنْ إِقَامَتِكَ حُرُوفَهُ فِي إِضَاعَةِ حُدُودِهِ»[3]، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: عندما تصل في تلاوة الآيات الكريمة إلى الأمثال والمواعظ والحِكم فعليك أن تفكّر فيها وتتمعّن فيها، فعندما يحكي لنا القرآن هذه القصص ليس من أجل الاستمتاع وبيان معلومات تاريخيّة فحسب بل لكي نكسب الدرس والعبرة من هذا، فالإنسان ما لم يفكّر في سيرة الأولين وما جرى على الأقوام السالفة ولا يفكّر بالسبب الذي ابتليت هذه الأقوام بالعذاب الإلهي، وما هو العامل الذي دفع بهؤلاء الناس رغم وجود تحذيرات الآنبياء أن يتوغلوا في خطّ الضلالة والمعصية، فإنّه لا يستطيع أن يكسب العبرة من حياتهم وسيرتهم، وفي ذيل هذه الرواية يقول الإمام: «وَاحذَرْ أَنْ تَقَعَ مِنْ إِقَامَتِكَ حُرُوفَهُ فِي إِضَاعَةِ حُدُودِهِ»، واحذر أنّك تضيّع لا سمح الله‌ حقائق القرآن وحدوده.


1. سورة فصلت، الآية 42.

2. سورة النور، الآية 55.

3. مصباح الشريعة، ص 69؛ التنبيهات العليّة، ص 122.

وللأسف نرى في زماننا أنّ البعض يهتمّ كثيرا بتجويد القرآن وإقامة حروفه وترتيله بشكل صحيح وخاصّة في الصّلاة، وأحيانا يكرر الكلمة عدّة مرّات لمراعاة التجويد اللفظي بحيث يصبح محلّ استهزاء الآخرين، وهنا ننقل هذا كلام من بعض الأكبار كالمرحوم الفيض الكاشاني حيث يقول: إنّ أكبر استهزاء للشيطان بهذا الشخص المصلّي عندما يقول: «ولا الضّالّين» ويتصوّر أنّه لم يؤدّها بشكل صحيح ولذا يقوم بتكرارها مرّات عديدة بحيث يكون مورد استهزاء الآخرين، فالإمام الصادق عليه‌السلام يقول: إحذر أن يكون اهتمامك بإقامة الحروف أكثر من اللازم بحيث إنّك تضيّع حدود القرآن ومعانيه ومفاهيمه السامية.

نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا معرفة حقائق القرآن ويفتح قلوبنا على تعاليمه وحدوده ويوفّقنا لإقامتها والعمل به في واقع الحياة إنّ شاء الله.


131ـ آداب القراءة: التعظيم ـ التفكّر


بسم الله الرحمن الرحيم

بحسب الرواية الواردة في كتاب «مصباح الشريعة» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ قراءة القرآن لها مراتب، ويجب على القارى‌ء للقرآن معرفة هذه المراتب والالتفات إليها، المرتبة الاُولى: مرتبة التعظيم، المرتبة الثانية، التدبّر، الثالثة: التخلي، الرابعة: التفهمّ والتخصيص، والخامسة: التأثر والترقي.

يتحدّث المرحوم الميرزا جواد ملكي التبريزي رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «أسرار الصّلاة» في بيان هذه المراتب بكلام جميل وبليغ يحكي عن معنوية هذا الرجل العظيم ومرتبته السامية في المسائل العرفانيّة والأخلاقية: المرتبة الاُولى، وهي مرتبة التعظيم وسبق أن تحدّثنا عنها، فالقارى‌ء للقرآن يجب أن يلتفت إلى عظمة الكلام والمتكلّم، فالكلام عظيم جدّا، وكذلك المتكلّم، وهذا الفهم من شأنه أن يخلق في نفس القارى‌ء حالة الخشوع والخضوع.

أمّا المرتبة الثانية، وهي التفكّر والتدبّر في آيات القرآن، فإنّ القرآن نفسه يدعو الناس للتفكّر في آياته ويستنكر من لا يتدبّر ولا يتفكّر فيها: «أَفَلا

يَتَدَّبَّرُونَ القُرْآنَ...»[1].

يقول المرحوم الميرزا جواد ملكي في كتابه «أسرار الصّلاة»: إذا قرأت في سورة الواقعة «أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ»[2]، فإنّ الله‌ تعالى في هذه الآية الشريفة يريد أن يفهمنا بأنّكم لا ينبغي أن تحصروا فكركم بأنّ الماء وسيلة لرفع العطش فقط، بل إنّ كلّ موجود حي في هذا العالم من النباتات والأشجار والحيوانات خلقت جميعا من الماء وتحتاج في إستمرار حياتها إلى الماء، فينبغي على الإنسان أن يفكّر كيف أنّ قطرات الماء هذه تتبدّل في عالم الطبيعة إلى غذاء وطعام، والحبوب التي توضع في التراب تتبدّل إلى نبات، وهذا النبات يتبدّل إلى غذاءٍ للحيوانات، وهذه الحيوانات تكون غذاءً للإنسان، فعندما تتحوّل إلى غذاءٍ للإنسان وتكون لحمه وجلده وعظمه فإنّ هذا الإنسان لا يعتمد في حياته وبدنه فقط على هذا الغذاء، بل إنّ قوّة ذهنه وإدراكه وحواس السمع والبصر و... وسائر القوى الأخرى تتولّد من هذا الغذاء، وفي هذه المرحلة يجد الإنسان الصلاحيّة والاستعداد لتقبّل الروح الإلهيّة وينوجد فيه الشعور والفكر والعقل، فما لم تتحقّق تلك المراحل لا يحصل الإنسان هذه اللياقة والقابليّة لهذه المرحلة.

«ثُمَّ تَفَكَّرْ فِي حَقِيقَةِ العَقلِ وَالعَظَمَةِ، ثُمَّ تَفَكَّرْ فِي مَراتِبِ العُقُولِ»، ويقول ملكي التبريزي: إذا تدبّر الإنسان في هذه الآية: «أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ»، وأدرك أنّ هذا الماء الذي يشربه ليس مجرّد قطرات من الماء ليرفع عطشه بها، بل إنّ هذا الماء في مسيرة التكامل هو مصدر الحياة الظاهريّة للكائنات والحياة الظاهريّة والباطنيّة للإنسان، وهنا يلتفت إلى المبدأ والمصدر لهذا الماء.


1. سورة محمّد، الآية 24.

2. سورة الواقعة، الآية 8 ـ .69

والمثال الثاني الذي يذكره الميرزا ملكي التبريزي في كتابه، الآية الشريفة: «فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ الله‌ كَيْفَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا...» ، فعندما يقرأ الإنسان هذه الآية الشريفة ويفكّر في رحمة الله‌ تعالى وقموميّته على جميع العالم والكائنات، وعندما يفكّر في قوله تعالى: «الله‌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ...» ، فماذا تعني كلمة «قيوم»؟ إنّ قيّوميّة البارى تبارك وتعالى على جميع عالم الوجود هي الحافظة والماسكة لهذا العالم والكائنات من الاندثار والزوال، فعندما تقف السقوف على الدعائم والأعمدة فإنّ هذا يعكس قيّوميّة هذه الأركان والأعمدة بحيث إنّها لو أصابها الخلل والاعوجاج لحظة واحدة فإنّ السقف سينهار، وعالم الوجود والكائنات تستقي وجودها وبقائها من نور قيّوميّة الباري تعالى، ولو انطفأ ذلك النور لحظة واحدة فإنّ جميع الأشعة في عالم الموجود ستزول وتنعدم، وهكذا نعلم بأنّ الله‌ تبارك وتعالى له قيّوميّة على سائر المخلوقات بحيث إنّ هذه القيّوميّة لو سلبت من المخلوقات لحظة واحدة فلا يبقى شيء في العالم وستندثر جميع الكائنات والموجودات، إذن يجب علينا التفكّر والتدبّر في الآيات الإلهيّة.

وإحدى المراتب المهمّة في آداب القراءة والتلاوة، مسألة التفكر في آيات القرآن الكريم، نرجو أن يوفّقنا الله‌ جميعا للتفكّر والتدبّر إن شاء الله.


1. سورة الروم، الآية 50.

2. سورة البقرة، الآية 255.


132ـ آداب القراءة: التخصيص


بسم الله الرحمن الرحيم

وأحد الآداب الأخرى لقراءة القرآن: التخصيص، والتخصيص يعني أنّ الشخص عندما يقرأ القرآن يرى نفسه مخاطبا لهذه الآيات الشريفة وهو المقصود بالخطابات القرآنيّة، وكأنّ الله‌ تعالى يتحدّث معه فيها، فلو أنّه مرّ على آية فيها أمر للمخاطب فعليه أن يعلم أنّه المأمور وهو المخاطب بهذه الآية، وإذا مرّ بأية فيها نهي فيقول: إنّ النهي متوجّه لي في هذه الآية الشريفة ويجب عليَّ امتثال هذا النهي، فلا ينبغي أن نقرأ آية الجنّة فقط ونقول إنّها ترتبط بنا وأنّ هذا الوعد الإلهي بالجنّة يخصّنا، ولكن عندما نصل إلى آيات العذاب وجهنّم نقول بأنّ المقصود بها هو الكفّار والفسّاق والمنافقين، كلاّ، لا ينبغي أن نتعامل مع آيات القرآن بهذه الصورة، يقول أميرالمؤمنين عليه‌السلام: «وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»[1].

وعندما يصلوا إلى هذه الآية الشريفة: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ»[2]، والتي تتحدّث عن


1. نهج البلاغة، الخطبة 184.

2. سورة الحاقة، الآية 30.

حال المجرمين يوم القيامة وكيفيّة سحبهم بالسلاسل إلى النار، فيجب أن يخاطب نفسه لئلا يكون من زمرة هذه الفئة والجماعة، لا ينبغي أن تكون أعمالنا بحيث تجعلنا من هذه الجماعة، ومن هذه الجهة لابدّ أن يستشعر القارى‌ء للقرآن حالة الخوف والاضطراب في نفسه.

ويحكى عن بعض الأكابر والأولياء كان عندما يقرأ هذه الآيات فإنّه ومن شدّة البكاء والجزع يصاب بالإغماء، لأنّه يتصوّر حالاته عندما يقرأ الآية «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ»، وكأنّ يوم القيامة تجسد أمام عينيه ويرى نفسه في زمرة هؤلاء المجرمين والمذنبين، فمن شدّة الخوف والاضطراب يبكي حتّى يغمى عليه، وعندما يصل إلى آيات الرحمة ويقرأ: «لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله‌ إِنَّ الله‌ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»[1]، ينشرح لها صدره ويفرح ويقول إن شاء الله‌ أنا أكون من هؤلاء الذين غفر الله‌ لهم ذنوبهم وأدخلهم في رحمته الواسعة، ويتصوّر من شدّة فرحه وشوقه وكأنّه له جناحان يريد أن يطير بهما من شدّة الفرح، وهكذا الحال عندما يتأثر القلب بتلاوة الآيات الجليلة وعندما يدرك القارى‌ء مفهوم التخصيص في هذه الآيات.

ومن الحالات الأخرى التي يجب على قارى‌ء القرآن الالتفات إليها، الترقي، بمعنى أنّه عندما يقرأ القرآن الكريم فكأنّما يسمع كلام الله‌ تعالى، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «عندما أقرأ القرآن فكأنّني أسمع هذه الآيات من المتكلّم بها».


1. سورة الزمر، الآية 53.


133ـ آداب القراءة: الترقّي


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «وَالله‌ لَقَدْ تَجَلّى الله‌ لِخَلقِهِ فِي كَلامِهِ وَلَكنْ لا يُبصِرُونَ»

ثمّة ثلاث مراحل في مسألة الترقّي لقارى‌ء القرآن، وأوّل هذه المراحل أن يرى القارى‌ء نفسه واقفا بين يدي الله‌ عزّ وجلّ، فعندما يقرأ القرآن عليه أن يجد نفسه حاضرا في مقابل الله‌ تبارك وتعالى، وعلينا أن نعلم أنّه تعالى يرانا ويسمع كلامنا، فعندما يشعر الإنسان بهذه الحالة فسوف يقرأ الآيات بحزن أو بشوق ووَجْد، وحتّى عندما يطلب من الله‌ تعالى شيئا ويصل إلى آياته وصفاته الرحيميّة والغفوريّة فإنّه يستشعر التملق إلى الباري تبارك وتعالى، فحالة التملّق حالة سلبية وذميمة في جميع الموارد والمواطن إلاّ التملّق في المعنويّات في مقابل الله‌ تبارك وتعالى.

المرحلة الثانية، وهي أعلى من هذه المرتبة، أي يشهد القارى‌ء بقلبه وكأنّ الله‌ تعالى يخاطبه ويتحدّث معه ويناجيه، وكأنّه يسمع كلام الله‌ ويدرك أنّه هو المخاطب في هذا الكلام من قِبل الله‌ تبارك وتعالى، فالالتفات إلى هذه الحقيقة،

وهي أنّ الله‌ تعالى يتحدّث معه بهذه الآيات يؤثر كثيرا في فهم القارى‌ء لهذه الآيات، وسيجد في نفسه حالة من التعظيم والحياء والهيبة والأمل أكثر فأكثر في علاقته وارتباطه بالله‌ تبارك وتعالى.

المرحلة الثالثة، وهي بدورها أعلى من تلك المرحلة السابقة، وهي «أَنْ يَرَى فِي الكَلامِ المُتَكَلِّمَ، وَفِي الكَلِمَاتِ الصَّفِاتَ، وَيَشْتَغِلُ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ إِلى قِرَاءَتِه وَإِلى نَفْسِهِ»، وعندما يقرأ كلام الله‌ فكأنّه يرى المتكلّم بهذا الكلام، ويرى من خلال هذه الآيات والكلمات الإلهيّة صفات الله‌ تبارك وتعالى، فحينئذٍ يغفل عن نفسه وحتّى عن قراءته الظاهريّة لهذه الكلمات والآيات ويشاهد فقط الله‌ تبارك وتعالى ويستغرق في هذه الأجواء وفي مقام الشهود.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام «وَالله‌ لَقَدْ تَجَلّى الله‌ لِخَلقِهِ فِي كَلامِهِ وَلَكنْ لا يُبصِرُونَ»[1]، يعني أنّ الإنسان إذا أراد مشاهدة الله‌ تعالى، فإنّ الله‌ قد تجلّى لعباده من خلال كلامه في القرآن الكريم، ولكن الحجب التي تحجب الناس عن هذه الحقائق تمنعهم من هذه الرؤية.

وطبعا فإنّ هذه المرتبة هي مرتبة ساميّة جدّا وتختصّ بالمقرّبين، ويقول المرحوم الميرزا جواد ملكي في كتابه «أسرار الصّلاة» فيما يتّصل بهذه المرتبة وأنّها آخر مرتبة يشاهد الإنسان الباري تعالى ولا يرى نفسه وهذه الألفاظ والكلمات ويستغرق في الشهود: إنّ هذه الدرجة والمرتبة خاصّة بالمقربّين، أمّا المرتبة الثانية، وهي أن يشعر الإنسان بأنّ الله‌ تعالى يتحدّث معه، فتتعلّق بأصحاب اليقين، والمرتبة الاُولى تتعلّق بسائر الناس بأن يعلموا بأنّهم يجلسون في محضر الباري تعالى، وعليهم أن يعلموا أنّهم عندما يقرأون القرآن فإنّ الله‌ تعالى ينظر إليهم.


1. التنبيهات العليّة، ص 138.


134 ، 135ـ سورة الحمد في الحديث القدسي


بسم الله الرحمن الرحيم

نتحدّث الآن عن موضوع قراءة سورة الحمد في الصّلاة، وسبق أن أشرنا أنّ ثواب تلاوة آية واحدة في الصّلاة تعادل أحيانا مائة ضعف من ثواب تلاوة آية في غير الصّلاة، وإذا التفت المؤمنون إلى هذا الأمر فسوف يساعدهم ذلك على حفظ مقدار من آيات وسور القرآن الكريم وتلاوتها في صلاتهم وخاصّة السور التي تتضمّن آيات أكثر.

وأحد الأجزاء المهمّة جدّا، سورة الحمد وسورة أخرى حيث يجب قراءة هاتين السورتين في الركعتين الاُوليين من الصّلاة، وحتّى في الركعات الأخرى، الثالثة والرابعة فالمصلّي مخيّر بين قراءة سورة الحمد أو التسبيحات الأربعة، وهذا يكشف عن أهميّة قراءة القرآن وبخاصّة سورة الحمد في الصّلاة، التي هي سفر إلهي ومعراج المؤمن، ولو أننا تعرفنا على الأسرار الواردة في سورة الحمد أو فاتحة الكتاب، فسوف نعرف أهميّة الصّلاة وتأثيرها ودورها في حياة الإنسان.

فبالنسبة للقراءة ينبغي القول إنّ المصلّين على فئتين: الفئة الاُولى، ليس لها ربح وحظ من القراءة سوى التلفّظ بالكلمات أو حتّى التجويد والترتيل بشكل جميل، هؤلاء محرومون من بركات روح العبادة، الفئة الثانية، هم الأشخاص الذين تكون قراءتهم وسيلة التذكّر والحمد والثناء لله‌ ربّ العالمين وتقديسه، هؤلاء لهم الحظ الوافر من ثمرات العبادة والصّلاة، ونرجو عند قراءة سورة فاتحة الكتاب الالتفات إلى هذا الحديث القدسي وهو حديث عميق المغزى والمضمون، يقول الله‌ تبارك وتعالى في هذا الحديث القدسي: «قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَينِي وَبَينَ عَبْدِي فَنِصفُها لِي وَنِصْفُها لِعَبدِي»، ومن المسلّم أنّ حقّ النصف الأوّل المتعلّق بالباري تعالى وهو الحقّ الربوبي إذا لم يؤدّها المصلّي على الوجه الصحيح فلا تصل النوبة للنصف الثاني من حقّ العباد.

«فَإِذا قَالَ بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ الله: ذَكَرَنِي عَبْدِي».

والذكر هنا له مرتبة لفظيّة وظاهريّة بأن يذكر الإنسان الله‌ تعالى بلسانه، والمرتبة الأخرى هي المرتبة القلبيّة والإيمانيّة.

إنّ بيان أسماء الله‌ الحسنى وصفات الجمال والكمال والجلال للذات المقدّسة تعدّ من مصاديق الذكر، ولكنّ أفضل وأعمق وأقرّب مصاديق ذكر الله، هو: «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، يقول الباري تعالى: عندما يذكرني عبدي بهذه العبارة، فليس المقصود هنا الذكر اللفظي فقط من عبارة «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، بل يجب على الإنسان أن يكون ذاكرا لله‌ بقلبه وأعماق وجوده، كما أنّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المراد من الاسم هو المسمى، يعني حقيقة كلّ شيء في عالم الوجود هي جلوة من تجليات الحقّ تبارك وتعالى، فالإنسان يجب أن يصدق ويؤمن بأنّه لا موجود في هذا العالم لا يحكي عن الوجود الباري تبارك وتعالى ولا كائن من كائنات عالم الطبيعة إلاّ هو تجلي من تجليات حضرة الحق تعالى.

ولا ينبغي لنا أن نحصر جملة «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، بأنّها أمر مستحب يأتي به الإنسان في بداية كلّ عمل من أعماله، فرغم أنّ هذا الذكر للبسملة في بداية كلّ عمل أمر محبذ ومستحب مؤكّد، ولكن حقيقة «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم»، أعلى من هذه المرتبة، وهذا يعدّ أدنى مرتبة من مراتب حقيقة البسملة ورشحة من رشحات حقيقة «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، يعني يجب على الإنسان أن يؤمن ويعتقد بأنّ جميع موجودات هذا العالم هي في حقيقتها تجلّيات الباري تبارك وتعالى، وجميع موجودات العالم مظهر من مظاهر الله‌ تعالى ولا شيء في هذا العالم منفصل ومستقل عن فعل الله، إذن فكلّ شيء مقترن بالذات المقدّسة ومرتبط بالله‌ تعالى، وعندما نذكر «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم»، فإننا نريد من هذه العبارة ومن هذا الذكر أن نعترف ونقرّ بألستنا ونصدق بقلوبنا بهذا المعنى في البسملة.

يجب أن يكون قلب الإنسان تجسيدا للذكر، أي يكون باطنه ذاكرا وتتحقّق صفة الذاكر لذاته، ويتبادر إلى ذهننا هنا كلام العارف بابا طاهر، حيث يقول: «هنيئا للأشخاص الذين يعيشون الصّلاة دائما»، وهذا الكلام ناظر إلى الأشخاص الذين يعيشون القلب الذاكر، فإذا كان القلب ذاكرا فإنّه سيكون ذاكرا حتّى في حال النوم ولا فرق لديه بين النوم واليقظة.

ومن هذا المنطلق فالنقطة الاُولى فيما يتّصل «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم»، هي أنّ قلب الإنسان أيضا يجب أن يكون ذاكرا لهذا الذكر، فلو قال الله‌ تعالى: «ذكرني عبدي» أي عندما يتلفّظ المصلّي البسملة فإنّه يذكر الله‌ تعالى، وهذا الذكر ليس مجرّد لقلقة لسان بل إنّ الله‌ تعالى ينظرإلى قلب المصلّي، فإذا كان قلبه ذاكرا وكانت هذه البسملة نابعة من قلبه، فهنا يقول الله: «ذكرني عبدي» ولكن إذا كانت البسملة تدور في مدار اللسان فقط ولا تحدث أي تغيّر وتحوّل في قلبه ولا يشهد

بأي تجلّي لله‌ تعالى في ممكنات العالم، فهنا لا يمكن القول إنّ حقيقة الذكر موجودة في هذا الشخص، وبالتالي لا يقول الله: ذكرني عبدي.

«اِذا قَالَ الْحَمْدُ للهِ يَقُولُ الله: حَمَدَنِي عَبْدِي وَأَثنَى عَلَيَّ».

«وَإِذا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ الله: عَظَمَنِي عَبْدِي»، ويتبيّن من هذا الكلام لله‌ تعالى وجود فرق بين هذه العبارة «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وبين ما ورد في البسملة «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم»، وأنّ هذه الكلمة لا تعدّ من التكرار، فهنا يدرك المصلّي مقام التعظيم لله‌ تبارك وتعالى.

«وَإِذا قَالَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ الله: مَجَدَنِي عَبْدِي»، فهذه العبارة تدلّ على أنّ المجد والعظمة والمالكيّة لله‌ تعالى.

«وَإِذا قَالَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ الله: هَذا بَينِي وَبَينَ عَبْدِي»، فهذه الآية الشريفة نصفها لله‌ إلى قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»، ونصفها الآخر للعبد وناظرة إلى نفعه وهو قوله: «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

«وَإِذا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ الله: هَذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَألَ»[1].

وطبقا لهذا الحديث القدسي فإنّ سورة فاتحة الكتاب من البسملة إلى مالك يوم الدين مختصّ بالله‌ تعالى، ويجب على المصلّي أن يلتفت إلى هذه النقطة كاملاً ليستطيع الاستغراق في حال التوجّه إلى الله‌ تعالى، أمّا الآية: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، فالمصلّي يجب أن يعلم بأنّ قسما منها متعلّق بالله‌ تعالى والقسم الآخر متعلّق به، أمّا باقي السورة فمختصّ بالعبد.


1. بحار الأنوار، ج 92، ص 226.


136ـ حقيقة الذكر في الروايات


بسم الله الرحمن الرحيم

أرى من المناسب أن نستعرض في مورد حقيقة الذكر بعض الروايات لكي نعرف ما هي حقيقة الذكر، فإنّ حقيقة الذكر ليست مجرّد التسبيح ومسك المسبحة باليد وذكر بعض الأوراد والاذكار، بل هذا الذكر لساني مقدّمة للتوصّل إلى حقيقة الذكر القلبي، وهو ما يوجد في باطن الإنسان من التوجّه إلى الله‌ تعالى، بحيث يرى الإنسان نفسه في محضر الحقّ تعالى ويرى العالم جلوة من تجليات الباري تبارك وتعالى، فلو وصل الذاكر إلى هذه المرحلة فإنّه قد وصل إلى مقام الذكر.

ونقرأ في بعض الروايات إنّ الله‌ عزّ وجلّ يقول: «أَنا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي»[1]، وهذا المعنى يعكس غاية اللطف الإلهي بعبده، مع أنّ توفيق الذكر وأن يتوجّه الإنسان إلى ربّه بذكره هو توفيق من الله‌ تعالى وعنايته، ولكنه تعالى يقول: عندما يوفّق قلب هذا العبد لذكري فسأكون جليسه وصاحبه، وعندما يكون الله‌ تعالى جليس المرء وصاحبه فإنّ يده ستتحرّك بعناية الباري تعالى، وهكذا يعيش هذا الإنسان


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ح 2، ص 496.

بوجوده ويتحر فكره، وعينه، واُذنه، ولسانه وجميع كيانه وقواه بنظر الله‌ تعالى وعنايته ومشيئته، وهذا توفيق عظيم لا يناله سوى أولياء الله‌ الخاصّين الذين يعيشون حالة الذكر الدائم بقلوبهم.

وجاء في حديث قدسي آخر أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال: «قَالَ الله‌ عَزَّوَجَلَّ يا بنَ آدم اُذكُرنِي فِي نَفسِكَ أَذكُرْكَ فِي نَفسِي»، وهذا الذكر لله‌ عزّ وجلّ الوارد في هذا الحديث الشريف هو ذكر في مرتبة الذات، هو رتبة أعلى بكثير من ذكر الله‌ تعالى عند الملائكة، وهذا المعنى نعجز عن فهمه ولا نستطيع إدراك هذا المفهوم العميق، وهو أن يذكرنا في نفسه، فماذا يعني هذا الذكر؟ إنّ الله‌ تعالى يقول هذا الكلام لنستطيع أن نتصوّر ولو بمقدار قليل أنّ هناك مرتبة أعلى وهي هذه المرتبة السامية من عناية الحقّ تبارك وتعالى بعبده بأن يذكره في نفسه، وليس أمام الملائكة كما في الأحاديث الأخرى.

إنّ الله‌ تعالى إذا أراد أن يمنح العبد عنايته الخاصّة فإنّه يقول: إنّ هذا العبد قد ذكرني في نفسه دون أن يلتفت إليه أحد من الناس ودون أن يشير إلى ذلك ليلفت نظر الآخرين إليه، فأنا أذكره أيضا في نفسي.

«يابنَ آدم اُذكُرنِي فِي خَلأ أَذكُرْكَ فِي خَلأ، يابنَ آدم اُذكُرني فِي مَلأ أَذكُرْكَ فِي ملأ خَيرٌ مِنْ مَلئكَ».

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في سياق هذا الحديث الشريف: «مَا مِنْ عَبْدٍ ذَكَرَ الله‌ فِي مَلأ مِنْ النَّاسِ إِلاّ ذَكَرَهُ الله‌ فِي مَلأ مِنَ المَلائِكَةِ»[1].

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والتبليغ للدين الإلهي والحضور في المساجد وإقامة الصّلاة جماعة، كلّها من مصاديق ذكر الله‌ في الملأ، فالشخص الذي يدعون الناس إلى الله‌ تعالى ويرشدهم إلى طريق الهداية


1. وسائل الشيعة، ج 7، ص 159؛ المجالس، ج 1، ص 39.

والإيمان فإنّه يذكر الله‌ تعالى في جماعة من الناس، وهذا مصداق ذكر الله‌ في الملأ، وفي المقابل فإنّ الله‌ تعالى يذكر هذا الشخص في اجتماع عظيم للملائكة بما لا يقبل المقارنة بتجمع بشري.

إذن ينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أهميّة ذكر الله‌ تعالى وأنّ ذكر بسم الله‌ الرحمن الرحيم هو المصاديق البارزة لذكر الله، ومقدّمة لايجاد الذكر الواقعي وتجسيد الذكر القلبي في أعمال الذات إن شاء الله.


137ـ بسم الله‌ الرحمن الرحيم ذكر الله


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام علي عليه‌السلام: «إِنَّ كُلَّ مَا فِي القُرْآنِ فِي الفَاتِحَةِ...».

أشرنا فيما تقدّم إلى الآية الشريفة: «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وطبعا لا نقصد في هذا البحث تفسير سورة الحمد، رغم أنّ بعض الأكابر ذكروا في كتابهم «أسرار الصّلاة» جانبا من تفسير هذه السورة المباركة، وكذلك ذكروا بعض الجوانب من تفسير سورة التوحيد، ولو أردنا الدخول في هذه البحوث التفسيريّة فسوف يطول بنا المقام، ولكن بمناسبة ذكر هذا الحديث القدسي، فإنّ العبد عندما يقول: «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فإنّ الله‌ تعالى يقول: «ذكَرَنِي عَبْدِي»، ولذلك نشير هنا إلى بعض النقاط التي نستوحيها من هذا الحديث فيما يتّصل بالآية «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».

وينبغي الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ القرآن الكريم نفسه يصرّح في بعض آياته بأنّه ذكر، وحتّى أنّه ورد التعبير عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بأنّه ذكر، فكلّ هذه الأمور من مصاديق الذكر، كما ورد في الرواية المنسوبة إلى أميرالمؤمنين

صلوات الله‌ عليه وقال: «إِنَّ كُلَّ مَا فِي القُرْآنِ فِي الفَاتِحَةِ»، فجميع المعاني، والمفاهيم، والأسرار، والحقائق الواردة في القرآن الكريم، وردت بشكل إجمالي وموجز في سورة فاتحة الكتاب، ولذلك كانت هذه السورة اُمّ الكتاب، يعني سورة الحمد تجمع في مطاويها جميع معاني وحقائق القرآن بشكل إجمالي.

ويتابع أميرالمؤمنين عليه‌السلام بالقول: «وَكُلُّ مَا فِي الفَاتِحَةِ في «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وَكُلُّ مَا فِيهِ فِي البَاءِ، وَكُلِّ مَا فِي البَاءِ فِي النُّقطَة وَأَنا النُقطَة تَحْتَ البَاءِ»، وهذه الرواية مذكورة في كتا ب مشارق أنوار اليقين[1] وفي كتاب ينابيع المودّة.

يجب على المصلّي أن يعلم أنّ جميع معاني القرآن والحقائق الغيبيّة الموجودة في عمق الآيات القرآنيّة كامنة ومجتمعة في سورة الحمد، وحقيقة سورة الحمد موجودة في «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، ولذلك عندما يقف للصّلاة فلا ينبغي الاستعجال في قراءة هذه السورة، بل يتأمل في معانيها والإشارات التي وردت في روايات الأئمّة الطاهرين صلوات الله‌ عليهم أجمعين لهذه السورة، وفي هذه السورة سيتحوّل حاله إلى حال آخر، فعندما يقول: «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، يقول الله‌ تعالى: «ذكرني عبدي»، ومعنى ذكر الله‌ ليس أن يذكر اسم الله‌ بلسانه فقط، كلاّ، فالمصداق الأتمّ للذكر كما ورد في هذه الروايات، يتحّقق في «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».

وجاء في بعض الروايات[2] أنّ الباء في بسم لله‌ إشارة إلى إحدى صفات وأسماء الله‌ الحسنى وفي بعض آخر ذكر أنّ الباء إشارة إلى بهجة الله، وفي رواية ثالثة أنّه إشارة إلى بهاء الله، كما نقرأ في دعاء السحر في شهر رمضان المبارك: «اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِبهائِكَ كُلِّهِ وَكُلُّ بَهائِكَ بَهيّ»، فالبهاء هو أحد أسماء الله


1. مشارق أنوار اليقين في أسرار أميرالمؤمنين عليه‏السلام ، ص 35.

2. اُنظر: الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 1، ص 114.

الحسنى، و«سين» إشارة إلى سناء الله، و«ميم» إشارة إلى مجد الله، وجاء في بعض الروايات «أَنَّ مِيم دَليلٌ عَلَى مُلْكِهِ»، فالقارى‌ء للقرآن يجب أن يعلم ما في مطاوي هذه الحروف الجليلة وفي هذه السورة الشريفة، ولا يقرأها كما يقرأ سائر الكتب، بل هذه السورة تتضمّن غاية الحكمة والدقّة والنظم والبلاغة، فالشخص الذي يقف للصّلاة ويريد التوجّه والتفكير في هذه النقاط ولو بشكل إجمالي فإنّ قلبه سيشعر بالاستقرار والطمأنينة شيئا فشيئا ويكون مستعدا لاشراق التجليات الإلهيّة عليه.


138ـ معنى الله‌ في كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام علي عليه‌السلام: «إِنَّ كُلَّ مَا فِي القُرْآنِ فِي الفَاتِحَةِ...».

ينقل الشيخ الصدوق رضوان الله‌ عليه في كتابه «التوحيد»[1] هذه الرواية عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال: «إِنَّ رَجُلاً قَامَ إِلَيهِ فَقَالَ: ياأَمِيرَالمُؤمِنِينَ أَخْبِرنِي عن بِسمِ الله‌ الرّحمنِ الرَّحِيمِ مَا مَعنَاه»؟

ويستفاد من هذا السؤال أنّ أصحاب أميرالمؤمنين عليه‌السلام كانوا يعيشون مرتبة من الفهم والإيمان والدقّة في الملاحظة بحيث يسألون الإمام مثل هذه الأسئلة، وهكذا ينبغي على شعبنا العزيز وشبابنا أن يسعوا للمزيد من طرح أسئلتهم في المعارف والعقائد الدينيّة ويجب على علمائنا تقديم الأجوبة لهؤلاء الشباب حسب الامكان.

ونرى أنّ هذا الشخص سأل من الإمام عليه‌السلام عن معنى «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فقال له الإمام عليه‌السلام في جوابه: «إِنَّ قَولَكَ الله‌ أَعْظَمُ اسمِ مِنْ أَسمَاءِ الله، وَهُوَ


1. التوحيد للشيخ الصدوق، ص 231 باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم.

الإسمِ الَّذي لا يَنبَغِي أَنْ يُسَمّى بِهِ غَيرُ الله، وَهُوَ الَّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِبْدَ الحَوائِجِ وَالشَّدَائِدِ كُلُّ مَخلُوقٍ عِنْدَ انقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ هُوَ دُونَهُ وَتَقطُّعِ الأَسبَابِ مِنْ كُلِّ مَنْ سِواهُ»، فهذا الاسم هو مصداق تلك الحقيقة التي يلجأ إليها الناس عند الشدائد والأزمات وهو الله‌ الذي يحكي عن ذلك الموجود العظيم.

وهذا يعني أنّ الإنسان عندما يتلفظ بكلمة الله‌ فعليه أن يلتفت أنّ هذه الكلمة وهذا الاسم ليس له سوى مصداق واحد، بل لا يمكن عقلاً تصوّر مصداق آخر له، فلا موجود غير الله‌ تبارك وتعالى يكون قابلاً لإطلاق هذا الاسم عليه، ولا ينبغي القول إنّ الله‌ يعني المعبود، ثمّ يقال لا سمح لله‌ إنّ الأصنام والأوثان هي معبودة للوثنيين والمشركين وبذلك يكون الله‌ معبودا والأوثان معبودا آخر.

ومن هذه الجهة قال علماؤنا الأكابر، الله‌ اسم مستجمع لجميع الصفات الكماليّة، فعندما نقول: «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فلو أننا لم نلتفت إلى هذه الجهة من معنى هذه العبارة فإنّ الله‌ تعالى لا يقول: ذكرني عبدي، ولكن إذا التفتنا إلى أنّ الله‌ اسم مختصّ بتلك الذات اللامتناهية والذي يملك القدرة والعلم والحياة المطلقة وأنّ جميع عوالم الوجود صدرت من بركة وجوده وأسمائه الحسنى وصفات جلاله وجماله، وفي هذه الصورة يقول الله: ذكرني عبدي، وإلاّ إذا قلنا: الله، ولكننا لا نفهم من ندعو بهذا الاسم ولا نفهم أنّ الله‌ اسم لأي شيء ومتعلّق بأي موجود؟ فمن البديهي لا ينبغي أن نتوقع ذكر الله‌ لنا، وطبعا فإنّ مقصودنا لا يتعلّق بمعرفة الذات المقدّسة على نحو الحقيقة، لأنّه لا أحد من المخلوقات حتّى الأنبياء لا يستطيعون درك وفهم حقيقة الذات المقدّسة، ولكننا يجب أن نعلم بهذا المقدار، وهو أنّ الله‌ يتّصف بهذه الخصوصيّات «الله‌ هُوَ المَستُورُ عَنْ دَرْكِ الأبصَارِ المَحجُوبِ عَنِ الأوهَامِ وَالخَطَراتِ»، يجب أن نعلم أنّ هذا الأسم مختصّ بالله‌ تبارك وتعالى ونحن لا نستطيع درك تلك الذات المقدّسة لأنّ أذهاننا وأفهامنا ل

تملك القدرة على ذلك، ومن هذه الجهة يقول العرب عن الشخص المتحيّر، «أَلِهَ الرُّجل»، فكلمة الله‌ تعني أيضا تلك الذات التي تحيّرت فيها عقول البشر عن فهم حقيقته وأنّه تعالى محجوب عن جميع الأفكار والأوهام والأذهان.


139ـ مضافا إلى الصّلاة؛ كلّ عبادة تنقسم بين الله‌ وعبده


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة للحديث القدسي المتقدّم الذي يقسّم الصّلاة وسورة الحمد بين الله‌ وعبده، ربّما يثار هذا السؤال، هل أنّ ما ورد في هذا الحديث الشريف يختصّ بسورة الحمد أم يشمل الأفكار والأفعال والأمور الأخرى في الصّلاة وأنّها تقسّم أيضا بين الله‌ وعبده؟ لأنّه من جهة نرى في بداية هذا الحديث أنّ الله‌ تعالى يقول: «قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَينِي وَبَينَ عَبدِي»، ومن جهة أخرى وعندما يصل إلى شرح هذه المسألة يطرح فقط التقسيم في سورة الحمد، ويقول إنّ الآيات الاُولى من هذه الصورة تتعلّق بالله‌ من «بِسْمِ الله‌ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، و«الحَمد لله‌»؟

وهل أنّ ما ورد في هذا الحديث فيما يتّصل بسورة الحمد ذكر على سبيل المثال، أو أنّه يختصّ بسورة فاتحة الكتاب؟ وهنا قد يطرح هذا السؤال المهم أيضا، أساسا هل أنّ هذا التقسيم بين الله‌ وعبده خاص بالصّلاة؟ يعني لو قلنا في شرح سورة الحمد أنّ الله‌ تعالى أراد أن يبيّن لنا مثالاً ونموذجا في عملية القسمة

هذه، ولكن الصّلاة تتعلّق بالعبد من جهة، وتتعلّق بالله‌ من جهة أخرى، فهل يمكن أن يسري هذا الكلام وهذا التقسيم بالنسبة لجميع العبادات أم لا؟ هل يمكن القول إنّ كلّ عبادة ذات وجهين، وجه مرتبط بالله‌ تعالى، والوجه الآخر مرتبط بالإنسان؟

وقد أشار الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه إلى هذه النقطة الدقيقة وقال[1]: في نظرنا رغم أنّ هذه الرواية تقرّر أنّ الله‌ تعالى قسّم سورة الحمد إلى قسمين، ولكن هذا التقسيم يتعلّق بجميع أجزاء الصّلاة ويشمل الأذكار وحالات الصّلاة من التكبيرات الافتتاحيّة إلى قول المصلّي السلام عليكم.

ويتبيّن من كلام الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه وحشره الله‌ مع أجداده الطاهرين، إنّ العبد عندما يقول «الله‌ أكبر» ويؤدّي وظيفة العبوديّة بشكلها الصحيح ويعتقد أنّ جميع حالات الكبرياء والمجد والعظمة منحصرة لله‌ تعالى، فإذا اعتقد في باطنه وقلبه واقعا وحقيقة أنّ الله‌ أكبر وكان هذا النور يشرق في قلبه فإنّ الله‌ تعالى سيفتح أمامه باب المراودة والمكاشفة والإنابة، كما ورد في الحديث الشريف في كتاب «مصباح الشريعة» الإشارة إلى هذا المعنى، فعندما تكبّر تقول لقلبك: اُنظر والتفت جيدا هل تجد حلاوة هذه الصّلاة وحالة البهجة والسرور في قلبك أم لا؟ فلو أنّك بقولك «الله‌ أكبر» تشعر بالأنوار الإلهيّة تشرق على قلبك وأبواب السرور والبهجة تنفتح عليك وتحسّ بحلاوة في باطنك بين ذاتك وبين الله‌ تعالى، فيتبيّن أنّ هذه الكلمه «الله‌ أكبر» هي الله‌ أكبر واقعية وحقيقيّة، أمّا لو قلت تكبيرة الإحرام ولم تشعر بمثل هذه الحلاوة في باطنك فاعلم أنّ هذا التكبير لم يصدر منك من موقع الصدق والإخلاص وأنّك في قولك هذا غير صادق، فلو كان الإنسان صادقا في قوله فسيجد لذة الحلاوة في باطنه وقلبه.


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 219.

وعلى هذا الأساس فكلمة «الله‌ أكبر» ترتبط من جهة بالله‌ تعالى وتبيّن كبرياء الله‌ وعظمته من قبل العبد، وأمّا من الجهة الأخرى المتعلّقة بالعبد فإنّ الإنسان يستشعر اللطف الإلهي الخفي والرحمة الإلهيّة الجليّة ويذوق حلاوة المناجاة وعبادة الله.

ولو أردنا شرح وبسط كلام الإمام الراحل رحمه‌الله هذا فلا مانع من القول إنّ هذا الكلام يسري إلى جميع العبادات، ولكن قد يطرح هذا السؤال: ما هي الخصوصيّة في الصّلاة بحيث إنّ الله‌ تعالى في هذا الحديث القدسي الشريف ذكرها؟ الجواب: إنّ الصّلاة هي المظهر الأعلى والأتم للعبادة والمصداق البارز والجليل لهذا التقسيم، ففي كلّ عبادة هناك وجه متعلّق بالله‌ تعالى، ووجه آخر متعلّق بالعبد، ولكن هذا التقسيم في العبادات الأخرى ليس متجلّيا كما في الصّلاة، فكلّ شخص وإن لم يكن له حظّ من العلم والمعرفة يستطيع فهم هذين القسمين وأنّ أحدهما متعلّق بالله‌ والقسم الآخر متعلّق بالإنسان.

يجب علينا الالتفات إلى هذا المعنى في جميع عباداتنا ولا نتصوّر أنّ عباداتنا جميعا متعلّقة بالله‌ تعالى، وأنّها بمثابة الثقل الذي يحمله الإنسان على ظهر ويسلّمه إلى مولاه، فالعبادة لها جهة متعلّقة بالله‌ تبارك وتعالى وجهة أخرى متعلّقة بالإنسان نفسه، ومن ذلك آثار العبادة وحلاوتها في قلب الإنسان العابد إن شاء لله.


140ـ الاستعاذة، آدابها وأركانه


بسم الله الرحمن الرحيم

«فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[1]

وأحد الآداب المهمّة للقراءة «الاستعاذة» والمقصود من الاستعاذة أن يقول المصلّي بعد التكبيرة الإحرام وقبل أن يبتديء بقراءة السورة: «أَعُوذُ بِالله‌ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ»، وقد أفتى فقهاؤنا العظام باستحباب الاستعاذة قبل قراءة السورة، وصرّحوا أيضا بأنّ الاستعاذة يجب أن تكون على نحو الاخفات وبدون الجهر، ولكن ما هي الاستعاذة وما هي آدابها وأركانها، وهل أنّ الاستعاذة مجرّد ذكر كلام يجري على لسان المصلّي وأنّ الإنسان بمجرّد قول هذه العبارة سيكون في حصن حصين من الله‌ تبارك وتعالى، أو أنّ الاستعاذة كلام يجب أن يحكي عن استعاذة القلب والروح وباطن الإنسان وبذلك تكون الاستعاذة الحقيقيّة هي الاستعاذة القلبيّة؟

النقطة المهمّة جدّا هنا، هي أولاً: يجب الالتفات إلى الله‌ أنّ تبارك وتعالى


1. سورة النحل، الآية 98.

عندما أمر نبيّه الكريم: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ...»[1]، فهذا الله‌ الرحيم والرحمن يتحدّث مع نبيّه الكريم ويأمره بالتعامل مع المشركين بمثل هذا اللطف، فهل يعقل أن يستجير به المسلم ولا يقبل الله‌ تعالى إجارته واستعاذته، وما هي آثار وعلامات الاستعاذة بالله‌ تعالى في حياة الإنسان؟ وندرك نقاط مهمّة جدّا مع بعض الدقّة في حقيقة الاستعاذة.

أولاً: ورد في الآية الشريفة 98 ـ 100 من سورة النحل أنّ الله‌ تعالى أمر نبيّه الكريم: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، يعني أنّك عندما تقرأ القرآن بقصد القربة إلى الله‌ فاعلم أنّ الشيطان يهدف إلى إبعادك وإبعاد امّتك عنّي، وذهب بعض الفقهاء العظام أنّ الأمر بالاستعاذة في هذه الآية الشريفة واجب، لأنّهم ذهبوا في علم الأصول إلى ظهور صيغة الأمر بالوجوب، فالاستعاذة قبل قراءة القرآن واجبة.

ويقول الباري تعالى في سياق الآية: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ».

وبما أنّ قسما مهمّا من الصّلاة يتضمّن قراءة القرآن فلذلك يجب الاستعاذة من الشيطان بعنوانها من آداب القراءة في الصّلاة، كما أنّ القرآن أحد مصاديق الصراط المستقيم والمبين له، فإنّ الصّلاة كذلك من المصاديق البارزة للصراط المستقيم، ونقرأ في سورة الأعراف أنّ الشيطان بعد أن طرد من الجنّة قال مخاطبا الباري تعالى: «فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ»[2]، والصّلاة هي أحد المصاديق المهمّة للصراط المستقيم ويجب على المؤمنين الالتفات إلى أنّ الشيطان عندما يرى بأنّ هذا المؤمن مشغول بصلاته فإنّه يستجمع جميع قواه


1. سورة التوبة، الآية 6.

2. سورة الأعراف، الآية 16.

وحيله ووساوسه لكي يمنع هذا المصلّي من الاستفادة من صلاته، والآن إذا أردنا في هذا السير والمسير إلى الله‌ أن نستفيد فائدة وافية من صلاتنا فيجب علينا طرد وإبعاد الشيطان من دائرة نفوسنا وقلوبنا لكي نسلك في هذا المعراج المعنوي والطريق إلى الله‌ تعالى بأفضل وجه إن شاء الله.


141ـ الاستعاذة، غلق طريق نفوذ الشيطان


بسم الله الرحمن الرحيم

إذا أراد المصلّي أن يحصل على بعض حقائق سورة الحمد ونال التوفيق لهذا السفر الروحاني والسير إلى الله‌ الذي جعله الله‌ تعالى لعباده في كلّ يوم، يجب عليه في الخطوة الاُولى التصدي لمانع هذا الطريق وهو الشيطان ويزيحه عن طريقه، الشيطان إذا تسلط على قلب الإنسان، فحتّى لو كان هذا الشخص قد صلّى ألف عام وختم القرآن ألف ختمة فلا أثر ولا فائدة من ذلك، فالقرآن وتلاوته والتمسّك به إنّما تكون نافعة للإنسان وتنوّر قلبه وتنير طريق وتأخذ بيده من عالم الملك والماديّة والحيوانيّة وتعرج به إلى مقام القرب إلى الله‌ وتخرجه من ظلمات والجهل والشرك إلى أجواء النور والإيمان فيما لو لم يكن الشيطان مسلطا على الإنسان، وعندها سيؤثر القرآن أثره في شفاء قلبه ونفسه من الشوائب والرذائل والميول الدنيويّة، فقد ورد في بعض الروايات التي تتحدّث عن الاستعاذة نقاط جميلة ورائعة، منها ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال: «إِنّ قَولَهُ أَعُوذُ بِالله‌ أَي أَمتَنِعُ بِالله‌»[1]، وهذا يعني أننا نمنع الشيطان


1. وسائل الشيعة، ج 6، ص 197، باب استحباب الاستعاذة عند التلاوة.

من التصرف في قلوبنا ولا نسمح له في النفوذ إليها، «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[1]، وطبعا فالإستعاذة هنا لا تعني أنّ المصلّي يقول هذه العبارة فقط قبل قراءة القرآن، بل يبتديء أوّلاً بالاستعاذة قبل القراءة ويستمر عليها إلى آخرها.

«وَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ الله‌ أَدَّاهُ إِلى الفَلاحِ الدَّائِمِ»، ما أروع هذا التعبير في هذه الرواية، فكلّ شخص يريد أن يقرأ القرآن وتجري آياته على لسانه يجب أن يتأدّب بالآداب الإلهيّة، والأدب الإلهي يعني أن يبتديء الإنسان بطرد الشيطان من طريقه واخراجه من أجواء مملكته بحيث لا يكون له سلطان على هذا الشخص، وإلاّ فمع وجود سلطة الشيطان على نفسه فإنّه عندما يقول أعوذ بالله‌ من الشيطان، يكون كاذبا، فالإنسان إنّما يكون مستجيرا بالله‌ فيما لو لم يسمح للشيطان أن يتسلط على قلبه، وهذا بدوره يحتاج إلى رعاية الله‌ وطلب المدد والمعونة منه تعالى، وكما أنّ الشيطان قد طرد من الجنّة، فالإنسان أيضا وبمعونة الله‌ تعالى يجب أن يطرد الشيطان من قلبه أيضا: «وَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ الله‌ أَدَّاهُ إِلى الفَلاحِ الدَّائِمِ».

وينقل أميرالمؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أنّه قال: «إِنْ أَرَدتَ أَنْ لا يُصِبَكَ شَرُّهُم وَلا يَبدَأَكَ مَكْرُوهُهُم فَقُلْ إِذا أَصبَحتَ: أَعُوذُ بِللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنّ الله‌ يُعِيذُكَ مِنْ شَرِّهِم»[2]، فلو أراد الإنسان أن يبعد شياطين الجن والإنس عن نفسه وعن طريقه ولا يصيبه شرّهم وضررهم فعليه بالاستعاذة، والنقطة المهمّة هنا أنّ الاستعاذة ليست فقط الاستعاذة باللسان والكلام، بل يجب على الإنسان أن يجمع جميع قواه النفسانيّة، وعلى حدّ تعبير البعض في كتبهم: الأقاليم السبعة الأرضيّة، والأقاليم السبعة في وجوده «العين، الاُذن، اللسان، البطن، الفرج، اليد،


1. سورة النحل، الآية 98.

2. وسائل الشيعة، ج 6، ص 142.

والقدم» ويعيذها جميعا بالله‌ من الشيطان الرجيم ويبعد الشيطان من هذه الحقول والأقاليم ويطهّر نفسه وفكره وجميع قواه من شوائب المعاصي ولوث الذنوب ولا يسمح للشيطان بالعودة يتسلط على قواه النفسيّة والبدنيّة، ومثل هذا الشخص عندما يقول: «أَعُوذُ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فإنّ هذه الاستعاذة ستؤثر أثرها ويجعله الله‌ تعالى في حصنه الحصين ويعيذه من الشيطان الرجيم.


142ـ الاستعاذة طريق النجاة من الوسوسة


بسم الله الرحمن الرحيم

يروي أميرالمؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله‌ صلوات الله‌ وسلامه عليه أنّه قال: «أَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ فَقَالَ: يا رَسُولُ الله‌ إِلَيكَ أَشكُو مَا أَلقَى مِنَ الوَسوَسةِ فِي صَلاتِي حَتّى لا أَعْقَلُ مَا صَلَّيتُ مِنْ زِيادَةٍ أَو نُقيصَان».

قال رسول الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «إِذَا قُمْتَ فِي الصَّلاةِ فَاطعَنْ فِي فَخذِكَ اليُسرى بِإصبِعِكَ اليُمنَى المُسَبِّحة ثُمَّ قُلْ بِسمِ الله‌ وَبِالله‌ تَوَكَّلتُ عَلَى الله‌ أَعُوذُ بِالله‌ السَّمِيعُ العَلِيمُ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرجُزُهُ وَيطرُدُهُ»[1]، مع الأسف فإنّ بعض المؤمنين والمصلّين يبتلون بالوسوسة، وهذه الوسوسة هي أساس عمل الشيطان، «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ»[2]، ومن أجل أن نبعد هذه الوسوسة عنّا في الصّلاة يجب علينا الاستعاذة بالله‌ من الشيطان ومن وساوسه.

سبق أن أشرنا أنّ الاستعاذة لا تعني الاستعاذة اللفظيّة، فثمّة أشخاص


1. دعائم الإسلام، ج 1، ص 190.

2. سورة الناس، الآية 5.

يستعيذون بالله‌ من الشيطان مدّة خمسين سنة بلسانهم، ولكن إذا رأيت باطنهم فسوف لاترى سوى حبّ المال وسلطة الشيطان، فالشيطان قد تسلط على جوارحهم وقواهم وأعضائهم الظاهريّة وقواهم الباطنيّة وحتّى تسلط على قواهم الفكريّة وعقائدهم الدينيّة، ومن المعلوم أنّ حقيقة الاستعاذة مسألة أبعد وأعمق من الاستعاذة اللسانيّة واللفظيّة، فيجب على الإنسان أن يحقّق حقيقة الاستعاذة في أعماق وجوده والمستعيذ يجب أن يجعل جميع هويته الوجوديّة وحقيقته الإنسانيّة في جميع المراتب في حصن الله‌ تعالى ويلجأ إليه بجميع قواه ووجوده وليس فقط يستعيذ بالله‌ بلسانه.

وعندما يقول القرآن الكريم: «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِي»[1]، فهذا يعني أنّ أحد تكاليف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله من قِبل الله‌ تعالى أن يستعيذ بالله‌ من الشيطان الرجيم، ويوحي لنا هذا النص بأنّ الشياطين حاضرة في وجود الإنسان وتعمل على منعه من الحركة والسير والسلوك إلى الله‌ تعالى ولذلك ينبغي الاستعاذة بالله‌ منها.

يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله‌ بجميع وجوده ويرى ما هو مقدار سلطة أهوائه النفسانيّة عليه وعلى إرادته وتصرفاته؟ ولو أنّ الإنسان وجد نفسه في حالة معيّنة أو عمل بين أن يقف بين الدنيا والآخرة واختار الدنيا، فليعلم بأنّه قد سلّط الشيطان على نفسه وإرادته، فلو أنّه مع ذلك قال في اليوم مليون مرّة: «أَعُوذُ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فلا أثر لمثل هذه الاستعاذة.

ولو أنّ الإنسان ابتلى بالأهواء النفسانيّة وتورط في شباك النوازع الدنيويّة وسلّم نفسه إلى هذه الميول والأهواء من حبّ السلطة والشهوة وحبّ المال والثروة وسعى في حياته إلى مماته في طلب المال والمنصب والجاه، فليعلم أنّ


1. سورة المؤمنون، الآية 97 و 98.

الحاكم على نفسه والمسيطر على قواه وإرادته هو الشيطان، وكلّما قال «أَعُوذُ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فلا أثر له، لأنّ مثل هذه الاستعاذة إنّما تكون مؤثرة عندمايطهر الإنسان باطنه وقلبه من وساوس الشيطان ومن شراكه ومكره ويعمل على تنقية روحه وفكره وجميع قواه من لوث الشياطين حتّى تشترك معه جميع هذه القوى في قوله «أَعُوذُ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».


143ـ الاستعاذة: اللجوء إلى الله‌ من الذنوب والانحرفات الفكريّه‌والعقديّة


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد العوامل التي تؤدّي إلى عدم استجابة الدعاء للإنسان، أو عدم تأثير الأذكار والأوراد التي يقولها المؤمن، بسبب أنّ هذه الأذكار والأوراد صدرت من لسانه الذي يتصرّف به الشيطان، ويحكم على ذهن صاحبه وقلبه، وعندما يقول الباري تعالى للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله‌ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[1]، فهذا يعني أنّ الشيطان لو كان حاضرا عند قراءة القرآن أيضا فهذا القرآن لا يؤثر أثره في النفس البشريّة، إذن يجب أن نحقّق الاستعاذة في كلّ مملكة وجودنا، لا فقط عندما نواجه الذنب أو التلوّث بالمعصية الظاهريّة فنستجير بالله‌ من الشيطان، بل إنّ التلوّث الذي يهدد الإنسان أعمق من ذلك، فالكثير من الأشخاص ربّما لا يصدر منهم ذنب ولا معصية من قبيل السرقة الغيبة والخيانة في الأموال ولا تصدر منهم كلمات نابية وبذيئة ولكنّهم مع ذلك وقعو


1. سورة النحل، الآية 98.

أسرى الشيطان وتسلط الشيطان على عقولهم وعقائدهم وأفكارهم وصدهم عن السلوك الصحيح والصراط المستقيم وقادهم نحو هاوية العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة.

ومن هذا المنطلق يجب أن تستوعب الاستعاذة جميع أبعاد الإنسان الوجوديّة وتخلّصه من سلطة الشيطان وتنقذه من فخاخه وشراكه، والإستعاذة لها آداب خاصّة، وأحد هذه الآداب المهمّة هو الإخلاص، ونقرأ في الآية الشريفة: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»[1]، فهنا نرى أنّ الشيطان يقسم بعزّة الله، وهذا القسم مهمٌّ جدّا، ويقول: إنني سوف أغوي جميع عبادك إلاّ فئة واحدة لا استطيع أن أتسلط عليه وهم المخلصون، والمخلَص بصيغة اسم المفعول تختلف عن المخلِص بصيغة اسم الفاعل، والمرتبة الاُولى أعلى كثيرا من الثانية، وعلامة ذلك يظهر في عمل هذا الشخص المخلَص وفي سلوكياته.

إذا جعل الإنسان جميع هويته وأبعاده الوجوديّة وقواه النفسانيّة بيد الله‌ تبارك وتعالى، ولو صدرت حركة من يده وقدمه، أو نظر بعينه، أو سمع كلاما باُذنه فإنّه يجعل من كلّ ذلك لله‌ تعالى ولا يسمح لهذه الأعضاء والجوارح أن تخون الأمانة الإلهيّة الكبيرة عنده، ولا يجعلها تتصرّف في غير طاعة الله، ولو أنّ أفكاره وعقائده أو عمل يعمل يعمله كانت لنيّته لله‌ تعالى، فيفكّر لله‌ ويجعل قلبه حرم الله، وبشكل عام يكون الله‌ تعالى حاكما على جميع وجوده وكيانه وتكون جميع أفكاره وأعماله لله‌ تعالى، فإنّه عند ذلك يدخل في زمرة المخلَصين، ونتيجة هذا الإخلاص أن تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه وتجري على لسانه: «مَنْ أَخلصَ للهِ أَربَعِينَ صَباحا جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ»[2]، يعني عندما يتحدّث


1. سورة ص، الآية 82 و 83.

2. مصباح الشريعة، ص 355.

فكأنّما ينبع الحكمة من قلبه وتظهر في كلامه وعلى لسانه ويتحدّث بمسائل عميقة جدّا ومعنوية ونورانيّة من شأنها أن تنوّر الآخرين وتصلح المجتمع، ومع وجود هذه الحالة من الإخلاص فإنّ الشيطان لا يستطيع النفوذ إلى قلب هذا الشخص، والاستعاذة هنا من أجل إيصال الإنسان إلى هذه المرحلة.

إذن فأحد آداب الاستعاذة الخلوص والإخلاص، وكلّما ازداد وتعمّق إخلاص الفرد فإنّ استعاذته بالله‌ تبارك وتعالى ستكون أكثر وأشدّ، نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا مثل هذا الإخلاص إنّ شاء الله.


144ـ الاستعاذة، الورود في حصن الله‌ والأمن من عذابه


بسم الله الرحمن الرحيم

فيما يتعلّق بالاستعاذة يجب الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ الشخص الذي يستجير بالحقّ تبارك وتعالى فإنّ الله‌ تعالى يقول: «كَلِمَةُ لا إِلَهَ إِلاّ الله‌ حِصنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصنِي أَمِنَ مِنْ عَذاِبي»، والنقطة الدقيقة والمهمّة جدّا هنا والتي أشار إليها الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه[1]، هي: إنّ الإنسان إذا دخل في حصن الله‌ تعالى، فليس فقط يكون في مأمن من عذاب جهنّم الظاهري، بل يكون محفوظا ومصونا من جميع مصاديق العذاب الإلهي، وإلى هذا المعنى أشار الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام في دعاء: «فَهَبنِي صَبَرْتُ عَلَى عَدَابِكَ فَكيفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِك»، فالصبر على عذاب الله‌ ربّما يكون قابلاً للتحمّل لدى أولياء الله، ولكن الصبر على فراقه وأن يكون حجاب بين الإنسان وربّه، وهذا الحجاب يحجب الإنسان عن الحقّ ورؤية جمال الحقّ ويحجب قلب الإنسان عن رؤية نور الحقّ ويعيقه عن الوصال بالمحبوب، فهو أمر غير قابل للتحمّل عند أولياء الله، ومن


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 223.

هذه الجهة يقول أميرالمؤمنين عليه‌السلام: إنّ هذا الأمر أعلى وأشدّ أنواع العذاب، فالإنسان المؤمن المحبّ لله‌ لا يتحمّل مثل هذا العذاب، ولو أنّه استطاع أن يتحمّل العذاب الظاهري فإنّه لا يستطيع الصبر على هذا العذاب المعنوي، والآن إذا دخلنا بواسطة الاستعاذة الحقيقيّة في حصن الله‌ تعالى: «فَمَنْ دَخَلَ حِصنِي أَمِنَ مِنْ عَذاِبي»، وسيكون محفوظا من أي حجاب وابتعاد عن محبوبه الواقعي وهو الله‌ تعالى.

ويتحدّث الإمام الخميني رحمه‌الله عن هذا المعنى بعبارة لطيفة ويقول: الشخص الذي يصل إلى هذا المقام، أي يكون في مأمن من هذا العذاب، فهو عبد الله‌ الحقيقي، وهذا المقام يعدّ من أعزّ مقامات أولياء الله‌ وأخصّ مدارج أصفياء الله، ومثل هذا المقام متعلّق بالأصالة بوجود حضرت النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله خاتم الأنبياء، وفي المرتبة التالية للأئمّة الطاهرين صلوات عليهم أجمعين، وليس من المعلوم أنّ أحد غير هؤلاء يستطيع الوصول إلى هذه المرتبة ويكون في مأمن من عذاب هذه المرتبة، وعلى هذا الأساس فالاستعاذة تمهّد الطريق للإنسان للوصول إلى مثل هذا المقام والمرتبة بحيث يكون مصونا ومحفوظا من جميع مراتب العذاب، ومن هنا يجب علينا السعي أكثر بحيث إذا لم نتمكّن من الوصول إلى تلك المقامات والدرجات العالية، فعلى الأقل أن نوفّق للوصول إلى المراتب الأخرى إن شاء الله‌ تعالى.


145ـ القيام، إعلان الاستعداد للدفاع عن الحقّ والتصدي للشياطين


بسم الله الرحمن الرحيم

كمقدّمة يجب أن يكون معلوما أنّ الصّلاة، وهي معراج المؤمن وأهم وسيلة للقرب من الله‌ تبارك وتعالى، لها ثلاث حالات مهمّة: القيام، الركوع، السجود، وكلّ واحدة من هذه الحالات الثلاث في مسار الحقّ نحو الله‌ تعالى، تعتبر منزلة من منازل الفيض والسلوك ومقدّمة للمنزل الآخر، فإذا لم تراع آداب كلّ منزل منها لا تصل النوبة للورود إلى المنزل الآخر، فلو أردنا معرفة أسرار وحقائق الركوع وتجسيدها في وجودنا فلابدّ أن نحقّق في أنفسنا حقائق القيام قبل ذلك.

يقول علماء العرفان: إنّ هذه الحالات الثلاث في الصّلاة يعني: القيام، والركوع، والسجود، إشارة إلى المراتب الثلاثة للتوحيد، ويجب على المصلّي عند الدخول إلى أي واحدة من هذه المنازل الثلاثة للتوحيد أن يحقّق في ذاته وباطنه مرتبة من مراتب التوحيد.

والآن ما هو سرّ القيام بحيث يجب أداء قسم من الصّلاة في حال القيام؟

ويجب أيضا قراءة القرآن في حال القيام فقط دون الركوع والسجود فلا يلزم قراءة القرآن فيهما، ذهب علماؤنا في تأويل ذلك إلى أنّ القيام هو إعلان الاستعداد للنهوض والقيام في سبيل الله، أي إعلان الاستعداد لإقامة حكم الله‌ وإحياء كلمة الله‌ على الصعيد الفردي والاجتماعي، وأساسا فالأشخاص الذين يتحرّكون في حياتهم بهدف إحياء دين الله‌ فإنّهم أشخاص يعيشون حال القيام دائما، والشخص الذي يجاهد في سبيل الله‌ فهو في الحقيقة قائم لله‌، فهذا الشخص هو القائم الحقيقي وإن كان جالسا بحسب الظاهر، والمجاهد الذي لا يستطيع القيام، ولكنّه يجاهد في سبيل الله‌ فهو في الحقيقة قائم واقعا، فالقيام في الصّلاة يحكي عن هذه الحقيقة ويكشف عن أننا في صلاتنا نقف بكل وجودنا في مقابل الباري تعالى ونتحرك في سبيله ونتجه بجميع وجودنا نحو الفناء في الله‌ والتضحية في سبيل الله، ومن هنا نرى من المناسب الإشارة إلى هذه الآية الشريفة: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله‌ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا...»[1]، فالأشخاص الذين سلكوا في خط الإيمان والتوحيد والاستقامة فسوف تتنزل عليهم ملائكة الله‌ وتبشّرهم بالجنّة والنعيم الأبدي وتقول لهم: أن لا تخافوا ولا تحزنوا، فالأشخاص الذين ثبتوا واستقاموا في قيامهم هذا فإنّ بإمكانهم فهم هذه البشارة الإلهيّة، بل على حدّ تعبير بعض الأكابر، قد يشاهد هؤلاء المجاهدون والقائمون في سبيل الله‌ الملائكة نفسها، فالشخص الذي يعيش الاستعداد الدائم للقيام والحركة في خط التوحيد والإيمان فسوف يحظى بمثل هذا الامتياز.

ومعنى القيام، إنّ الإنسان يحقّق في نفسه الاستعداد الدائم للحركة من أجل اعتلاء كلمة الحقّ، ولا ينبغي أن نتصوّر أنّ القيام في الصّلاة هي الوقوف لحظات


1. سورة فصلت، الآية 30.

معدودة فقط وقراءة سورة فاتحة الكتاب وسورة التوحيد، كلاّ، فالقيام يعني الإعلان عن وقوفنا ضد قوى الباطل والشرّ والدفاع عن دين الله‌ دائما، والإعلان عن التصدي لشيطان النفس ومحاربة شيطان الجنّ والإنس وجميع أشكال الفساد والتلوّث والانحراف، فنحن قائمون من أجل محاربة أعداء الداخل والخارج.

وعلى هذا الأساس، فالقيام فيالصّلاه‌له مثل هذه الحالة والمكانة ويعدّ مقدّمة ليكون الإنسان قائما بالقسط والعدل في مجتمعه كما تقول الآية الشريفة: «شَهِدَ الله‌ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ...»[1]، وهذا القيام بالقسط يرتبط بالله‌ تبارك وتعالى وكذلك يرتبط بالملائكة وأولي العلم أيضا، والمصلّي بقيامه أمام الله‌ تعالى يريد أن يحقّق في نفسه هذه المرتبة العالية جدّا والمختصّة باُولوالعلم والملائكة الإلهيين.

يقول أميرالمؤمنين صلوات الله‌ وسلامه عليه في وصف أولياء الله: «وَبِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا»[2]، ماذا يعني قيام القرآن؟ وعندما نقول إنّ القرآن قائم بأولياء الله‌ فهذا يعني أنّ الظهور العملي للقرآن في قلوب الناس وأذهانهم وأعضاء الإنسان وجوارحه يتحقّق بهذه الحالة، أمّا قيامهم بالقرآن فيعني العلم والعمل بالقرآن وأنّهم يعلّمون الناس تعاليم القرآن وما يبعدهم عن النار ويقرّبهم للجنّة ويعلّمونهم كيفيّة سلوك الطريق إلى الحقّ واجتناب الباطل.

وعلى هذا الأساس يجب الالتفات إلى جميع هذه الجهات، فالشخص الذي يقف للصّلاة يجب عليه أن يعلم بأنّه يريد القيام لله‌ دائما، وأن يكون قائما بالقسط وأن يصل إلى هذه المرتبة العالية بحيث يكون القرآن قائما به وهو قائم بالقرآن،


1. سورة آل عمران، الآية 18.

2. «بِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ وَبِهِ عَلِمُوا، وَبِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا»، نهج البلاغة، صبحي الصالح، الكلمة 552.

وعندما يلتفت المصلّي إلى هذه الحقيقة كأن الوقوف بالصّلاة يتضمّن هذه المعاني العميقة، وعلى حدّ تعبير الأكابر، فإنّه لا يفكّر بعدها بأمور ظاهريّة وتشريفيّة وأنّ الله‌ أمره فقط بالقيام في الصّلاة وقراءة الفاتحة وسورة أخرى وأنّ هذا القيام مجرّد أمر تعبدي ولا توجد حقيقة رواء هذا العمل الظاهري.

فمن هذه الجهة وبسبب ما لموضوع القيام من أهميّة فإنّه ورد أنّ الأشخاص السالمين الذين يستطيعون القيام ولكنّهم أدوا صلاتهم من جلوس فإنّ صلاتهم باطلة بحسب ما ورد في الروايات الشريفة «وَمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الصَّلاةِ فَلاَ صَلاةَ لَهُ»[1].


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 320.


الفصل السابع: آداب الركوع وأسراره



146ـ آداب الركوع وأسراره


بسم الله الرحمن الرحيم

ثمّة مسأئل عدّة في ركن الركوع:

1. التكبيرة قبل الركوع.

2. حالة الركوع.

3. الذكر والتسبيح في الركوع.

4. لماذا لا يستطيع الإنسان في حال الركوع أن يذهب إلى السجود مباشرة، بل يجب عليه أن يقف متنصبا بعد الركوع ثمّ يذهب إلى السجود، وإلاّ فصلاته باطلة.

يجب البحث في هذه المسائل الأربع في بحث الركوع إلى حدّ تتّضح لنا هذه المسائل بالمقدار الممكن.

بالنسبة للتكبير قبل الركوع، فيطرح هذا البحث: هل أنّ هذا التكبير يتعلّق بحال القيام أو يتعلّق بحال الركوع؟ يعني أنّ المصلّي عندما ينتهي من قراءة الحمد والسورة يكبّر، وهذا التكبير يعود إلى سورة الحمد وما فيها من صفات الله‌ وعظمته، فيقول المصلّي الله‌ أكبر من هذه الصفات ونحن لا نستطيع وصف الباري تعالى كما هو حقّه وعاجزون عن فهمه عظمه الباري تعالى.

الاحتمال الثاني: أن يكون هذا التكبير غير متعلّق بالقراءة، بل هو من متعلقّات الورود إلى الركوع والاستعداد له، ويرى الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «آداب الصّلاة»[1]، اختيار هذه النظرية، ويقول: الظاهر أنّ هذا التكبير من متعلّقات الركوع وإعلان المصلّي استعداده للورود إلى منزل الركوع، فمنزل الركوع أهم بكثير من منزل القيام، فبذلك يجب قبل الورود إلى هذا المنزل، التكبير، فالتكبير هنا هو أدب الورود إلى هذا المنزل وأنّ الإنسان يقرّ من جهة بعظمة الباري تعالى وكبريائه ويلتفت إلى مقام الربوبيّة، والمالكيّة، والخالقيّة لله‌ تعالى، ومن جهة أخرى يرى ضعفه وذلّته ومهانته ومع إلتفاته إلى هذه الحالة يقول: «الله‌ أكبر» أي أنّ الله‌ تعالى منزّه عن كلّ وصف، ويعترف بأنّ الله‌ تعالى غير قابل للتوصيف، ثمّ يدخل في حال الركوع.

ويؤيد قول الإمام الخميني رحمه‌الله ما ورد في الرواية التي ذكرها الشيخ الكليني في كتابه «الكافي» في باب الركوع: «إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَرْكَعَ فَقُلْ وَأَنتَ مُنْتَصِبٌ الله‌ أَكبرُ»[2]، ويتبيّن من ذلك أنّ هذا الذكر وهذا التكبير يتعلّق بالورود إلى الركوع.


1. آداب الصّلاة، ص 348.

2. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 319.


147ـ آثار الركوع، التزين بنور البهاء، الاستظلال تحت مظلّة كبرياء الله‌ ارتداء لباس الخاصّيين


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة للركوع فقد وردت رواية رائعة جدّا في كتاب «مصباح الشريعة»[1] عن الإمام الصادق عليه‌السلام، وتشير هذه الرواية إلى آثار وآداب وأسرار الركوع، يقول الإمام عليه‌السلام: «لا يَركَعُ عَبْدٌ للهِ رُكُوعا عَلَى الحَقِيقَةِ إِلاّ زَيَّنَهُ الله‌ تَعالى بِنُورِ بَهائِهِ وَأظلَّهُ فِي ظِلالِ كِبريَائِهِ وَكَسَاهُ كِسوَةَ أَصفِيائِهِ»، فهنا يقرر الإمام عليه‌السلام أنّ الله‌ تعالى يمنح هذا الراكع ثلاثة أنوار ويزيّنه بثلاث خصوصيّات، أحدها أنّه يزيّنه بنور بهائه، وهذه هي أحد آمال المؤمنين ودعائهم الباري تبارك وتعالى في الأسحار وبخاصّة أسحار شهر رمضان: «اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ مِنْ بَهائِكَ بِأَبهَاه وَكُلُّ بَهائِكَ بَهيّ»، فهذا البهاء هو النور الساطع من الذات الإلهيّة المقدّسة، فلو أنّ المصلّي أتى بالركوع الحقيقي فإنّ الله‌ تبارك وتعالى يزيّنه بنور جماله وبهائه، وثمّة نقاط وحقائق كثيرة جدّا في معنى نور البهاء، وعلى سبيل الإجمال نقول: إنّ هذا النور


1. مصباح الشريعة، ص 61.

الصادر من الذات الإلهيّة المقدّسة ينور وجود الإنسان ويمنحه القيمة والاعتبار، ومن هذه الجهة فإنّ أحد المقامات العالية جدّا التي يطلبها العرفاء والأكابر من الله‌ تعالى هو مقام نور البهاء.

والشخص الذي يصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى مقام الأسماء على حدّ تعبيرهم، ومقام الأسماء هو ما ورد في الآية الشريفة: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا...»[1]، وهذا يعني أنّ الشخص المزيّن بالنور الإلهي يحصل على مثل هذا المقام، والنور الإلهي ليس كمثل الأنوار الظاهريّة التي يصل شعاعها إلى ظاهر الإنسان فقط، كلاّ، النور الإلهي من شأنه اخراج الإنسان من ظلمات الجهل والذلّ والحقارة ويوفّقه للوصول إلى فهم ودرك مقام الأسماء الإلهيّة، يقول علماء الكلام: إنّ جميع الصفات الإلهيّة الثبوتيّة لها عنوان الجمال، ومن بين هذه الصفات الثبوتيّة والتي تشترك جميعها بعنوان الجمال، فإنّ بعضها يختصّ بعنوان البهاء، فمرتبة البهاء هي مرتبة أعظم وأعمق من مرتبة الجمال الإلهي.

وعلى هذا الأساس فأوّل ثمرة للركوع الحقيقي هي أنّ الله‌ تعالى يزيّن هذا الراكع بنور البهاء.

الثمرة الثانية، يقول: «وَأظلَّهُ فِي ظِلالِ كِبريَائِهِ»، أي جعله تحت مظلّة الكبرياء الإلهي، يقول أهل المعرفة، إنّ هذا الظلّ للكبرياء الإلهي هو ظلّ الأسماء الإلهيّة القهريّة، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة واستقرّ في هذا المقام فهذا يعني أنّه نسي أنانيّته ونفسه وهو مقام الفناء، أي فناء عقله عن ذاته، وعندما يستقرّ الإنسان في ظلّ الكبرياء الإلهي فإنّه سوف لا يرى أي كبير لموجود غير الله‌ تعالى حتّى لنفسه، ويرى كلّ عظمة وكبرياء لله‌ تعالى، وكلّ مدح وثناء وعظمة، وكلّ جلال وجبروت، وكلّ شيء إنّما هو من متعلّقات الباري تبارك وتعالى.


1. سورة البقرة، الآية 13.


148ـ الركوع أدب، والسجود قرب إلى الله‌ تعالى


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «فِي الرُّكُوعِ أَدبٌ وَفِي السُّجودِ قُربٌ»

مع ما تقدّم من آثار وثمارات كبيرة ومهمّة للركوع، فهل من الانصاف أن يستعجل بعض الأشخاص في أدائه، بحيث إنّهم قبل الاستقرار في حال الركوع ينهضون منه؟ أي الركوع يأتي به هذا المصلّي بهذا العجلة؟! بديهي أنّ هؤلاء الأشخاص لا يشعرون بلذّة من ركوعهم، ويتبيّن أنّ هؤلاء الأشخاص يشعرون بالتكلّف والثقل من صلاتهم وركوعهم في حين أنّهم لو علموا ما في الركوع من أسرار وبركات فسوف لا يملّون من الركوع.

ويحكى عن الربيع بن خثيم وهو أحد الزهاد الثمانية الكبار، أنّه كان يبقى مستيقظا من أوّل الليل إلى طلوع الفجر ويقضي هذه المدّة كلّها في حال الركوع، لأنّه يجد لذّة خاصّة في ركوعه، فلماذا نقصّر في ركوعنا، لماذا نشعر بالتعب والملل من ركوع قصير بمقدار دقيقة واحدة لا بل عشر أو عشرين ثانية، وماذا شاهد أولئك الأولياء بحيث إنّ ركوعهم يستغرق ليلة كاملة إلى طلوع الفجر ولا

يشعرون بالتعب؟ وعندما يصبح الصباح يرفعون رؤوسهم ويقولون بأسف شديد: «آه سَبَقَ المُخلِصُونَ وَقُطِعَ بِنا»[1]، أي أننا متخلّفون عن الركب ولم نحصل على شيء، إذن يجب علينا أن نهتمّ بركوعنا، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: الإنسان الذي يأتي بالركوع بشكل حقيقي فإنّ الله‌ تعالى في المرتبة الاُولى يزيّنه بنور بهائه وجماله، فثمّة نورانيّة خاصّة تستغرق جميع وجوده ويهيمن عليه جمال عجيب، ليس الجمال الظاهري بل جمال الوجود الزاخر بالعلم والحياة والفهم والإدراك وكلّ شيء، وفي المرتبة الثانية يجعله الله‌ تعالى في ظلّه عزّته وكبريائه.

الأثر الثالث: «وَكَسَاهُ كِسوَةَ أَصفِيائِهِ»، يعني أنّ الله‌ تعالى يجعله واحدا من أصفيائه وأوليائه، وأصفياء الله‌ هم الأشخاص الذين دخلوا دائرة عناية الباري تعالى ووضعوا يديهم بيد الله، فكانت يدهم يد الله‌ وعينهم عين الله‌ واُذنهم اُذن الله‌ وجميع وجودهم هو وجود الإلهي، وبذلك صار وجودهم رشحة من رشحات الباري تبارك وتعالى.

ويتابع الإمام الصادق عليه‌السلام قوله: «وَالرُّكُوعُ أَوَّلٌ والسُّجُودٌ ثَانٍ فَمَنْ أَتَى بِمَعْنَى الأَوَّلِ صَلَحَ للثَّانِي وَفِي الرُّكُوعِ أَدَبٌ وَفِي السُّجُودِ قُربِ، وَمَنْ لا يُحْسِنُ الأَدَبَ لا يَصْلُحُ لِلقُرْبِ»، فالشخص الذي لا يراعي آداب الركوع فسوف يفقد الصلاحية للقرب من الله‌ تعالى، فإذا أراد الإنسان التقرب إلى عالم جليل القدر فيجب عليه مراعاة الأدب في الوهلة الاُولى، والشخص الذي لا يراعي الأدب في محضر هذا العالم بشكل جميل لا يملك اللياقة للحضور بين يديه، وهكذا الحال في الصّلاة، فيجب في المرتبة الاُولى رعاية أدب العبادة والعبوديّة والخضوع والخشوع، فالركوع في مقابل الحقّ تبارك وتعالى يعني الخشوع والخضوع، وبعد مرحلة القيام يصل الإنسان إلى هذا المنزل، وهو مرتبة الركوع ويجب عليه أن يخضع


1. مصباح الشريعة، ص 62.

للباري تعالى ليحظى باللياقة والقابلية على التقرب من الذات المقدّسة، نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يلهمنا أسرار الصّلاة ويعمق حقيقة الصّلاة في قلوبنا وأعماق وجودنا إن شاء الله.


149ـ الركوع، إظهار العجز والخضوع في مقابل الله


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في سياق هذه الرواية المذكورة: «فَارْكَعْ رُكُوعَ خاضِعٍ لله‌ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلبِهِ»، ويقول الشهيد الثاني في كتابه «التبيهات العليّة»[1]: عندما تصل إلى الركوع فاستشعر قلبك من جهة عظمة الله‌ تعالى، ومن جهة أخرى ضعفك وحقارة وذلّتك وتفاهة كلّ ما سوى الله‌ وغير الله، فلو أنّ قلب الإنسان لم يخضع في الركوع فإنّ هذا الركوع ليس بركوع حقيقي وصحيح.

ويتابع الإمام الصادق عليه‌السلام قوله: «مُتَذَلِّلٍ وَجِلٍ تَحْتَ سُلطانِهِ خَافِضِ لله‌ بِجَوارِجِهِ خَفْضَ خَائِفٍ حَزِينٍ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنْ فَوائِدِ الرَّاكِعِينَ»[2]، فهذا الشخص الراكع يستشعر الخوف والقلق في ركوعه لئلا تفوته فوائد وبركات الركوع ويعيش حالة القلق لئلا يخسر أفضل لحظة في حياته لكسب المقامات المعنوية والتزيّن بنور بهاء الله، ويخشى أنّه يركع ببدنه ويرفع رأسه من الركوع ولكن لا يحظى بهذه المواهب الإلهيّة.


1. التنبيهات العليّة، ص 123.

2. مصباح الشريعة، ص 61.

والركوع إنّما يكون مؤثرا فيما لو كان قلب المصلّي مؤمنا ومصدقا بعظمة الباري تعالى وعزّته وعلوّه، ويعلم أنّ الله‌ تعالى أعظم من كلّ عظيم، وأساسا فإنّ العظمة له خاصّة، ففي هذه الصورة سوف ينفتح لسانه تلقائيا بذكر الحقّ تعالى ويقول: «سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ بِحَمدِهِ»، وهذا التسبيح وهذا البيان لعظمة الله‌ تعالى إنّما يتحقّق واقعا فيما لو استشعر قلب الإنسان هذه العظمة الإلهيّة وأدرك أنّ هذه العظمة تستوعب جميع وجوده، فلو أنّ عظمة الله‌ تعالى استوعبت جميع وجود الإنسان فسوف يستشعر الخوف والهيبة ويخشى أن لا يحظى بشيء من هذه المائدة الإلهيّة ومن بساط السلطة والكبرياء الإلهي أو يطرد من فناء هذا البلاط والديوان.

وطبعا فالمصلّي يعيش إلى جانب هذا الخوف، الرجاء والأمل والاطمئنان بفضل الله‌ ورحمته وعنايته، ويقول: إنني أركع في صلاتي بتوفيق الله‌ تعالى ولا يمكن أن يدعوني الله‌ الرحيم إليه ثمّ لا يستجيب دعائي ولا يسمع مناجاتي، ولا يمكن أن يحرمني الله‌ تعالى من وعده وثوابه، وكذا يستشعر المصلّي بالأمل والرجاء بأنّ الله‌ تعالى سيزيّنه بنور بهائه، وبعد أن يحصل المصلّي على مثل هذه الحالة في الركوع ويذكر تسبيحة الركوع، يرفع رأسه من الركوع بهذا الأمل ويقول باطمئنان تام: «سَمِعَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ»، والشخص الذي يستطيع قول هذه الجملة باطمئنان كامل هو من كان ركوعه ركوعا صحيحا واقعا، وبذلك يجيبه الله‌ تعالى فيقول: «سَمِعَ الله، أَي أَجَابَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ وَشَكَرَهُ».


150ـ كـيفيـّة الـركـوع: حالة الذلة والخضوع، عدم التسرع والعجلة الوقار والسكينة في القيام


بسم الله الرحمن الرحيم

تقدّم الكلام لحدّ الآن أنّ الإنسان المصلّي إذا التفت في ركوعه إلى المقامات والبركات التي سيحصل عليها من هذا الركوع، فإنّه لا يسارع أبدا في إنهاء ركوعه، والاستعجال في رفع رأسه من الركوع.

يقول المرحوم السيّد بن طاووس في كتابه «فلاح السائل» في ذيل باب أدب الركوع والسجود: «يَنبَغِي أَن يَركَعَ بِذُلٍ وَاستِكَانَةٍ وَخُضُوعٍ»، ولكن نوع البشر لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة، وهي لماذا يركعون؟ ولماذا يظهرون الخضوع والخشوع الكبير في حال الركوع، الإنسان الذي يرى ويشاهد عظمة الباري تعالى وقدرته المطلقة من جهة، ومن جهة أخرى يشاهد ضعفه وذلّته، فإنّه بلا شك سيطأطى‌ء برأسه تعظيما للذات المقدّسة ويجد نفسه يقول تلقائيا في حال ركوعه:

«اللّهُمَّ لَكَ خَشَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيكَ تَوَكَّلْتُ وَأَنْتَ رَبِّي، خَشَعَ

لَكَ سَمْعِي وَبَصرِي وَشَعرِي وَ عَصَبِي وَمُخِّي وَعَظِامِي»، فجميع وجودي وقواي خشعت لك ولجلالك وجبروتك، وهذه هي حالة الاستكانة والذلة، والشخص الذي يعلم أنّه يقف في مقابل الخالق العظيم والمالك الحقيقي لكلّ شيء في عالم الوجود فإنّه سيجد هذه الحالة من الخضوع والخشوع أمامه.

ولو لم يستشعر بهذه الحالة في الركوع، فعندما يقول: «سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ»، فإنّه لا يستطيع أن يعتقد بأنّه هو المتكلّم بهذا الكلام، لأنّه لو لم يكن قلبه خاضعا وخاشعا، فلو قال ألف مرّة هذا الذكر وهذا التسبيح في ركوعه فلا ينفعه بشيء.

وأحد الآداب الأخرى في الركوع ما ذكره المرحوم السيّد بن طاووس في هذا المجال: «أَنْ لا يَستَعْجِلَ بِرَفْعِ رَأسِهِ قَبْلَ استِيفاءِ أقْسامِ ذُلِّ العُبُودِيَّةِ لِمَولاهُ»، وأين ركوعنا وحالتنا في الركوع من هذا الكلام؟ نحن لا نستشعر في ركوعنا أيّة حالة من الذلّة، الحقارة، الضعف، العجز، الجهل، والمسكنة والعدميّة، ولذلك نسارع في رفع رأسنا من الركوع.

ومن آداب الركوع أن لا يستعجل الإنسان في ركوعه ولذلك يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «كَانَ عَليّا عليه‌السلام يَرْكَعُ فَيسِيلُ عَرَقُهُ حَتَّى يَطأَ فِي عَرَقِهِ مِنْ طُولِ قِيامِهِ»، وهذا الكلام ليس كلاما اسطوريا، بل هو حقيقة نجدها في عبادة الأولياء والأئمّة والأنبياء، وللأسف نحن محرومون منها.

ومن الآداب الأخرى للركوع: «إِذا رِفَعَ رَأسَهُ فَلْيَكُنْ رَفْعَ رَأسِهِ لِوقَارٍ وَسَكِينةٍ فَإِنَّ مَولاهُ يَراهُ»، لماذا لا ينبغي العجلة في رفع الرأس من الركوع؟ لأنّ الله‌ تعالى يراه، ثمّ يقف ليقول: «سَمِعَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ»، وعلى هذا فإنّ أحد النقاط المهمّة التي يجب على المصلّين الأعزاء الالتفات إليها والتأمل فيها، هي الحالة التي هم عليها أثناء الركوع، وما هي حالتهم عندما يرفعون رؤوسهم من الركوع؟ فلو كانو

يعيشون هذه الحالة المذكورة في الروايات ووردت على لسان الأكابر من علمائنا فحين ذاك يمكنهم تذوق لذّة الصّلاة وسيذيقهم الباري تعالى حلاوة العبادة والصّلاة في أعماق وجودهم، فهذا الانحناء للركوع ثمّ القيام ورفع الرأس من شأنه أن يمنح الروح الذروة في التحليق والعروج في المراتب المعنويّة والسمو في عالم الملكوت بحيث لا يرغب المصلّي أن ينقطع عن هذا الحال لحظة واحدة.

جعلنا الله‌ تعالى من أهل الركوع الحقيقي.


151ـ آثار طول الركوع وذكره


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الحالات الموجودة في الصّلاة من (القيام، الركوع، السجود، الجلوس)، هي تكاليف موجودة في أصل الصّلاة وقد أمر الله‌ تبارك وتعالى بها، فقد ورد في رواية معراج النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله: «أَمَرَنِي جِبرئِيلُ أَنْ قَرأَ القُرآنَ قَائِما، وَأَنْ أَحْمَدَهُ رَاكِعا وَأَنْ اُسَبِّحَهُ سَاجِدَا»[1].

ونرى من المناسب الإشارة إلى هذه المسألة، وهي أنّ علماء العرفان قالوا إنّ الله‌ تبارك وتعالى خلق الإنسان كونا ووجودا جامعا، يعني أنّ جميع الحالات الموجودة في سائر الكائنات التي تعبد الله‌ تبارك وتعالى أوجدها في الإنسان.

فثمّة طائفة من الملائكة يعبدون الله‌ تبارك وتعالى في حال القيام دائما، وطائفة أخرى يعبدون الله‌ في حال الركوع، وطائفة ثالثة في حال السجود، ولكن الله‌ تعالى وعلى أساس عنايته بالإنسان، قد جمع له هذه الحالات الثلاث في صلاته، القيام، الركوع والسجود، ليستطيع الإنسان في عبادته أن يأتي بهذه


1. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 90، ص 313، باب آداب الدعاء وذكر؛ مستدرك الوسائل، ج 4، ص 427.

الحالات الثلاث ويعبد الله‌ قائما وركعا وساجدا، وأحد النقاط التي يجب الالتفات إليها طول الركوع والسجود.

وينقل الشيخ الكليني رحمه‌الله في كتابه «الكافي» رواية يقول فيها الإمام عليه‌السلام: «عَلَيْكُم بِطُولِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنّ أَحَدَكُم إِذا أَطَالَ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ هَتَفَ إِبليسُ مِنْ خَلفِهِ وَقَالَ يَا وَيلَهُ أَطاعَ وَعَصيَتُ وَسَجَدَ وَأَبَيتُ»[1].

وجاء في رواية أخرى عن إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه‌السلام: «سَمِعْتُ أَبا عَبْدِللهِ عليه‌السلام يَعِظُ أَهلَهُ وَنِسَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُنَّ: لا تَقُلنَ فِي رُكُوعِكُنَّ وَسُجُودِكُنَّ أَقلَّ مِنْ ثَلاثَ تَسبِيحات، فَإِنَّكُنَّ إِنْ فَعَلتُنِّ لَمْ يَكُنْ أَحسَنَ عَمَلاً مِنْكُنَّ»[2]، وهكذا ينبغي علينا أن نتقيد بمقدار معيّن في صلاتنا، فلماذا نختصر الركوع والسجود في الصّلاة؟ ونرى بعضهم يكتفي بمقدار أقل من الذكر ويرفع رأسه في حين أنّ طول الركوع من شأنه أن يوصل الإنسان إلى مقامات معنويّة عالية ويحلق به في مراتب القرب الإلهي.

وأحد الأذكار المستحبة في الركوع والسجود، يقول الإمام الباقر عليه‌السلام: «مَنْ قَالَ فَي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهَ وَقِيامِهِ صلّى الله‌ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدًٍ كَتَبَ الله‌ لَهُ ذَلِكَ بِمِثلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالقِيَامِ»[3]، أي أنّ الثواب والآثار المترتبة على الركوع والسجود والقيام ستكتب له عندما يقول اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد.

يجب علينا الاهتمام علينا بالركوع، وعندما يوصي القرآن الكريم بالصّلاة، فتارة يذكر الصّلاة بهذه الكلمة «أَقِيمُوا الصَّلاةَ»، وتارة أخرى يذكر الصّلاة بكلمة


1. الكافي، مطبعة دار الكتب الإسلاميّة، ج 2، ص 77 باب الورع.

2. بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج 82، ص 120.

3. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 324.

الركوع والسجود: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا...»[1]، أو «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ»[2]، وهذا يبيّن لنا أهميّة الركوع والسجود في الصّلاة والعبادة.

نرجو من الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا للاستفادة من أسرار الركوع وحقيقته.


1. سورة الحج، الآية 77.

2. سورة البقرة، الآية 43.


152ـ معنى الركوع في كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

بالنسبة للركوع، فقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّ رجلاً سأله: «مَا مَعنَى الرُّكُوعِ»؟، ويتبيّن من جواب الإمام عليه‌السلام أنّ مقصود هذا الشخص ليس المعنى اللغوي للركوع بل هو في صدد فهم حقيقة وأسرار الركوع، فأجابه الإمام عليه‌السلام فقال: «مَعنَاهُ آمَنْتُ بِكَ وَلَوْ ضَرَبتَ عُنُقِي»، يعني أنّ الركوع يبرز إيمان هذا الشخص بالله‌ تبارك وتعالى، وبهذا الشكل والخصوصيّة يريد الإنسان الإعلان عن هذه الحقيقة وهي: إلهي! إذا أراد أعداؤك قتلي وضرب عنقي لأتخلّى عنك وأكفر بك وأترك الإيمان بك، فإنني سوف لا أفعل ذلك حتّى لو ضربوا عنقي.

ويتابع الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام ويقول: «وَمَعنَى قَولِهِ سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ بِحَمْدِهِ، فَسُبحَان الله‌ أَنَفَةٌ لله‌ عَزَّ وَجَلَّ وَرَبِّي وَخَالِقِي»، أي أنّ معنى الذكر في الركوع هو أنّ الله‌ تعالى منزّه من كلّ عيب وعار من كّل نقصان، وأساسا لا يمكن وجود أي عيب ونقص في حريم ربوبيّته واُلوهيته.

«وَالعظِيمُ هُوَ العَظِيمُ فِي نَفسِهِ غَيرُ مَوصُوفٍ بِالصِّغَرِ وَعَظِيمٌ فِي مُلكِهِ

وَسُلطَانِهِ»، فعندما نذكر الله‌ بالعظمة فهذا يعني أنّ هذا الموجود في ذاته عظيم، وكذلك في سلطانه وحكمه على عالم الوجود، فهذا الموجود العظيم لا مجال ليوصف بالصغر ولا إمكان لأن يوصف بغير العظمة في جميع أبعاده وجهاته.

«وَأَعظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَف»، والله‌ تعالى أكبر وأعظم من أن يستطيع عباده أمثالنا وسائر مخلوقات العالم وصفه وتصوّره، فلا موجود في عالم الخلقة والطبيعة يملك القدرة على توصيف الباري تعالى، وما يصدر منّا من ذكر صفات الجلال والجمال للباري تعالى هو إشارة فقط إلى زاوية من زوايات صفات الله‌ الحقيقيّة، وإلاّ فلا أحد يستطيع درك وفهم صفات الاُلوهيّة واقعا.

والآن إذا أراد المصلّي أن يقول في ركوعه «سُبحَانَ رَبِّي العظِيمِ وَبِحَمْدِهِ»، فكما قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام: بأنّ المصلّي عندما يقول هذه الكلمة «سُبحَانَ رَبِّي» يجب أن يلتفت إلى قلبه ووجوده وأنّه راكع مقابل موجود عظيم لا مجال لأي عيب ونقص فيه، ولا حاجة له لركوعنا وعبادتنا، بل نحن الذين نحتاج إلى عبادته، ونحن الذين نتقرّب إليه خطوة بهذا الركوع وبهذه العبادة ونزيح عن قلوبنا الحجب والموانع، وعندما نقول: «رَبِّي العظِيمِ»، نلتفت إلى أنّ هذا الربّ العظيم هو خالقنا وهو الذي يهتمّ بتربيتنا وتدبير أمورنا.

وعندما نصل إلى كلمة عظيم نلتفت إلى عظمة الذات الإلهيّة وعظمة الملك والسلطان الإلهي، وأنّه أكبر وأعظم من أن يوصف، فإذا تحقّق مثل هذا الالتفات والعلم في هذه الصورة يكون للذكر في الركوع روح وحال أخرى ولذّة لا توصف.

ثمّ قال الإمام عليه‌السلام: «قَوْلُهُ سَمِعَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ فَهُوَ أَعْظَمُ الكَلِماتِ»، ولها وجهان وجه منه «مَعنَاهُ َسمِعَهُ»، أي أنّ هذا الذكر من أعظم الكلمات وله معنيان: أحدهما: أنّ الله‌ تعالى يسمع هذا التسبيح «الوَجْهُ الثّاني يَدعُو لِمَنْ حَمِدَ الله‌ فَيقُولُ

اسمَعْ لِمَنْ حَمِدَكَ»[1].

نسأل الله‌ تبارك وتعالى أن يوفّقنا جميعا لفهم حقيقة الركوع ودرك حقيقة الصّلاة وأسرارها في قلوبنا.


1. مستدرك الوسائل، ج 4، ص 442، باب النوارد.


153ـ حديث المعراج والتوجّه لعظمة الحقّ في الركوع


بسم الله الرحمن الرحيم

ينقل المرحوم صاحب الوسائل رواية مطولة معروفة بحديث المعراج عن الإمام الصادق عليه‌السلام، ويبتديء في هذه الرواية بمسألة الأذان والذي أبلغه جبرئيل إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بأمر الله‌ تبارك وتعالى، وأخبره بكيفيّة الأذان وكيفيّة الإقامة وكيفيّة الصّلاة إلى أن يصل إلى مسألة الركوع.

وعندما يصل إلى مسألة الركوع يأتي الخطاب من قِبل ربّ العالمين إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله ويقول: «فَاُنْطُر إِلى عَرشِي».

«قَالَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله فَنَظَرتُ إِلى عَظَمةٍ ذَهَبتْ لَها نَفسِي وَغُشِي عَلَيَّ»، فلا أحد يستطيع النظر إلى عظمة الله‌ تعالى، فحتّى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وهو أشرف المخلوقات وأكمل أفراد البشر والعقل الأوّل لم يتمكّن أن يرى عظمة الباري تعالى، عندها اُمر بالنظر إلى العرش ونظر النبيّ إلى عظمة الله‌ التي تجلّت في عرشه اُغمي عليه.

«فَأُلهِمتُ أَنْ قُلتُ سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ لِعِظَمِ مَا رَأَيتُ، فَلَمَا قُلتُ ذَلِكَ

تَجَلَّىْ الغَشْيُ عَنِّي حَتَّى قُلْتُها سِبعَا أُلهِمَ ذَلِكَ فَرَجَعتُ إِلى نَفْسِي كَمَا كُنْتُ»[1].

وعلى هذا الأساس فما يجب الالتفات إليه في حال الركوع، عظمة الحقّ تعالى وصغر وتفاهة ما دونه، وبذلك تعيش قلوبنا في مقابل الباري تعالى في حالة الخضوع والخشوع، ونستطيع بهذه الطريقة إدراك حقيقة الركوع.


1. وسائل الشيعة، ج 5، ص 466.


154ـ حُسن الركوع الصحيح يزيل وحشة القبر


بسم الله الرحمن الرحيم

وأحد الآثار والثمرات للركوع الصحيح والحسن ما ورد في كلام الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال: «مَنْ أَتَمَّ رُكُوعَهُ لَمْ تَدْخُلْهُ وَحْشَةَ فِي القَبْرِ»[1]، وهذا يعني أنّ المصلّي لو أتى بالركوع مع رعاية آدابه ومستحبّاته وطريقة انحنائه ورفع رأسه من الركوع كما ذكر في الكتب الفقهيّة، فهذا من شأنه منح الإنسان الاستقرار والطمأنينة والسكينة في حال الركوع وعندما يرفع رأسه منه، فكأنّه يرفع رأسه في مقابل نظر مولاه.

وأحد الآثار المهمّة لمثل هذا الركوع هو أنّ المصلّي لا يبتلي بعذاب القبر، فالإنسان الذي يعيش في الدنيا في مقابل عظمة الباري تعالى ويعيش حالة الهيبة والدهشة من عظمة الله‌ فإنّه يكون مصونا من الوحشة في عالم القبر.

وأرجو الالتفات إلى حال الركوع في هذه الرواية التي وردت عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهأنّه عندما قال: «فَنَظَرتُ عَرشِ رَبِّي... إِلى عَظَمةٍ ذَهَبتْ لَها نَفسِي


1. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 321.

وَغُشِي عَلَيَّ فَأُلهِمتُ أَنْ قُلتُ سُبحَانَ رَبِّي العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ... قُلْتُها سِبعَا ألهِم ذَلِكَ فَرَجَعتُ إِلى نَفْسِي كَمَا كُنْتُ»[1].

هنا يقول الإمام الخميني رحمه‌الله في عبارة بليغة ودقيقة جدّا: انظر أيّها العزيز إلى مقام وعظمة سلوك سيّد البشر، وهادي السبل صلى‌الله‌عليه‌و‌آله وهو في حال الركوع بحيث نظر إلى مادون الله‌ تعالى فرأى نور العرش، وبما أنّ نور العرش في نظر الأولياء هو جلوة من تجليات الذات المقدّسة بدون واسطة وانتشار بدون مرآة، هنا يجب أن يتخلى الإنسان عن نفسه ويترك التعينات النفسانيّة فيصاب حالة الغشوة والإغماء، وفي هذه الحالة من الغشية يتخلّى الإنسان عن نفسه وذاته ويغمى عليه فيأخذ الله‌ تعالى بيده، وعندما تكرر هذا الذكر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله سبعة مرّات وهو يشمل التسبيح والتعظيم والتحميد عادت إليه نفسه وأفاق من حالة الفناء في الله، وقد ثبت في محلّه وتؤيده الروايات الشريفة وكذلك كلمات العرفاء أنّ هذه المرّات السبعة بعدد الحجب السبعة.

يقول الإمام الراحل رضوان الله‌ عليه: والآن إذا كان النبيّ العظيم الشأن صلى‌الله‌عليه‌و‌آله واجه مثل هذه الحالة، فنحن الذين لا نجد طريقا إلى خلوة الاُنس ولا مكانا في مقام القرب فينبغي الاعتراف بذلّتنا وقصورنا وعجزنا ليكون هذا الاعتراف والاقرار رأسمالنا للوصول إلى المقصد وحجّة في الوصول إلى المطلوب، فنحن لا نترك التمسّك والتثبت بمقصودنا إلى أن ترتوي قلوبنا من شرابه، وإذا لم نكن رجل هذا الميدان فينبغي لنا أن نطلب الهداية من رجال هذا الطريق وهذا الميدان ونستعين بروحانية الكمل من الأولياء فلعل رائحة من معارفهم الإلهيّة تصل إلى مشامنا ويهب نسيم من لطائفهم على قلوبنا[2].


1. وسائل الشيعة، ج 5، ص 466.

2. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 352.

وهكذا نرى أنّ هذا الرجل الإلهي كيف يتحرّك بمنتهى التواضع والخضوع لتحصيل المعارف والحقائق الإلهيّة وغرسها في أرض قلبه وأعماق ذاته ولا يكتفي بذلك حتّى يوصي الآخرين بهذه التوصية ويقول: إنّ عادة الحقّ تعالى الإحسان إلى الخلق وشيمته التفضل والإنعام، فلا يمكن أن يطلب منه عبده بجميع وجوده معارف ولطائف وأسرار ولكنّه لا يحصل على شيء ولا يستجيب له الباري تعالى.


155ـ سرّ الانحناء واستقامة الرقبة في الركوع


بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد المندوبات في الركوع، أنّ المصلّي يجب عليه الانحناء في ركوعه ومدّ عنقه بحيث يتساوى ظهره مع رأسه بشكل مستقيم، فلا ينبغي أن يكون انحناءه ناقصا ولا أكثر من اللازم، فكلا هذين الأمرين غير صحيح، بل يجب أن يكون في انحنائه مستوي الظهر.

جاء في بعض الروايات: «كَانَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إِذا رَكَعَ لَو صُبَّ عَلَى ظَهرِهِ مَاءً لاسْتَقَرَّ»[1].

وجاء في نفس هذه الرواية التي وردت في كتاب «مصباح الشريعة» أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال: «استَوْفِ رُكُوعَكَ باِستِواءِ ظَهْرِكَ»[2]، يعني أنّ كمال الركوع بأن تجعل ظهرك مستويا، ثمّ يمدّ الراكع عنقه بموازاة ظهره، ويفسّر الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام هذه الحالة بأنّك عندما تركع فأنّك تخاطب الله‌ تعالى بالقول:


1. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 73، ص 345.

2. مصباح الشريعة، ص 62.

«آمَنْتُ بِكَ وَلَوْ ضَرَبتَ عُنُقِي»[1].

وذكر الشيخ الكليني رحمه‌الله في كتابه «الكافي» تحت عنوان باب الركوع وذكر التسبيح الوارد فيه، رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال: «إِذا أَرَدتَ أَنْ تَركَعَ فَقُلْ وَأَنْتَ مُنتَصِبٌ الله‌ أَكبَرُ»، وهذه الرواية تعتبر دليلاً جليا على أنّ كلمة الله‌ أكبر قبل الركوع تعدّ من مقدّمات الركوع لا من متممات القيام والقراءة.

«ثُمَّ ارْكَعْ وَقُلْ...»، إلى أن يقول الإمام في هذه الرواية: «وَتَصُفُ فِي رُكُوعِكَ بَيْنَ قَدَمَيكَ، وَتَجعَلُ بَينَهُما قَدْرَ شِبرٍ، وَتُمَكِّنَ رَاحَتَيكَ مِنْ رُكْبَتَيكَ، وَتَضَعُ يَدَكَ اليُمنى عَلَى رُكْبَتِكَ اليُمنَى قَبْلَ اليُسرى وَبَلِّغْ بِأَطرَافِ أَصَابِعِكَ عَيْنَ الرُّكبَةِ، وَفَرِّجْ أَصَابِعَكَ إِذا وَضَعتَها عَلَى رُكْبَتِكَ، وَأَقِمْ صُلبَكَ وَمُدَّ عُنُقَكَ وَليَكُنْ نَظَرُكَ بَيْنَ قَدَمَيكَ، ثُمَّ قُلْ سَمِعَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ وَأَنْتَ مُنتَصِبٌ قَائِمٌ»[2]، أي بعد أن تذكر تسبيح الركوع ترفع رأسك وتقول: «سَمِعَ الله‌ لِمَنْ حَمِدَهُ»، هذه آداب الركوع، والشخص الذي يريد أن يأتي بالركوع كاملاً وصحيحا يجب عليه رعاية هذه الآداب ليكون المصداق لتلك الرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال: «مَنْ أَتَمَّ رِكُوعَهُ لَمْ تَدْخُلْهُ وَحْشَةٌ فِي القَبرِ»[3]، فيجب علينا نحن المصلّين، أن نتأملّ في صلاتنا ونرى هل أنّ ركوعنا مقترن بآدابه الصحيحة أم لا؟ هل أنّ هذا الركوع يحتوي على جميع الخصوصيات المذكورة في الروايات الشريفة، أو أننا لا نلتفت مع الأسف إلى الكثير من آدابه من قبيل كيفيّة الإنحناء في الركوع وكيفيّة رفع الرأس منه وقد نغفل عن الاتيان بالذكر الصحيح وقد نستعجل بالركوع.

ألا ينبغي لنا أن نتأسف على انقضاء سنوات مديدة من عمرنا ولحدّ الآن لم


1. مستدرك الوسائل، ج 4، ص 442، باب النوارد.

2. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 319.

3. الكافي، المطبعة الإسلاميّة، ج 3، ص 321.

يأت بصلاة واحدة تتوفّر فيها الشرائط والآداب والمستحبات المطلوبة، ما أعظم هذا الخسران الكبير الذي لا يقبل الجبران.

نسأل الله‌ تعالى بلطفه وعنايته أن يوفّقنا فيما بقي من عمرنا للإتيان بالصّلاة مع آدابها وشروطها كما يريدها الله‌ تعالى منّا.


156ـ درك عظمة الله، يستجلب الخضوع


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في مقطع آخر من الرواية المذكورة في «مصباح الشريعة»: «وَانْحَطَّ عَنْ هِمَّتِكَ فِي القِيامِ بِخدْمَتِهِ إِلاّ بِعَونِهِ»، يقول عليه‌السلام: لا ينبغي أن يتصوّر الشخص وهو في الحال الركوع أنّه يعبد الله‌ تعالى بهمّته وإرادته وأنّه يتحرّك في مسار السير والسلوك إلى الله‌ بحوله وقوّته، وعندما يرد في منزل من منازل السلوك ويريد أن يتحدّث عن عظمة الله‌ ويسبّحه ويقدّسه فينبغي أن يتخلّى عن نفسه وينزع جلد أنانيّته ولا يرى ذاته، ولا ينبغي أن يفكّر بتدبير معيّن لنفسه ويتصوّر أنّه ركع لله‌ بتدبير منه «إِلاّ بِعَونهِ»، فعليه أن يؤمن بأنّ هذا الركوع وهذه العبادة صدرت منه بتوفيق من الله‌ تعالى وبعونه، وبذلك وصل إلى هذا المنزل، ولو أنّ الشخص تبادر إلى ذهنه هذا المعنى وأدرك هذه الحقيقة فأنّه قد وصل إلى حقيقة الركوع.

يقول بعض الأكابر فيما يتّصل بأسرار الصّلاة: «حَقِيقَةُ الرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ العَبْدِ عَلَى صِفَةِ التَّوَكُّلِ وَعَمَلُهُ عَمَلَ المُتَوكِّلِينَ وَلا يَرى مُدَبِّرا وَلا فَاعِلاً بِالإستِقلالِ

إِلاّ بِالله‌».

ويتابع الإمام عليه‌السلام في هذه الرواية ويقول: «وَفِرَّ بَالقَلْبِ مِنْ وَسَاوِسِ الشّيطَانِ وَخَدَائِعِهِ وَمَكَائِدِهِ»، وهذه النقطة عجيبة، يعني أنّ الشيطان يستعمل جميع خدعه ومكائده لإغواء المصلّي في حال الركوع، فلو أنّ الشيطان في حال القيام استخدم بعض خدعه ووساوسه للمصلّي، ولكنّه في حال الركوع وأكثر من ذلك، وفي حال السجود، يستعمل جميع خدعه وينصب جميع مصائده وفخاخه لإغواء المصلّي، فيجب على المصلّي أن يفرّ من هذه الوساوس والمكائد، فالشيطان أحيانا يوسوس للإنسان في حال الركوع بأنّ الله‌ تعالى لا يحتاج إلى تسبيحك وركوعك فلماذا تصلّي لله‌؟ وهكذا يخدع الإنسان بهذه الطريقة ويحرفه عن مساره في السلوك إلى الله.

أو يقوم الشيطان بأعمال أخرى ويتلاعب بذهن الإنسان ويوسوس له بأنّك لا تطل في صلاتك كثيرا وسارع في إتمامها لتصل إلى أعمالك الأخرى، فإنّ الله‌ لا يحتاج إلى صلاتك، هذه كلّها من وساوس الشيطان، حيث يوصينا الإمام الصادق عليه‌السلام بأن نفرّ من هذه الوساوس: «فَإِنّ الله‌ تَعالى يَرْفَعُ عِبادَهُ بِقَدْرِ تَواضُعِهِم لَهُ»، وكلّما كان الإنسان في مقابل الباري تعالى ذليلاً ويرى نفسه حقيرا وتافها ويعيش الذلّة والحقارة في مقابل عظمة الله‌ بجميع وجوده، فإنّ الله‌ تبارك وتعالى سيرفع مقامه ومكانته بمقدار تواضعه، «وَيَهدِهِهِم إِلى أُصُولِ التَّواضُعِ وَالخُشُوعِ بِقَدْرِ اطّلاعِ عَظَمَتِهِ عَلَى سَرائِرِهِم»، فكيف نحصل على حال التواضع؟ وكيف نستشعر الخضوع والخشوع في مقابل عظمة الله‌ ونحقّق في أنفسنا حالة الخضوع والتواضع؟

يقول عليه‌السلام: إنّ كلّ إنسان يحقّق حالة الخضوع في نفسه بمقدار علمه بعظمة الله‌ تعالى، فإنّ الله‌ تعالى ينظر إلى قلوب عباده ويرى مقدار ما يشعرون به من عظمة

الله‌ تعالى وما يعيشونه في مقابل عظمة الذات المقدّسة، فالشخص الذي يفكّر بارتكاب الذنب فإنّه لا يستشعر عظمة الله‌ في نفسه، وكيف الأمر بذلك الشخص الذي، ونعوذ بالله‌ يرتكب الذنب، فالإنسان المذنب لا يستطيع القول بأنني أشعر بعظمة الله‌ وأعتقد بها.

إذا أدرك الإنسان عظمة الباري تعالى فسوف لا يسمح لنفسه أبدا بأن يفكّر بارتكاب الذنب، وكلّ إنسان ترسخت عظمة الله‌ تعالى في قلبه فإنّه يكون متواضعا أكثر، وكلّ إنسان يعيش حالات التواضع فإنّ الله‌ تعالى يرفعه أكثر ويزيح الحجب من أمامه، نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا التوفيق لإدراك عظمته في قلوبنا إن شاء الله.


الفصل الثامن: أســرار الـسجـود



157ـ أسرار وآداب السجود


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الانتهاء من موضوع الركوع، نشرع بالبحث في موضوع السجود، فما هي أسرار السجود، وما هي الآداب التي ينبغي للمصلّي مراعاتها عند السجود ليكون سجوده سجودا حقيقيا، وما هي النقاط الدقيقة في ذكر السجود، وما هو السرّ في تكرر السجود في الركعة الواحدة خلافا للركوع، وما هي الدقائق التي يمكن استفادتها من المنابع الروائية في هذا المجال؟

وكمقدّمة لابدّ من القول إنّ السجود، بغض النظر عن الصّلاة، ورد الترغيب والندب إليه كثيرا في الروايات الشريفة، ونفس السجود، وعندما يتوضأ الشخص ويسجد لله‌ تعالى، هو من الأمور المندوبة جدّا، وقد ورد التشويق إليه بشدّة وأنّه عمل مستحب، وتطويل السجود، سواءً في سجود الصّلاة أو في السجود بعد الصّلاة أو السجود المستقل، من جملة الأمور التي ورد الاهتمام بها في الروايات الشريفة، ولكن ما هي حقيقة السجود؟

يقول المرحوم الشهيد الثاني رحمه‌الله فيما يخصّ السجود: «وَهُوَ أَعظَمُ مَرَاتِبُ

الخُضُوعِ وَأَحْسَنُ دَرَجاتِ الخُشُوعِ»[1]، يعني أنّ الإنسان الذي يسجد أمام الباري تبارك وتعالى، فإنّ هذه الحالة لا يوجد أعلى منها في تحقّق حالة الخضوع لله‌، فالسجود هو غاية مراتب الخضوع في مقابل الله‌ تبارك وتعالى، والخضوع موجود في القيام أيضا ولكن مقدار الخضوع الذي يشعر به الإنسان في قيامه يختلف عن حالة الخضوع الذي يجدها الإنسان في ركوعه.

وفي الركوع أيضا يجد الإنسان حالة الخضوع والخشوع، ولكن مرتبة الخضوع والخشوع في الركوع لا تصل أبدا إلى مرتبة الخضوع والخشوع في السجود، فالمصلّي يهييء نفسه من خلال القيام والركوع للاتيان بأعلى مراتب الخضوع والخشوع في سجوده: «وَأَعْلَى مَراتِبِ الإِسْتِكانَة»، السجود نهاية مرتبة اظهار الذلّة والاستكانة والعبوديّة بين الله‌ تعالى، ومن هذه الجهة نرى أنّ الله‌ تبارك وتعالى يأمر نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهبالسجود، فنفس السجود وبالاستقلال عن الصّلاة مطلوب ومحبذ ومندوب، ولكن، وحسب ظاهر بعض الآيات الشريفة، السجود واجب بالنسبة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، وينبغي علينا أن نعلم أنّ أفضل حالات الصّلاة هي حالة السجود، وأفضل وأعلى درجة من الخضوع والخشوع والذلة هي في حال السجود، فنحن نتذكر في سجودنا عظمة الباري تبارك وتعالى، فعندما يضع الإنسان رأسه على التراب ويسجد لله‌ فقبل أن يتلفظ بذكر السجود يستشعر عظمة الله‌ تعالى، وهو ذلك الموجود الذي نضع جبهتنا أمامه على التراب لأنّ الموجود الجدير للعبادة والسجود له هو الله‌ تعالى، وبما أنّ السجود يعتبر نهاية درجة الحضور، فإنّ هذه المرتبة من الخضوع مختصّة لله‌ تبارك وتعالى ولا يصحّ السجود لغير الله.

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «آداب الصّلاة»: سرّ


1. التنبيهات العليّة على وظائف الصّلاة القلبيّة، ص 124.

السجود لدى أصحاب العرفان ترك النفس والتعلق بغير الله[1].

وعندما يسجد الإنسان فلا يبقى معنى للالتفات لغير الله‌ تعالى، والويل لذلك الشخص الذي يسجد ولكنّه يفكّر في نفسه أو يفكّر في الدنيا وما سوى الله، فالإنسان عندما يسجد يجب عليه أن يترك نفسه وينسى ذاته ويوصد فكره وعينه عن غير الله‌ وينبغي أن يعلم أنّ السجود، على حدّ تعبير العرفاء، هو المعراج اليونسي، أي أنّ الإنسان يجد نفسه في مجموعة ظلمات الدنيا، ومع ذكر السجود فإنّ المصلّي يطلب النجاة من هذه الظلمات والتقرّب إلى الله‌ تبارك وتعالى.

نسأل الله‌ تعالى أن يهب لنا جميعا السجود الحقيقي إن شاء الله.


1. آداب الصّلاة، 357.


158ـ أهمّيّة السجود


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «وَجَدْتُ النُّورَ فِي البُكاءِ والسَّجْدَةِ»

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «السُّجُودُ مُنتَهى العِبادَةِ مِنْ بَنِي آدَم»[1]، فلو أنّ الإنسان أراد أن يصل في عبادته إلى الذروة والنهاية، فالمرتبة العالية التي لا يمكن تصوّر مرتبة أعلى منها تكمن في السجود.

ويتبيّن أنّ حال السجود من بين جميع العبادات هو أفضل عبادة وأعلاها مرتبة، ويختلف السجود عن جميع أجزاء الصّلاة وأقسامها الأخرى وكذلك يختلف عن سائر العبادات الواردة في الشريعة، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: «السُّجُودُ مُنتَهى العِبادَةِ...»، ولا ينبغي للمصلّي أن يغفل عن هذه الحقيقة، وأساسا عندما يقف الإنسان للصّلاة بين يدي الباري تعالى فهو يعيش الأمل أن يصل إلى الركوع وينال مرتبة أكثر من التواضع والخضوع في عبادته، وفي الركوع يأمل أن يصل إلى السجود بشوق بالغ، ومع رعاية آداب الركوع يجد في


1. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 82، ص 164.

حال السجود حالة الخضوع أكثر ليؤدي حقّ العبوديّة لله‌ تعالى في هذه المرتبة من العبادة والخضوع.

وسئل الإمام الصادق عليه‌السلام: «لِمَ اتَّخَذَ الله‌ إبراهِيمَ خَلِيلاً»؟

فقال عليه‌السلام: «لِكِثْرَةِ سُجُودِهِ عَلَى الأَرضِ»[1].

وجاء في رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال: «وَجَدْتُ النُّورَ فِي البُكاءِ والسَّجْدَةِ»، فلو أراد الإنسان تحصيل النور الإلهي في وجوده ويكون وجوده وعاءً لتجليات النور الإلهي، فيجب عليه أن يقوم بأمرين: أحدهما: البكاء من خشية الله، الثاني: السجود لله‌، وعلى هذا الأساس يجب أن نهتمّ كثيرا بأمر السجود

وجاء في رواية عن سلمان الفارسي رحمه‌الله أنّه قال: «لَولا السُّجُودُ للهِ وَمُجَالَسَةُ قَوْمٍ يَتَلفَّظُونَ طَيِّبِ الكَلامُِ كَمَا يُتَلَفَّظُ طَيِّبُ التَّمرِ لَتَمَنَّيتُ المَوْتَ»[2]، يعني أنّ سبب الشعور باللذّة في البقاء في الدنيا عند سلمان الفارسي رحمه‌الله هو لذّة السجود لله‌ تعالى.

وللسجود في الصّلاة أهميّة كبيرة ولا ينبغي أن نغفل عنه، ولا ينبغي لشعبنا العزيز وشبابنا الأكارم أن يحرموا أنفسهم من هذه النعمة الإلهيّة والتوفيق الربّاني الكبير، بحيث إنّهم يستعجلون في رفع رأسهم من السجود، ولا ينبغي الشعور بالتعب من السجود، بل يجب أن نعلم أنّ أفضل حالات القرب من الله‌ تعالى وأفضل أوقات الاستغراق في رحمة الله‌ تعالى ولطفه ورحمته هو في حال السجود.

وينقل ابن طاووس رواية عن حالات الإمام زين العابدين عليه‌السلام: «أَنّهُ بَرزَ إِلى


1. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 12، ص 4.

2. بحار الأنوار، ج 6، ص 130.

الصَّحراءِ فَتَبِعَهُ مَولاً لَهُ فَوَجَدَهُ سَاجِدا عَلَى حِجَارَةٍ خَشِنَةٍ»، ونحن عادة نهتمّ بمكان السجود أن يكون ناعما وصافيا بحيث لا تصاب جبهتنا بأدنى خدش أو أذى، ولكن الإمام زين العابدين عليه‌السلام يضع جبهته على حجارة خشنة ويكرر هذا الذكر ألف مرّة: «لا إِلَهَ إِلاّ الله‌ حَقّا حَقّا، لا إِلَهَ إِلاّ الله‌ تَعَبُّدَا وَرِقا، لا إِلَهَ إِلاّ الله‌ إِيمَانا وَصُدقَا ثُمَّ رفَعَ رَأسَهُ»[1].

هذه سيرة أئمّتنا الطاهرين عليهم‌السلام وهكذا المعروف عن الإمام زين العابدين والإمام موسى الكاظم عليهماالسلام أنّهما كانا معروفَين بالسجود الطويل، ويجب علينا أيضا الاهتمام بحال السجود في صلاتنا وكذلك في غيرالصّلاة فنسجد لله‌ في منتصف الليل وندعوه ونعيش في حال المناجاة.


1. بحار الأنوار، ج 11، ص 166.


159ـ سرّ السجود على التراب


بسم الله الرحمن الرحيم

أسلفنا أنّ السجود هو أعظم مرتبة من مراتب الخضوع والخشوع في مقابل الله‌ تبارك وتعالى، ويجب على الإنسان في حال السجود أن يتذكّر عظمة الله‌ وينسى نفسه وكلّ ما سوى الله‌ ويتركه جانبا، والسجود، في كلام العرفاء، هو المعراج اليونسي، وكما هو معلوم أنّ النبيّ يونس عليه‌السلام عندما كان في بطن الحوت وفي تلك الظلمات أخذ بالدعاء والذكر لينقذه الله‌ تعالى من هذه الظلمة والسجن فأنقذه الله‌ تعالى، ونحن أيضا عندما نكون في حال السجود نجد أنفسنا في ظلمات الدنيا، ونرى في السجود أنّ جميع الدنيا وظلماتها قد تسلطت علينا، فلو أردنا الخلاص من هذه الظلمات يجب علينا أن نذكر الله‌ تعالى بعظمته وعلوّه وكبريائه ونتوجّه إليه في قلوبنا وجميع وجودنا ثمّ نقول ذكر السجود بلساننا: «سُبْحَانَ رَبَّي الأعَلى وَبِحَمْدِهِ».

وبالنسبة لذكر السجود فقد ورد في الرواية أنّها عندما نزلت الآية الشريفة 74 من سورة الواقعة «سُبْحَانَ رَبَّي العَظِيم وَبِحَمْدِهِ» على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، أمر النبيّ

أن تجعل هذه الآية في الركوع، وعندما نزلت الآية الاُولى من سورة الأعلى: «فَسَبِّحْ بِسْمِ رَبِّكَ الأَعلَى»، أمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهأن توضع في السجود، فقد ورد في «الكافي» أنّ أوّل اسم جعله تبارك وتعالى لنفسه «العَليّ وَالعَظيم»[1]، ونحن نذكر هذين الإسمين في ركوعنا وسجودنا لئلا نغفل في سجودنا أننا في أي حالة؟ لا ينبغي أن نتصوّر أنّ السجود مجرّد تكليف شرعي ظاهر ويقتصر على وضع الجبهة على التراب ولا يجب الالتفات إلى شيء آخر وراءه، كلاّ، فالإنسان في صلاته يضع أشرف وأفضل موضع في بدنه وهو الجبهة ومركز الفكر والترشحات العقليّة على أهون مادة في العالم وهو التراب.

إنّ سرّ أهميّة السجود من حيث إنّ الخضوع والخشوع يكمن في هذه النقطة، وهي أنّ الإنسان يضع أشرف أعضاء بدنه على أحقر وأتفه شيء في العالم وهو التراب، ومن هنا يتبيّن لماذا قال الفقهاء إنّ السجود يجب أن يكون على التراب ولا يجزي السجود على اللباس أو الطعام، فلماذا لا يصحّ السجود على المأكول والملبوس؟ لأنّ الشيء إذا كان من الملبوس أو المأكول فإنّه يتّصف بأنّه بضاعة ومتاع دنيوي وأنّ أهل الدنيا ومن خلال هذه الأمور الدنيويّة يرون لأنفسهم عزّة ومكانة، ومن هذه الجهة أمر الإسلام بالسجود على أتفه شيء في عالم الطبيعة بحيث لا مجال لرؤية أي مكانة وقيمة للذات والنفيّة.

ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة أيضا، وهي أنّ السجود أهم وسيلة للتقرب إلى الله‌ تبارك وتعالى، والإنسان الذي يتحرّك في مسار السير والسلوك، فإنّه كلّما أطال سجوده أكثر كان يعيش حالات الخضوع والخشوع في سجوده أكثر فإنّ نورانيّة صلاته ستكون أكثر وسينال توفيق أكثر في الإستفادة من عنايات الباري تبارك وتعالى وألطافه الغيبيّة.


1. الكافي، ج 1، ص 153.

ومن هذه الجهة نرى الأنبياء الإلهيين والأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام يهتمّون بالسجود كثيرا، يقول منصور الصيقل: «حَجَجَتُ فَمَرَرْتُ بِالمَدِينَةِ فَأَتَيْتُ قَبْرَ رَسُولُ الله‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهفَسَلَّمْتُ عَلَيهِ»، وانشغلت بالزيارة فرأيت الإمام الصادق عليه‌السلام في حال السجود «فَجَلَسْتُ حَتَّى َمَللْتُ»، أي أنّ سجود الإمام عليه‌السلام كان مطولاً إلى درجة أنّ هذا الشخص شعر بالملل والتعب، «ثُمَّ قُلْتُ لأُسَبِّحَنَّ مَادَامَ سَاجِدا»[1]، وبذلك أقتدي بهذا الإمام واُسبح الله‌ تعالى مادام الإمام عليه‌السلام في سجوده، يقول هذا الراوي، فعددت ذكر الإمام عليه‌السلام «سُبْحَانَ رَبَّي العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، واستَغفِرُ الله‌ وَأَتُوبُ إِلَيهِ»، ثلاثمائة وستين ونيف.

إذن، لا ينبغي أن نستشعر التعب والملل من السجود ولا ينبغي الاحساس بالتعب بمجرّد ذكر التسبيح مرّة أو مرّتين، فالسجود كلّما كان طويلاً فإنّ التوفيقات الإلهيّة والسعادة الروحانيّة تكمن في هذا السجود.


1. مستدرك الوسائل، ج 4، ص 413.


160ـ حقيقة السجود في كلام الإمام الصادق عليه‌السلام


بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية مفصّلة وردت في كتاب «مصباح الشريعة»[1]:

«مَا خَسِرَ وَالله‌ قَطُّ مَنْ أَتَى بِحَقِيقَةِ السُّجُودِ وَلَوْ كَانَ فِي عُمُرِهِ مَرَّة وَاحِدَةً، وَمَا أَفلَحَ مَنْ خَلاَ بِرَبِّهِ فِي مِثلِ ذَلِكَ الحَالِ شَبِيها بِمُخادِعِ نَفْسِهِ غَافِلاً لاهيَا عَمَّا أَعَدَّ الله‌ تَعالى لِلسَّاجِدِينَ مِنْ البِشْرِ العَاجِلِ وَرَاحةِ الآجِلِ»، ونرى أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يقول: إنّ الله‌ تعالى جعل الاُنس والراحة للساجدين في الدنيا والآخرة، فالشخص الذي يريد أن يعيش في الدنيا حالة الاُنس والمحبّة مع الله‌ تبارك وتعالى، والشخص الذي يريد أن يجد الراحة والبهجة في القبر والبرزخ والقيامة ويريد الحصول على المقام والمكانة في الآخرة، يجب عليه الاستمداد من حالة السجود والوصول إلى حقيقة السجود.

«وَلا بَعُدَ عَنِ الله‌ تَعالى أَبَدا مَنْ أَحْسَنَ تَقَرُّبَهُ فِي السُّجُودِ، وَلا قَرُبَ إِلَيهِ أَبَدَا مَنْ أَساءَ أَدَبَهُ وَضَيَّعَ حُرْمَتَهُ بِتَعْلِيقِ قَلبِهِ بِسِواهُ فِي حَالِ السُّجُودِ»، وهذه الرواية مهمّة جدّا في بيان الآثار المرتبة على السجود ورعاية آدابه، يقول الإمام الراحل


1. مصباح الشريعة، ص 64.

رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «آداب الصّلاة»: في هذا الحديث الشريف جمع بين أسرار وآداب السجود، وبين حقيقة السجود، فقد ذكر في هذا الحديث الشريف الآداب التي يجب على المصلّي أو الساجد رعايتها في عبادته وسجوده، وكذلك بيّن بعض حقيقة وأسرار السجود.

وفي سياق هذه الرواية يقول الإمام عليه‌السلام: «فَاسْجُدْ سُجُودَ مُتَواضِعٍ للهِ ذَلِيلٍ»، فأحد آداب السجود التي ينبغي رعايتها من إظهار التذلل والتواضع لله‌ تعالى لئلا تكون في السجود شائبة الأنانيّة ورؤية الذات كما سبق أن ذكرنا في حالات الصّلاة الأخرى أنّ الإنسان يجب أن يلتفت دوما إلى ضعفه وعجزه وتفاهته في مقابل الباري تعالى، وفي السجود خاصّة يجب أن تكون حالة الذلّة والتواضع في ذروتها.

«عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرابٍ...»، فعندما نضع جبهتنا على التراب فيجب أن نعلم أننا خلقنا من هذا التراب، وأي تراب؟ التراب الذي يسحقه الناس بأقدامهم.

«أَنَّهُ رُكِّبَ مِنْ نُطفَةٍ يَستَقْذِرُها كُلُّ أَحَدٍ، وَلَقَدْ جَعَلَ الله‌ مَعنَى السُّجُودِ سَبَبَ التَّقَرُبِ إِلَيهِ بِالقَلْبِ وَالسِّرِّ وَالرُّوحِ، فَمَنْ قَرُبَ مِنْهُ بَعُدَ عَنْ غَيرِهِ»، وهكذا حال الإنسان بين الدنيا والآخرة، وبين الله‌ وغيره، كلّما اقترب الإنسان من الله‌ تعالى ابتعد عن غيره، وكلّما اشدّت عظمة الله‌ تعالى في قلب الإنسان ضعف ما سواه.

«أَلا تَرى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ لا يَستَوي حَالُ السُّجُودِ إِلاّ بِالتَّوارِي عَنْ جَمِيعِ الأشيَاءِ وَالإِحْتجَابِ عَنْ كُلِّ مَا تَراهُ العُيُونُ»، يتحدّث الإمام الصادق عليه‌السلام هنا في بيان حال السجود باسلوب بليغ وكلام رائع، فكما أن الإنسان عندما يسجد ويضع رأسه على الأرض لا يرى شيئا ومظهر من مظاهرا الدنيا وتختفي عن بصره الأشياء، «كَذَلِكَ أَرادَ الله‌ تَعالى أَمْرَ البَاطِنِ»، فباطن الإنسان يجب أن يكون كذلك، أي لا يتوجّه قلبه أبدا نحو الدنيا ولا يفكّر بذهنه أبدا في متطلباتها وزخارفها.

نسأل الله‌ تعالى أن يرزقنا جميعا السجود الحقيقي.


161ـ علّة تكرار السجود


بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في رواية في كتاب «مصباح الشريعة»[1] عن الإمام الصادق أنّه قال: «لا يَستَوي حَالُ السُّجُودِ إِلاّ بِالتَّوارِي عَنْ جَمِيعِ الأشيَاءِ وَالإِحتْجَابِ عَنْ كُلِّ مَا تَراهُ العُيُونُ»، فالإنسان في حال السجود لا يرى أي مظهر من مظاهر الدنيا، ولا يرى الولد ولا الزوجة ولا الدنيا ولا المقام ولا المال ولا الثروة، وهكذا يجب أن يكون باطنه في حال السجود بأن لا يرى ولا يفكّر بشيء غير الباري تعالى.

«فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مُتَعلِّقا فِي صَلاتِهِ بِشيءٍ دُونَ الله‌ تَعالى فَهْوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الشَّيءِ، قَالَ الله‌ تَعالى: «مَا جَعَلَ الله‌ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...»[2]»، فهذا القلب إمّا أن يكون قريباب من الله‌ أو قريبا من غير الله، وهذا يعني أننا يجب أن نخلص قلوبنا لله‌ تعالى في السجود ونفكّر أننا جئنا في يوم من الأيّام إلى الدنيا من هذا التراب فسوف نعود إليه لاحقا، ولعل السرّ في استحباب النظر إلى محلّ السجود


1. مصباح الشريعة، ص 66.

2. سورة الأحزاب، الآية 4.

في حال القيام أن الإنسان بهذا التوجّه إلى الأرض كأنّه يقول: «إِنّا للهِ وإِنّا إِلَيهِ راجِعُونَ»، وهكذا يعيش الإنسان هذه الحقيقة الحاسمة دائما.

وجاء في رواية في كتاب «بحار الأنوار»: «سُئِلَ أَمِيرُالمُؤمِنِينَ عليه‌السلام مَا مَعنَى السَّجدَةِ الاُولى؟ فَقَالَ: تَأَوِيلُها اللُّهُمَّ إِنّكَ مِنها خَلَقتَنا وَرَفْعُ رَأسِكَ وَمِنْها أَخْرَجتَنا»[1]، فباطن وحقيقة السجدة الاُولى هي أننا نريد أن نقول لله‌ تعالى: إلهنا! لقد خلقتنا من هذا التراب وأخرجتنا منه.

«وَالسَّجدَةُ الثَّانِيةُ وإِلَيها تُعِيدُنا»، وحقيقة السجدة الثانية هي أننا نقول لله‌ تعالى: إلهنا! سيأتي اليوم الذي نعود فيه إلى هذا التراب، وعندما نرفع رأسنا من السجدة الثانية نتذكّر ونقول: وسوف نخرج منها مرّة ثانية، وهو ما ورد في الآية الشريفة 55 من سورة طه، حيث تقول: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى»، والآن تبيّن لماذا يتكرار السجود مرّتين في كلّ ركعة بخلاف الركوع وهو مرّة واحدة في الركعة، لأنّ المصلّي يلتفت إلى هذه الحقيقة في حال السجود، وذلك في مرحلة الخلق من التراب والموت والعودة إلى التراب ومرحلة الحشر والقيامة، فكلّ مراحل الحياة منذ خلق الإنسان إلى حشره يوم القيامة كامنة في هاتين السجدتين، فعلى الإنسان الانتباه إلى هذه الحقيقة واستغلال عمره ووقته في ما ينفعه لذلك اليوم ولا يتلف وقته وقواه في أمور الدنيا.


1. بحار الأنوار، مطبعة بيروت، ج 79، ص 271.


162ـ تأكيد الأئمّة عليهم‌السلام على إطالة السجود


بسم الله الرحمن الرحيم

ينقل المرحوم الميرزا جواد ملكي التبريزي رضوان الله‌ تعالى عليه في كتابه «أسرار الصّلاة» عن اُستاذه المرحوم الملا حسين قلي الهمداني رحمه‌اللهويقول عن هذا الاُستاذ العارف: «كان لي شيخٌ جليلٌ عارفٌ كاملٌ ما رأيت له نظيرا، فطلبتُ منه عن عَملٍ مُجرّبٍ يُؤثّر في إصلاح القلب وجلب المعارف».

فقال المرحوم الملا حسين قلي رحمه‌الله: «ما رأيت عملاً مؤثّرا في ذلك مثلَ المُداومة على السّجدة الطّويلة في كلّ يوم مرّة واحدة»، وتقول في هذه السجدة: «لا إله إلاّ أنتَ سُبحانَكَ إِنّي كنتُ مِن الظّالمين».

فإذا داومت على هذا الذكر في السجود فاستشعر في نفسك أنّك: «يرى نفسهُ مسجونة فِي سِجنِ الطّبيعة ومُقيّدة بقُيودِ الأخلاقِ الرذيلة، ومُقرّا بأنّك لَم تَفعل ذلك بي ولَم تَظلِمنِي وأَنا الّذي ظلمتُ نفسِي وأوقعتُها في هذا الحال»، وتكرر هذا الذكر 360 مرّة.

يقول المرحوم الملا حسين قلي الهمداني رحمه‌الله: إذا داوم السالك على هذا الذكر

والسجدة الطويلة في كلّ يوم فإنّ الله‌ تعالى سيفتح أمامه أبواب المعارف، ونقرأ في سيرة أصحاب الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام والرواة الكرام أنّ أحد أعمالهم العبادية يتمثّل في السجدة الطويلة، يقول الكشي في كتابه «اختيار معرفة الرجال»: «إنّه وجد في كتاب أبي عبدالله‌ شاذاني بخطه: سمعتُ أبا محمّد الفضل بين شاذان يقول: دخلت العراق فرأيت واحدا يعاتب صاحبه ويقول له: أنت رجل عليك عيالٍ»، أي يجب أن تذهب للكسب والعمل لتحصيل الرزق، فلماذا تطيل السجود، وأنا أخشى عليك أن تذهب عينك بسبب هذا السجود الطويل، «فلمّا أكثر عليه قال لو ذهبت عين أحد من طول السجود لذهبت عين ابن أبي عمير فَمَا ظَنُّكَ بِرَجلٍ سَجَدَ سَجدَةَ الشُّكر بعد صلاةِ الفجرِ فَما رفعَ رأسهُ إلاّ عِندَ الزَّوال». وهكذا كان حال ابن أبي عمير في سجوده الطويل بحيث إنّه بعد انتهاء من الصّلاة الصبح يسجد سجدة الشكر ويستمر في سجوده إلى آذان الظهر.

وجاء في رواية أخرى أنّ رجلاً جاء إلى ابن أبي عمير، وقال: أنت طويل السجدة؟ فقال ابن أبي عمير: «لَو رأَيتَ جَميل ابن درّاج»، ويقول هذا الشخص: أتيت جميل بن درّاج فرأيتُ أنّ سجوده يستغرق وقتا طويلاً، فقلت له: ما أطول سجودك، فقال: لو رأيت معروف بن خربوز، فسجودي لا يقارن بسجوده، وهذه هي سيرة ومنهج أصحاب الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام .

يجب على كلّ مسلم أن يضع في برنامج حياته سجدة طويلة في كلّ يوم، فإذا استمر واقعا بهذا العمل وداوم عليه فسوف تنحلّ الكثير من مشكلاته ويجد الطريق مفتوحا في مسيرة الإيمان والعبادة والقرب إلى الله‌ تعالى ويعيش النورانيّة في حياته بما لا يستطيع تصوّره.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا جميعا للسجود الطويل، إن شاء الله.


الفصل التاسع: أســرار التّشـهـد



163ـ سرّ الشهادة بالتوحيد والنبوّة في بداية الصّلاة ونهايته


بسم الله الرحمن الرحيم

نصل إلى مسألة التشهد، والذي يجب أن يأتيه المصلّي في الركعة الثانية والركعة الأخيرة من صلاته، ويجب في التشهد أن يتشهد المصلّي الشهادتين، الاُولى الشهادة بالتوحيد والإقرار بواحدانيّة الباري تبارك وتعالى ويقول: «أشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ الله‌ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه»، والثانية: الشهادة بنبوّة ورسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهأنّه عبد الله‌ ورسوله، وأحد النقاط المطروحة هنا، سواءً في الشروع بالصّلاة أو في وسطها أو في نهايتها، مسألة الشهادة بالتوحيد والشهادة بالرسالة والنبوّة، فما هو سرّ الكامن في هذه الشهادة، بحيث يجب على المصلّين الاتيان بها في أوّل صلاته وآخرها ويشهد بتوحيد الباري وتعالى ورسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله؟ يجب علينا التأمّل والتدبّر في هذه المسألة، وهل يوجد ارتباط عميق بين أوّل الصّلاة وآخرها؟ ألا نستوحي أنّ الصّلاة تتضمّن مثل هذا المفهوم وأنّ هذا العمل العبادي من شأنه إيصالنا إلى مراتب عالية من التوحيد، والإيمان بوحدانيّة

الباري تعالى.

إنّ سرّ تكليف الناس بالصّلاة هو أنّ الاتيان بالصّلاة في كلّ يوم من شأنه تقوية التوحيد في وجودهم وقلوبهم وتكميل مسيرة اتّباع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله والاستنان بسنّته، فالصّلاة يجب أن تحلق بالإنسان في كلّ وقت وفي كلّ لحظة في معراج المعنويّات وفي درجات التوحيد، ولو أراد شخص معرفة: هل أنّ صلاته صحيحة أم لا؟ فينبغي أن يلاحظ توحيده وإيمانه بعد الصّلاة إلى أي مرحلة وصل؟ هل أن توحيده يزداد ويتعمّق ويرتفع شيئا فشيئا، أم لا ؟

هل أنّ أهواءه وتمنياته وجميع ما جعله صنما له في نفسه، يتأثر في كلّ صلاة يصلّيها وتضعف هذه الرغبات الدنيويّة والنوازع النفسانيّة بعد الصّلاة أم لا؟ إنّ الصّلاة لغرض إيصال الإنسان إلى مرتبة عالية من التوحيد، والصّلاة تهدف إلى إفهام الإنسان بشكل أعمق وأشدّ بوحدانيّة الباري تعالى ويؤمن بهذه الحقيقة الحاسمة في قرارة نفسه، وعلى حدّ قول العرفاء لا توجد لذّة أعلى من درك معنى التوحيد.

ولو علم الإنسان أنّه لا يوجد إله غير الله‌ يستحق العبادة وأنّ كلّ شيء بيده وبمشيئته، وأنّ العزّة والذلّة، والغنى والفقر، والسلامة والمرض، والراحة والابتلاء بيده فقط، فسوف يجد هذا الشخص لذّة كبيرة وانبساطا وبهجة في حال التقرب والإرتباط بالله‌ تعالى.

يقول الإمام الخميني رضوان الله‌ تعالى عليه: هناك فرق بين الشهادة بالتوحيد في أوّل الصّلاة والشهادة بالتوحيد في آخر الصّلاة مع وجود ارتباط وثيق وعميق بينهما، ولكن الفرق في المرتبة والدرجة، فالشهادة بالتوحيد في أوّل الصّلاة هي الشهادة قبل السلوك وقبل العمل وقبل المعراج، والشهادة في آخر الصّلاة تعني نهاية هذا السفر والمعراج الإلهي.

الشهادة قبل الصّلاة تعبير عن شهادة تعبّديّة أو تعقّليّة، فنحن على أساس التعبّد بأوامر الله‌ تعالى أو التعقّل والتفكّر نؤدّي الشهادة بالتوحيد، وأمّا في آخر الصّلاة فهي شهادة تحقيقيّة وحضوريّة، يعني بعد أن يأتي المصلّي في الركعة الاُولى والثانيّة ويقرأ سورة الحمد ثمّ يركع ويسجد ويطوي مراحل السلوك إلى أن يصل إلى درجة القرب الإلهي في السجدة الثانية، عندها يحين وقت التشهد وأداء الشهادة على التوحيد، يعني أنّ هذا التوحيد قد تحقّق في باطننا ووجودنا، ونعود مرّة ثانية إلى هذا العالم والدنيا لنأخذ منه الزاد والمتاع في سفرنا وعروجنا الإلهي، ولذلك ورد التعبير أنّ الشهادة في آخر الصلاة هي شهادة حضوريّة، وفي هذه الشهادة خطر عظيم، لأنّها عبارة عن ادعاء حصول التوحيد في الذات والقلب، ولكن الشهادة في أوّل الصّلاة لا تحمل هذا العنوان والادعاء، وعلى هذا الأساس يجب أن نتدبّر في سرّ هذه الشهادة والتشهد، ونلتفت إلى تحقّق التوحيد في جميع وجودنا وواقعنا النفساني، إن شاء الله‌ تعالى.


164ـ حقيقة التشهد


بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في كتاب «مصباح الشريعة»[1] رواية رائعة جدّا عن الإمام الصادق عليه‌السلام تتضمّن الأداب القلبيّة وحقائق وأسرار التشهد، يقول عليه‌السلام: «التَّشَهُّدُ ثَنَاءٌ عَلَى الله‌ تَعالى، فَكُنْ عَبدَا لَهُ فِي السِّرِّ خَاضِعا لَهُ فِي الفِعْلِ كَمَا أَنَّكَ عَبدٌ لَهُ بِالقَولِ وَالدَّعوى»، فنحن عندما نتشهد ونعترف بالتوحيد، أي التوحيد في العبادة، والتوحيد بالذات، والتوحيد بالفعل، فكما أننا في مقام القول والادعاء نعتقد ونقرّ أننا عبيد لله‌ تبارك وتعالى فيجب أن نكون كذلك في باطننا وسرّنا، أي نعيش حالة العبوديّة والخضوع لله‌ تعالى في مقام العمل والفعل.

«وَصِل صِدْقَ لِسَانِكَ بِصَفاءِ صِدْقَ سِرِّكَ»، يعني كما أنّك تعيش حالة العبوديّة والعبادة في الظاهر، يجب عليك أن تستشعر هذه الحالة من العبوديّة والعبادة في باطنك أيضا.

«فَإِنَّهُ خَلَقَكَ عَبْدَا وَأَمَرَكَ أَنْ تَعْبُدَهُ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ وَجَوارِحِك».


1. مصباح الشريعة، ص 68، باب 17، التشهد.

أحيانا يطرح البعض هذه الشبهة ويقول: إنّ العبادة لله‌ تعالى، وحينئذٍ يكفي التوجّه القلبي لله‌ في العبادة، ولا يحتاج إلى ذكر اللسان وفعل الجوارح من القيام والركوع والسجود، والجواب: إنّ الإنسان مركّب من ظاهر وباطن، وكما أنّ الإنسان له باطن فله ظاهر أيضا، وأنّ الله‌ تبارك وتعالى أراد أن يتحرّك الإنسان في مسار العبادة والعبوديّة بظاهره وباطنه معا، فعندما يقف الإنسان ببدنه أمام الحقّ تبارك وتعالى ويفني ظاهره في الله‌ تعالى فهذا يكشف عن أنّ هذا الإنسان يعيش في باطنه هذه الحالة أيضا، أمّا الشخص الذي يتحرّك بجوارحه وأعضاء بدنه في طلب الدنيا، وتكون عينه ويده وفكره و... وسائر أعضائه وقواه تسير في طلب الدنيا وفي مسير غير الله، فكيف يستطيع قلبه أن يتوجّه إلى الله‌ تبارك وتعالى؟ إنّ اللسان الذاكر هو الذي أدخل هذا الذكر والتسبيح إلى قلب الإنسان، يجب أن تكون أجزاء وجوارح الإنسان وأبعاده الوجوديّة كلّها مرتبطة بالتوحيد، ولذلك يقول الإمام عليه‌السلام في سياق هذا الحديث:

«وَأَنْ تُحَقِّقَ عُبُودِيَتَكَ لَهُ بِرِبُوبيِّتِهِ لَكَ»، وهذا يعني أنّ حقيقة العبوديّة تستدعي طلب ربوبيّة الله‌ تعالى، فما لم تكمل وتتمّ العبوديّة من العبد فلا يحصل على القرب من مقام الربوبيّة، ولو أنّ الإنسان أراد الحصول على القرب من الحقّ تعالى وأن يجعل الله‌ تعالى حاكما ومهيمنا على وجوده وكيانه فيجب عليه تقوية أواصر العبوديّة والشعور بالرقيّة لله‌.

«وَتَعْلَمَ أَنَّ نَواصِي الخَلْقِ بِيَدِهِ، فَلَيسَ لَهُمْ نَفَسٌ وَلا لَحظَةٌ إِلاّ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِتيَانِ أَقَلَّ شَيءٍ فِي مَمْلَكَتِهِ إِلاّ بِإِذنِهِ وَبِإِرَادَتِهِ»، فجميع العباد والمخلوقات عاجزون على فعل أي عمل مهما كان صغيرا بدون مشيئة الباري تعالى وإذنه، لأنّ كلّ عمل يقع في دائرة مملكته وقدرته تعالى.

«قَالَ الله‌ عَزَّ وَجَلَّ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله

وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»[1]»، هذا يعني أنّه لا اختيار للعباد في أفعال الله‌ تعالى وأنّه تعالى منزّه عمّا يتصوّر الخلق وما يجعلون له من شرك، وكلّ هذه الحقائق هي آثار للتوحيد الخالص، وهو أن يعلم الإنسان أنّ الله‌ «يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ»، فالخلق بيد الله‌ تعالى ولا تأثير للناس فيما يختاره الله، وهذا هو الغرض من التشهد والصّلاة بأن نصل إلى مراتب عالية من التوحيد والكمال المعرفي بالله‌ تعالى، إن شاء الله.


1. سورة القصص، الآية 68.


165ـ أدب التـشهـد


بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا أنّ التشهد يبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا السفر والمعراج الإلهي يهدف للوصول إلى مرتبة عالية من التوحيد، ومن أجل أن يحقّق المصلّي جميع أقسام التوحيد في وجوده ويرتوي قلبه وعقله من معارف التوحيد وحقيقته، فأدب التشهد هو أنّ المصلّي عندما يرفع رأسه من السجود ويجلس للتشهد يجب أن يستشعر حالة من الخوف والقلق تهيمن على وجوده، لأنّك الآن صليت عدة ركعات وتحدّثت مع الله‌ تعالى ودعوته فلا ينبغي أن تكون هذه الأعمال والكلمات غير مقبولة عند الله‌ تعالى، يجب أن يجلس المصلّي للتشهد بحالة من الخوف والحياء والقلق ولا يعتبر ما أتى به من العبادة لله‌ تعالى شيئا مهمّا في مقابل عظمة الباري تعالى وألطافه وعنايته.

ونعود هنا إلى أصل وأساس الدين وهو كلمة التوحيد: «أشهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ»، يعني أنّ هذا القيام والركوع والسجود لا قيمة له في مجال عبادة الذات المقدّسة، ونعود إلى كلمة التوحيد والتي يقول عنها الباري تعالى: «كَلِمَةُ لا إِلَهَ إِلا

الله‌ حِصنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصنِي أَمِنَ مِنْ عَداِبي»[1]، فيجب على الناس في مسار العبادة والعبوديّة الدخول في هذا الحصن الإلهي لنكون في أمن من العذاب الإلهي، يجب علينا الشهادة بوحدانيّة الله‌ تعالى والشهادة بنبوّة وعبوديّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهلأنّ جميع أمور الوجود تعود إلى هاتين الشهادتين، أحدهما الشهادة بالتوحيد، والأخرى الشهادة بنبوّة ورسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله.

يقول المرحوم الشهيد الثاني رحمه‌الله فيما يتّصل بهاتين الشهادتين: «فإنّهما أوّل الوسائل وأساس الفواضل»[2].

إذا أراد الإنسان أن يفتح باب الحوار والارتباط مع الله‌ تعالى ويجعل نفسه في حصن وحرز الباري تعالى وجب عليه القيام بأمرين: أحدهما، الاعتقاد والتصديق القلبي بالتوحيد، والآخر، الاعتقاد بنبوّة نبيّ الإسلام ورسالته، أمّا ما ورد في الأذكار بأنّه لا يوجد ذكر أهم من ذكر «لا إله إلاّ الله» فهذا يعكس هذه الحقيقة أيضا، فأفضل شيء في مجال العلاقة بين الإنسان وربّه هو أن يجعل الإنسان نفسه في مرتبة التوحيد، ثمّ يتوجّه إلى أحبّ الخلق إلى الله‌ ويؤدّي شهادته بعبوديّة ونبوّة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله إلى جانب كلمة التوحيد، يعني أننا نعترف ونعلم بأنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله هو عبد من عبيد الله‌ ورسوله إلى الخلق، رغم أنّ الشهادة بالنبوّة وردت إلى جانب الشهادة بالتوحيد.

وسبق أن ذكرنا أنّ الشهادة بالرسالة والنبوّة تقع في باطن الشهادة بالتوحيد، كما أنّ الشهادة بالتوحيد تكمن في باطن الشهادة بالرسالة والنبوّة، وكذلك فإنّ الشهادة بالولاية كامنة في باطن الشهادة بالتوحيد والنبوّة، وهذه الخصوصيّة موجودة في التشهد.


1. بحار الأنوار، ج 3، ص 13؛ و ج 90، ص 192.

2. التنبيهات العليّة على وظائف الصّلاة القلبيّة، ص 127.

وعلى هذا الأساس يجب على المصلّي الالتفات إلى أسرار وآداب التشهد، ويهتمّ بمراعاة هذه الآداب لتحظى صلاته بالقبول من قِبل الباري تعالى، ولئلا تذهب أعماله من القيام والركوع والسجود هباءً منثورا، ولذلك ينبغي عليه أن يجلس للتشهد بحالة من الخجل والحياء لأنّه لم يتمكن من أداء هذه العبادة وهذه الصّلاة حقّها ولم يقدّم لله‌ تعالى عملاً جيدا وقيم، والآن يريد أن يشهد بالتوحيد ويشهد بنبوّة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌و‌آلهلجبران هذا القصور والتقصير ولتنفتح عليه أبواب الرحمة الإلهيّة.


الفصل العاشر: الـسّــلام



166ـ حقيقة التسليم


بسم الله الرحمن الرحيم

وآخر قسم من البحث في أسرار الصّلاة، يتمحور حول التسليم في الصّلاة، ولذلك نبيّن هذا القسم بشكل موجز، فالتسليم يعني نهاية هذا السفر المعنوي والمعراج الإلهي، فالنقطة المهمّة هنا هي أنّ المصلّي يستطيع أن يذكر سلام الصّلاة على نحو الحقيقة عندما يشعر واقعا بأنّه غاب عن عالم الدنيا وعالم الكثرات ويعيش في عالم الآخر عندما كان في صلاته ثمّ رجع إلى هذا العالم مرّة أخرى بالتسليم، ولكن ذلك الشخص الذي كان في صلاته يعيش أجواء الدنيا ويفكّر في مطلباتها، أي أنّه لم يكن غائبا عن هذا العالم المادي ولم يسافر في صلاته نحو الله‌ تعالى في معراج القرب، فإنّ هذا التسليم لا يساوي شيئا في عالم الحقيقة والمعنى سوى لقلقة اللسان، لأنّ الخروج من الدنيا والعروج إلى عالم الملكوت لم يتحقّق لدى هذا الشخص ليكون لسلامه في نهاية الصّلاة معنى وحقيقة.

والمصلّي إذا كان في هذا السفر في سلامة من تصرفات الشيطان وتسويلات

النفس الأمارة وكان قلبه في هذا المعراج المعنوي سليما وغير ملوث بشوائب الأنانيّة وحبّ الدنيا فإنّ تسليمه يكون ذا حقيقة ومعنى وإلاّ لا سلام له[1].

وجاء في كتاب «مصباح الشريعة» رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام بالنسبة لمعنى السلام في نهاية الصّلاة، فقال الإمام عليه‌السلام: إنّ معنى السلام في ختام كلّ صلاة عبارة عن الأمان: «مِنْ أدّى أَمرَ الله‌ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله خَالِصا للهِ خَاشِعا فِيهِ فَلَهُ الأَمَان مِنْ بَلاءِ الدُّنيا وَبَراءَةٌ مِنْ عَذابِ الآخِرَةِ».

ويتابع الإمام بقول: «السَلامٌ اسْمٌ مِنْ أَسمَاءِ الله‌ تَعَالى أَودَعَهُ خَلقَهُ، لِيسَتَعْمِلُوا مَعنَاهُ فِي المُعَامَلاتِ وَالأَمَانَاتِ وَالإِنصَافَاتِ وَتَصدِيقُ مُصَاحَبَتِهِم فِيمَا بَينَهُم وَصِحَّةُ مُعَاشَرَتِهِم»، فلو أنّ الإنسان في جميع أموره وجميع معاملاته وتواصله مع الآخرين استند واستعمل اسم الله‌ تبارك وتعالى واقعا فإنّه سيكون مصحوبا بالسلامة والأمن من كلّ أمر وفي كلّ فعل من أفعاله ولا يستطيع الشيطان أن يتدخل ويلوّث أعماله وسلوكياته بشوائب غير إلهيّة، هذه الحقيقة مركوزة في التسليم في الصّلاة.

ثمّ يقول عليه‌السلام: «وَإِذا أَرَدْتَ أَنْ تَضَعَ السَّلامَ مَوضِعَهُ، فَاتَّقِ الله‌ وَلَيُسلَمْ مِنْكَ دِينَكَ وَقَلْبَكَ وَعَقلَكَ، وَلا تُدَنِّسَها بِظُلمَةِ المَعاصِي»، وهذا يعني أنّ التقوى الإلهيّة شرط ليتحقّق السلام في نفس الإنسان على نحو الحقيقة ويسلم بوسيلة التقوى دين الإنسان وقلبه وعقله بشرط أن لا يتلوّث بظلمة المعاصي ولوث الذنوب.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: إذا أردت أن تدرك المعنى الواقعي للسلام فيجب عليك أن تحقّق في نفسك حالة التقوى، وهذا يعني أنّ الشخص الذي لا يعيش حالة التقوى، ويتلفظ بالسلام، الذي هو اسم من أسماء الله‌، سواءً في صلاته أو في غير صلاته، فهذا السلام لم يقع موقعه المناسب، ويجب أن يتحلّى الإنسان في


1. اُنظر: آداب الصّلاة، ص 367.

دينه وقلبه وعقله بالسلامة ويراقب دينه وقلبه وعقله لئلا تتلوّث بشوائب الذنوب، وعندها يتحقّق السلام الحقيقي، ثمّ يقول عليه‌السلام: ينبغي أن تكون الملائكة الحفظة في أمانٍ منك، فالملائكة الموكّلون بالإنسان لمراقبة أعماله وأفعاله وكلماته، سيشعرون بالألم والاستياء عندما يصدر عمل قبيح من هذا الشخص.

وثمّة نقاط مهمّة في سياق هذه الرواية مورد البحث، حيث يقول الإمام الصادق عليه‌السلام: أنّ معنى السلام هو أن يكون صديقك في أمان منك وكذلك عدوّك.

«وَمَنْ لا يَضَعُ السَّلامَ مَوَاضِعَهُ هَذهِ فَلا سَلامَ وَلا تَسلِيمَ وَكَانَ كَاذِبا فِي سَلامِهِ وإِنْ أَفشَاهُ فِي الخَلْقِ»[1]، فلو أنّ دينه ونفسه وعقله لم يكن في أمان منه ولم يكن أصدقاؤه وأرحامه وأهله في أمان منه وحتى لو سلّم عليهم فإنّ السلام هذا لا واقعيّة له ويعتبر سلاما كاذبا.

نسأل الله‌ تعالى أن يوفّقنا للإتيان بالصّلاة الحقيقيّة ونستطيع أن نحقق هذا الاسم من أسماء الله‌ الحسنى في جميع أبعاد حياتنا ومعيشتنا، وظاهرنا وباطننا بحقّ محمّد وآله الطاهرين صلوات الله‌ عليهم أجمعين.


1. بحار الأنوار،، ج 82، ص 307.

أسرار الصلاة

المقدّمة

الفصل الأوّل: أمور عامّة حول أسرار الصّلاة

1ـ ضرورة التعرّف على أسرار الصّلاة

2ـ أدّلة وجود أسرار الصّلاة

3ـ أهميّة إدراك باطن الصّلاة

4ـ موارد اختلاف باطن الأعمال

5ـ الصّلاة طريق الوصول إلى الحقائق

6،7ـ الصّلاة جامعة لأسرار جميع العبادات

8ـ الصّلاة معيار الإيمان والتوحيد

9ـ الصّلاة سير وسلوك نحو الحقّ

10ـ الصّلاة، طريق الوصول إلى اليقين

الفصل الثاني: حضور القلب في الصّلاة

11ـ المقصود من القلب في مقولة «حضور القلب»

12ـ المقصود من القلب في الروايات

13ـ الذنب، سبب لظلمة القلب

14ـ آثار توجّه القلب وإقباله إلى الله

15ـ مراتب حضور القلب

16ـ خشوع وحضور القلب في الصّلاة

17ـ موانع حضور القلب

18ـ ‌لزوم حضور القلب والخشوع

19ـ كيفيّة تحقيق اللذّة من الصّلاة

20ـ الله‌ يتعهّد بالصّلاة، بإدخال المصلّي إلى الجنّة

21ـ حقيقة الصّلاة تتجلّى في الركعة الاُولى

22ـ مراتب حضور القلب

23ـ الحضور الإجمالي: والاشتغال بحمد الله‌ وثنائه

24ـ الالتفات إلى قبول الصّلاة

25ـ المرتبة الاُولى من الحضور التفصيلي فهم معاني الكلمات

26ـ المرتبة الثّانية من الحضور التفصيلي: الفهم العقلي والبرهاني للكلمات

27ـ المرتبة الثّالثة من الحضور التفصيلي: التصديق القلبي

28ـ المرتبة الرابعة من الحضور التفصيلي: شهود حقائق الألفاظ

29ـ المرتبة الخامسة من الحضور التفصيلي: الفناء في الحقّ تعالى

30ـ أسباب حضور القلب

31ـ طريق التوجّه إلى عظمة الباري تعالى

32ـ رفع الموانع الخارجيّة لحضور القلب

32ـ رفع الموانع الخارجيّة لحضور القلب

34ـ حبّ الدنيا، أساس الخواطر القلبيّة والأفكار المتناثرة

35ـ حبّ الدنيا أكبر مانع لحضور القلب

36ـ الدُّنيا المذمومة

37ـ أصل جميع الفتن وعدم التوجّه إلى الله‌ في الصّلاة حـبّ الـدني

38ـ بغض الدنيا أفضل الأعمال

39ـ لزوم الاستمداد من الله‌ لحضور القلب

40ـ سرّ توجّه القلب للاُمور الدنيويّة

الفصل الثالث: أسرار مقدّمات وشروط الصّلاة

الباب الأوّل: أسرار الطّهارة

41ـ مراتب الطّـهارة

42ـ طهارة الظّاهر وطهارة الباطن

43ـ أسرار الوضوء

44ـ سرّ الطّهارة بالماء

45ـ الماء الرحمة المطلقة للوجود

46ـ الاستلهام من الماء في الحياة

47ـ الإخلاص والصفاء في التوجّه إلى الله

48ـ سرّ غسل الوجه واليدين في الوضوء

49ـ أقسام الوضوء في نظر العرفاء

50ـ تأثير الدعاء والذكر عند الوضوء

51ـ أسرار الوضوء في حديث المعراج

52ـ وضوء أهل الحقيقة (طهارة السرّ)

53ـ أذكار أميرالمؤمنين عليه‌السلام عند الوضوء

54ـ باطن الوضوء: تبديل قطرات ماء الوضوء إلى ملائكة

55ـ آثار وفوائد الوضوء

الباب الثاني: أسـرار سـتر العـورة

56ـ أسرار ستر العورة في الصّلاة

57ـ الصورة الإنسانيّة، ستر لحقيقة الأعمال الحيوانيّة للبشر

58ـ ستر العيوب والعورات الباطنيّة

الباب الثالث: أسرار وقت الصّلاة

59ـ سرّ تعيين الوقت للصّلاة

60ـ حالة المصلّي عند حلول وقت الصّلاة

61ـ الأيّام لها حقيقة مستقلّة

62ـ نداء الأذان تذكير بالقيامة

خلاصة من أسرار وقت الصّلاة

63ـ تعيين أوقات الصّلاة في القرآن

64ـ أهميّة صلاة الصّبح

65ـ صلاة الصّبح مشهودة ملائكة اللّيل والنّهار

66ـ لزوم الاهتمام بأداء صلاة الصّبح في وقته

67ـ سرّ أوقات الصّلاة في جواب النّبي صلى‌الله‌عليه‌و‌آله للعالم اليهودي

68ـ سرّ تعيين وقت صلاة العصر

69ـ سرّ تعيين وقت صلاة المغرب والعشاء

70ـ عقوبة عدم الاهتمام بوقت الصّلاة

الباب الرابع: سرّ استقبال القبلة التوجّه إليها في الصّلاة

71ـ لزوم التوجّه إلى الكعبة

72ـ سرّ أهميّة الكعبة وجعلها القبلة للمسلمين

73ـ القبلة والأمن المعنوي

74ـ تناسب الظاهر والباطن في التوجّه إلى الله

75ـ الصورة الباطنيّة لعدم التوجّه إلى الله‌ في الصّلاة

76ـ خصوصيّات الكعبة

خلاصة أسرار القبلة

الباب الخامس: أسرار الأذان والإقامة

77ـ أسرار الأذان والإقامة

78ـ الأذان: دعوة جميع قوى الملك والملكوت للحضور

79ـ سرّ التكبيرات الأربع والشهادة بوحدانيّة الله‌ في الأذان

80ـ ثواب الأذان

81ـ سرّ الشهادة بالرسالة والولاية في الأذان

82ـ الصّلاة أفضل الأعمال وأصل الفلاح

83ـ الأذان يبعد الشّيطان

84ـ الأذان حكاية أذكار الملائكة في المعراج

85ـ سرّ التكبيرات الأربعة في الأذان

86ـ سرّ التكبيرات الأربعة في كلام الإمام الخميني قدس‌سره

87ـ التكرار يوجب التصديق القلبي

88ـ أسرار الشهادة بالتوحيد
المرتبة الاُولى والثانية: الشهادة اللفظيّة والعمليّة

89ـ أسرار الشهادة بالتوحيد
المرتبة الثالثة والرابعة: الشهادة القلبيّة والذاتيّة

90ـ سرّ الشهادة برسالة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌و‌آله في الأذان والإقامة

91ـ سرّ الشهادة بولاية أميرالمؤمنين عليه‌السلام

92ـ دور الولاية في قبول الأعمال

93ـ الشهادة بالنبوّة والولاية، هي روح العبادة

94ـ احضار قوى الملك والملكوت

95ـ سرّ تكرار حيّ على الصّلاة

الفصل الرابع: سرّ القيام في الصّلاة

96ـ القيام مظهر التوحيد وقيّوميّة الحقّ

97ـ آداب الـقيـام

98ـ حقوق الصّلاة في كلام الإمام زين العابدين عليه‌السلام

99 ، 100ـ حدود الصّلاة في حديث رزّام

101ـ حدود وخصوصيّات الصّلاة في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام

102ـ علّة خوف وخشية الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام

103ـ الإمام زين العابدين عليه‌السلام قدوة العابدين

104ـ الغرض الإلهي من فرض الصّلاة على العباد؟
العبادات، تجسيد التوحيد في ملك البدن

الفصل الخامس: أســرار الـنيـّة

105ـ النيّة هي العزم على أداء الفعل

106ـ الإخلاص وقصد القربة

107ـ الإخلاص، أن يكون العمل قابلاً للعرض على الله

108ـ الإخلاص، مصداق الهجرة نحو الحقّ

109ـ الإخلاص، مانع من تسلط الشيطان

110ـ آثار الإخلاص

111ـ مراتب الإخلاص

112ـ مراتب الإخلاص
المرتبة الثالثة: أن لا يقصد الأجر والثواب

113ـ المراتب العالية للإخلاص

114ـ طريق الخلاص من العجب والغرور
أن يعتقد الإنسان بأنّه مقصّر دائما في مقابل الله

الفصل السادس: أسرار القراءة وآدابه

115ـ فضيلة قراءة القرآن في الصّلاة وغير الصّلاة

116ـ قيمة قراءة القرآن وأهميّته

117ـ فضيلة قراءة سورة التوحيد

118ـ آداب قراءة القرآن؛ الالتفات إلى عظمة هذا الكتاب الإلهي والالتفات إلى أم الكتاب

119ـ وجوه عظمة القرآن

120ـ عظمة مضامين ومحتويات القرآن

121ـ رعاية حقّ تلاوة القرآن

122ـ التأثير المضاعف لقراءة القرآن في الصّلاة

123ـ تعظيم القرآن، هو التوجّه إلى مضامينه

124ـ القرآن كتاب تعليم وتربية

125ـ آداب التلاوة(1)

126ـ آداب التلاوة(2)

127ـ آداب التلاوة(3)

128ـ آداب التلاوة(4)

129ـ آداب التلاوة(5)

130ـ تفاوت القرآن مع سائر الكتب

131ـ آداب القراءة: التعظيم ـ التفكّر

132ـ آداب القراءة: التخصيص

133ـ آداب القراءة: الترقّي

134 ، 135ـ سورة الحمد في الحديث القدسي

136ـ حقيقة الذكر في الروايات

137ـ بسم الله‌ الرحمن الرحيم ذكر الله

138ـ معنى الله‌ في كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام

139ـ مضافا إلى الصّلاة؛ كلّ عبادة تنقسم بين الله‌ وعبده

140ـ الاستعاذة، آدابها وأركانه

141ـ الاستعاذة، غلق طريق نفوذ الشيطان

142ـ الاستعاذة طريق النجاة من الوسوسة

143ـ الاستعاذة: اللجوء إلى الله‌ من الذنوب والانحرفات الفكريّه‌والعقديّة

144ـ الاستعاذة، الورود في حصن الله‌ والأمن من عذابه

145ـ القيام، إعلان الاستعداد للدفاع عن الحقّ والتصدي للشياطين

الفصل السابع: آداب الركوع وأسراره

146ـ آداب الركوع وأسراره

147ـ آثار الركوع، التزين بنور البهاء، الاستظلال تحت مظلّة كبرياء الله‌ ارتداء لباس الخاصّيين

148ـ الركوع أدب، والسجود قرب إلى الله‌ تعالى

149ـ الركوع، إظهار العجز والخضوع في مقابل الله

150ـ كـيفيـّة الـركـوع: حالة الذلة والخضوع، عدم التسرع والعجلة الوقار والسكينة في القيام

151ـ آثار طول الركوع وذكره

152ـ معنى الركوع في كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام

153ـ حديث المعراج والتوجّه لعظمة الحقّ في الركوع

154ـ حُسن الركوع الصحيح يزيل وحشة القبر

155ـ سرّ الانحناء واستقامة الرقبة في الركوع

156ـ درك عظمة الله، يستجلب الخضوع

الفصل الثامن: أســرار الـسجـود

157ـ أسرار وآداب السجود

158ـ أهمّيّة السجود

159ـ سرّ السجود على التراب

160ـ حقيقة السجود في كلام الإمام الصادق عليه‌السلام

161ـ علّة تكرار السجود

162ـ تأكيد الأئمّة عليهم‌السلام على إطالة السجود

الفصل التاسع: أســرار التّشـهـد

163ـ سرّ الشهادة بالتوحيد والنبوّة في بداية الصّلاة ونهايته

164ـ حقيقة التشهد

165ـ أدب التـشهـد

الفصل العاشر: الـسّــلام

166ـ حقيقة التسليم